ترجمة لكلاسيكيات الهايكو في القاهرة: صوت الماء يحمل الرطوبة!
أسامة عرابي
يقدم لنا السفر الضخم الذي حمل اسم ‘كلاسيكيات الهايكو’ في مجلده الأول الذي صدر موسوماً بعنوان ‘الربيع / الصيف’ من تأليف :R. H .BLYTH الباحث الإنكليزي الحاصل على الدكتوراة الفخرية من جامعة طوكيو ووسام الاستحقاق المسمى ORDER OF MERIT ؛ تقديراً لما قام به من تواصل وتقريب بين الثقافتيْن الغربية واليابانية ..
ترجمة وتقديم: الشاعر الرائد والكاتب الكبير المرحوم بدر الديب، عن المجلس الأعلى للثقافة، درساً ضافياً في كيفية قراءة النصوص وتناولها ؛ بما يسهم في إرساء حوار فاعل بين فضاء التجربة الشعرية ووعدها المأمول، عبر مراوحتها الخلاقة بين ‘باثوس’ الدهشة- و’أرخيه’ مبدأ الفلسفة بلغة أفلاطون في محاورة ‘تييتانوس’ .. وفي تعالق مع الفن التشكيلي بما يحدثه من نقلة نوعية في الوعي والحساسية، أو تغير في المنحى والتوجه الرؤيوييْن .. بين تاريخية النص وطموحه إلى تأسيس حقيقته المفتوحة على جهاتها الأربع .
وهو ما يقودنا إلى إدراك ما بين الفن والفلسفة وعلم الجمال وتاريخ الفن من علائق وروابط ..الأمر الذي دعا الفيلسوف الألماني ‘فريدريك نيتشه’ إلى القول بأن البحث عن طرائق جديدة للتعبير الفلسفي يتعين أن يتواصل في تواشج مع تطور بعض الفنون الأخرى مثل المسرح والسينما … ألم يرَ الفيلسوف الفرنسي ‘جيل دولوز’ أن تاريخ الفلسفة شبيه بفن البورتريه في الرسم، وأنه لا يستطيع أن يتعامل معها إلا بوصفها بورتريهات ذهنية.. مفهومية ؟ ولعل هذا ما حرص ‘بدر الديب’ على تأكيد فحواه حين أشار إلى أن ‘ التعريف والمعرفة بشعر الهايكو لا يتم إلا بتجربة شخصية يقدم بها القارئ نفسه إلى مجموعة الأشعار التي أوردناها بترجمة هذا الكتاب .. وقد بلغت القطع المترجمة 570 قطعة التزمنا فيها بنفس ترتيب القطع الشعرية الذي اختاره جامع الكتاب R.H.BLYTH، وقد أضفنا إلى الترجمة بعض الشروح والتعليقات التي أوردها الجامع’ .. غير أن التجربة المنشودة هنا ‘تجربة فريدة في إحياء المنظر’، و’المنظر الذي يتحدث عنه الهايكو قد يكون زهرة أو نهراً أو مجرى ماء أو طائراً أو إنساناً في حالة عطاس أو نوم أو ضفدعة أو حركة ثعبان أو صوت بومة، ولكنه دائماً منظر عيني مجرد أمام العين والروح .. وهو ما ندعوه في الفن التشكيلي ب’الطبيعة الصامتة’. بيْد أن جامع الكتاب لا يني يشير إلى عدد من المؤثرات التي تفعل فعلها في شعر الهايكو يحددها في ما يلي:
– الفلسفة الكونفوشية بقدرتها على الإيجاز والحكمة. الفن المشرقي في استخدامه الصور وإثرائه الكلمات بالصور . الواكا: وهي التي تكوِّن معظم مجموعة المانيوشو .. أما قصائد ال nagauta فهي قصائد مطولة، وتمثل أثر الشعر الصيني في الهايكو . _ الرنكو: وهي إشارة إلى عدد المقاطع الموجودة في قطعة الهايكو وهي 17 مقطعاً يمكن أن تقسم إلى ثلاثة أجزاء على النحو التالي: 5- 7- 5.. فضلاً عن أثر فن ترتيب الزهور وفن تقديم الشاي في شعر الهايكو.. جنباً إلى جنب مع طريقة الزن التي تعد الحال الذهنية للهايكو بتعبير بدر الديب. والزن كما يحدده ‘إريك فروم’ المحلل النفسي وعالم الاجتماع من أصل ألماني في كتابه ‘فرويد وبوذا’ ينهض على محاضرات ‘د.سوزوكي’ المعروفة باسم ‘دراسات في الزن’، وفيها يرى أنه ‘فن تبصر المرء بطبيعة كينونته، مشيراً إلى السبيل من العبودية إلى الحرية .. ويمكن القول إن زن يحرِّر كل الطاقات المخزونة بصورة طبيعية في داخل كل منا، والتي تكون في الأحوال العادية محبوسة ومشوهة فلا تجد قناة كافية لنشاطها. وهكذا فإن غاية زن أن ينقذنا من الجنون أو من العجز والقعود .. أما ما أعنيه بالحرية، فهو إفساح المجال أمام كل الدوافع الخلاقة الكامنة أصلاً في قلوبنا بحيث يمكن لها أن تتحرك حرة . فنحن بصورة عامة عُمي تجاه هذه الحقيقة؛ حقيقة أن بحوزتنا كل المقدرات الضرورية لجعلنا سعداء يحب واحدنا الآخر’. وذلك من أجل الوصول إلى تجربة الاستنارة التي تسمى ‘ساتوري’. وهو ما أفاد منه على ما يبدو جامع الكتاب، حين أشار إلى ثلاث عشرة نقطة رئيسة في هذا الإطار أوجزها على النحو التالي: 1- نفي الذات. 2- الوحدة. 3- نُعمى التقبل. 4- الاستغناء عن الكلمات. 5- تجنب العقلية. 6- إحياء التناقض. 7- روح الفكاهة. 8- الحرية. 9- عدم التعلق بالقيمة الخلقية. 10- البساطة. 11- المادية. 12- الحب. 13- الشجاعة. وهنا يتفق ‘بلايث’ في ظني واعتقادي مع ما ذهب إليه ‘ك.غ. يونغ’ من أن زن ليس أصعب على الأوربي من هيراقليطس، أو السيد إيكهارت، أو هيدجر .. وإنما تكمن الصعوبة بتعبير فروم في ذلك الجهد المضني الذي يتعين بذله للتوصل إلى الساتوري .. هذا الجهد الذي يفوق كثيراً ما يرغب معظم الناس في بذله، وذلك هو السبب في أن ‘تجربة الساتوري’ نادرة حتى في اليابان . وهنا يشير المترجم إلى العلاقة التي توجد بين renga’الصيغة الشعرية التي تطور عنها الهايكو ‘ والهايكو الآن . إذ إن الكثير من شعراء هذه الصيغة كانوا رهباناً، ومنهم نفر من متبعي طريقة الزن، ولاسيما muso koku shi (1271- 1346) مؤسس معبد tenvyuji الذي أصبح المقر الرئيس لشعبة rinzai لطريقة الزن .. والآخرون كانوا تلامذة ikkyu (1394- 1481)، وكان من بينهم sokan ( 1458- 1546) الذي كان واحداً من أكبر شعراء الهايكو، وsoin (1654- 1682) مؤسس مدرسة danvin لشعر الهايكو، وكان دارساً أيضاً للبوذية، وتلقى التدشين بخلق الشعر من houn zeiji من معبد fukushuji وعمره 46 عاماً ..وقيل إن owtsura المعاصر الكبير ‘لباشو’ قد ألَّف القطعة التالية إجابة عن سؤال من أحد أساتذة الزن ‘kudo’ حول مقصده من مقطوعة من الهايكو: ‘في الحديقة / أزهرت بيضاء / شجرة الكاميليا’. وليس من السهل تبيان العلاقة بين التاوية وطريقة الزن، فقد يكونان ظهرا معاً في الذهن الصيني، لكن المهم بالنسبة إلى الهايكو من وجهة نظر بدر الديب- هي تلك الأفكار ومحاولات الروح التي نقلت إلى اليابانيين من المتصوفة القدامى .. وقد تجنب شعراء الهايكو اليابانيون معالجة موضوعات تمجيد الحياة ؛ فلقد كانت هناك شلالات كثيرة في اليابان . كما اختلفت الطرائق التي استخدم بها شعراء الهايكو الشعر الصيني . غير أن هذا المجلد انطوى في فهرسته على ضرب من ‘الترتيب الفصلي’ الذي يسمح للقارئ بالعثور على أي قطعة شعرية يتذكر موضوعها، وإن كان هناك من القطع ما يدخل موضوعه في فصليْن، وبعضها الآخر لا يتضمن إشارة إلى أي فصل من فصول السنة وهذا من الندرة بمكان . وأرجع ‘بلايث’ ما دعاه ب’الإصرار على التقسيم الفصلي’ إلى أسباب عدة منها: إيجاز شعر الهايكو أو المناخ الياباني أو أثر قصيدة الواكا ( وهي قصيدة يابانية تتعاقب فيها الأبيات من خمسة مقاطع ثم سبعة مقاطع، وتنتهي بأبيات من سبعة مقاطع) أو قصيدة الهوكو التي كانت بداية سلسلة من الأشعار ارتبطت بالفصل .. أو مجموعة الأشعار اليابانية التي جمعت في القرن الثامن الميلادي بعنوان ‘مانيوشو’، والمعروفة أيضاً بمجموعة عشرة الآلاف ورقة، وفيها نجد محبة اليابانيين نفسها للطبيعة منتشرة ومتعمقة .. وهنا يؤكد ‘بلايث’ أن ‘أشعار المانيوشو’ لم تكن مقسمة ببساطة إلى فصول السنة .. فالكتاب الأول منها مرتب ترتيباً زمنيّاً .. أما الكتاب الثاني فيحتوي على أشعار متفرقة ورسائل غرامية كل منها بعنوان فصل من فصول السنة. لكن الأستاذ بدر الديب يلح على حقيقة أساس مُفادها أن أثر البوذية الهندية الصينية اليابانية بشكل عام في حياة الشعب الياباني وفكره، ومن ثم في الهايكو، يمكن أن يعالج تحت عنوانيْن: أولاً: أفكار شعبية. ثانياً: أفكار فلسفية.
أولاً: الأفكار الشعبية: حيث نرى لدى الشاعريْن ‘باشو’ و’إسا’ الحياة مزيجاً مركباً من الحزن والعذاب. أما الشاعران ‘بوسون’ و’شيكي’ فإنهما في موضوعيتيْهما يشعران بعمق دلالة الأشياء أكثر من وعيهما بتلاشيها . كما أن الإيمان بتعدد الآلهة عند اليابانيين كان له أثره الكبير في مزاجهم الشعري مثل نظرائهم اليونانيين.
ثانياً: الأفكار الفلسفية: فما تقول به تعاليم الماهايانا من المساواة بين الظاهرة والشيء في ذاته، ليقدمُ إلى الذهن المشرقي الالتحام الغريب بين ما هو روحي وما هو عملي، مما يعد أكثر الأشياء المتميزة التي يختص بها الفن الصيني وشعر الهايكو الياباني. إنها هذا العالم، وليست هذا العالم في الآن عينه. فهي لا تشير إلى عالم آخر غير هذا العالم كشيء مطلق، فكأنها هي هذه الحياة تُرى لأول مرة كما هي، مجرد مسرح لبوذا. أما شعراء الهايكو الأربعة الكبار، فهم بحسب رؤية جامع الكتاب: باشو .. إسا .. بوسون .. شيكي . باشو: هو رجل الدين الذي رأى أن الحياة ليست عميقة ولا متصلة بالقدر الكافي، ويريد أن يعطي كل لحظة القيمة المتضمنة فيها ؛ فتكون حياتنا البسيطة هي أعظم حياة، ويتبدى له الرب كما يتبدى في ذهن الشاعر . بوسون: هو الفنان الذي يعالج العينيات كما توجد في ذاتها ولذاتها . إسا: هو القائل بالإنسانية حيث يرى أن على الإنسان الملاك الضعيف الذي يحاول مثل الحيوانات والطيور التي تسعى إلى البقاء حية أن يُبقي رأسه مرفوعاً فوق الماء. شيكي: محب للطبيعة والمنظر الصامت، ويتجنب كل العناصر العقلية في الشعر. وقد يكون ضعفه وقوته معاً في غيبة شعوره الديني . وعلى هذا النحو، يمسي بمقدورنا أن نتبين الملامح الأصيلة لشعر الهايكو كما سلفت الإشارة إليها، عبر مقطوعاته المكثفة التي توجز لنا الحياة، كما توجز قطرة الماء البحر، وتلخص الصدفة الطبيعة . ‘أضواء الليل أطفئت / وصوت الماء / يحمل الرطوبة’. ‘في المطر / كان دخان البعوض الذي نشره صائد الغاق، يحترق’. ‘كانت محاكاة الطفل / الذي رسم الغاق / أجمل من طائر الغاق نفسه’. ‘بعد الضغط على السمك المملح / بعد قليل / أصاب المرءَ شعورٌ بالوحدة’. وهنا يعلق بدر الديب تعليقاً يشي بماهية هذا الشعر قائلاً: ‘في هذه القطعة، يتضح لنا كيف يختار شاعر الهايكو موضوعاته، وكيف يشعر بها ..فمن أين جاء هذا الإحساس بالوحدة في هذه القطعة؟ لقد جاء وكفى’. لذلك يحتاج هذا الضرب من الشعر إلى وعي بحقله الدلالي الذي تتضافر فيه الرؤى بالموقف الجمالي ..الأمر الذي دعا ‘بلايث’ إلى أن يقرر بحسم لا يدع مجالاً للمماحكة والتزيد أن ‘قراءة الهايكو أكثر إجهاداً من قراءة الشعر العادي، ولكني لا أعلم شيئاً أكثر قيمة منه .. إنه وحده الذي يستطيع أن يعطي معنى للحياة، ويبرر طريق الرب للإنسان’.. أما عن الجهد الفني الخارق الذي بذله مترجم هذا العمل الشاق المرحوم الأستاذ بدر الديب أحد رواد قصيدة النثر منذ الأربعينيات، فجدير حقيقة بالتجلة والتقدير ..ولعله أفاد من ثقافة أبيه التي حدت به إلى التخصص في النباتات، ولاسيما الزهور.. ‘فقرأ وامتلك تواريخ الحدائق في العالم وفي الحضارات القديمة حتى أصبح مديراً لحدائق القاهرة، وشارك في إنشاء الحديقة اليابانية والأندلسية والأسماك ورعايتها. ومنه تعلمت الكثير عن الزهور، وأهداني كتاباً وأنا صغير مازلت أعتز به عن لغة الزهور’ على حد تعبيره في شهادته التي كتبها عام 1992 بعنوان ‘جروح الروح’. كما أفاد من أستاذه د. محمود الخضيري أستاذ الفلسفة الإسلامية الذي علَّمه احترام النص وجعله قيمة أساساً لا يصح المساس بها قبل التمكن من أجزائها وضروراتها، سواء كان ذلك في الفلسفة أو في النقد أو في تحليل الأعمال الأدبية. ومن أستاذه د. يوسف مراد الذي وهبه لعنة الحيرة بين الفلسفة والفن واحترام نزوح روحه بينهما .. ومن إيمانه بوصفه دارساً للفلسفة الذي تخرج في قسمها بكلية الآداب عام 1946، بأن كل نظام أو مذهب فلسفي هو أساساً عمل فني .. وأن كل عمل فني إن لم يكن معتمداً أو مستنداً إلى الفلسفة، فإن وجوده يصبح هشّاً مشكوكاً فيه، وقيمته الفنية والمعرفية تصبح مهزوزة لا جدوى كثيرة منها؛ مما دفعه إلى الاتصال بالفيلسوف الفرنسي ‘إيتين سوريو’ صاحب الكتاب المهم ‘مستقبل علم الجمال’، والاتفاق معه على إنجاز مشروع للبحث عن جماليات القرآن الكريم .. فضلاً عن اقتناعه بأن الشعر فكر وتجربة. رحم الله ‘بدر الديب’ الذي أدرك مبكراً أن المسؤولية هي، في الواقع، فعل لا يكتمل، ولكنه ينشأ ليعذب الروح، وليملأها بهذا القلق الحي الذي هو دم الفن وروحه الحقيقية، ومحاولة نقله إلى القارئ ليثري به حياته، وليسطر به صفحات نفسه وروحه.
كاتب وناقد من مصر
القدس العربي