صبحي حديديصفحات سورية

ترشيح السيسي: ليت العواقب تقف عند هذا!/ صبحي حديدي

بين أطرف الأخبار التي اقترنت بترشيح المشير عبد الفتاح السيسي لرئاسة الجمهورية في مصر، هذا الخبر: جبريل الرجوب، نائب أمين سرّ اللجنة المركزية لحركة ‘فتح’، صرّح بأنّ حركته ‘ترحّب، وتؤكد أنّ هذا الرجل القيادي البارز سليل المؤسسة العسكرية التي شكلت ضماناً وطنياً لمصر قائد قادر على استعادة دور مصر وهيبتها’. ولكي يعدد سلسلة الأبعاد التي تكتنف قرار السيسي، أضاف الرجوب: ‘دور السيسي مع المؤسسة العسكرية المصرية يشكل ضماناً إقليمياً ووطنياً مصرياً وللعرب والمسلمين وللدولة والهوية الفلسطينية’؛ وهذا المرشح ‘سيقود مصر إلى شاطىء الأمان والاستقرار ولاستعادة مصر لدورها الإقليمي والدولي الذي نحن أحوج ما نكون إليه كفلسطينيين وخاصة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ أمتنا’.

‘الهوية الفلسطينية’، إذاً، وليس أقلّ؛ تماماً كما كان الفتحاوي الآخر، عباس زكي، قد تغزّل بأفضال النظام السوري على الهوية إياها: ‘دمشق عاصمة المقاومة والممانعة، دمشق العاصمة والدولة التي حافظت على هوية الفلسطيني وأعطته حقوق المواطنة كاملة بالوقت الذي أبقت فيه على هوية الفلسطيني كشاهد على جرائم الصهيونية التي احتلت الأرض وهجّرت الإنسان. دمشق لم تسقط خيار المقاومة يوماً. سوريا التي رفضت التخلي عن الفلسطيني في أدق مراحل تاريخه’. والأرجح أنّ الفتحاوييَن، الرجوب وزكي، امتلكا من طاقات التناسي والتطنيش مقداراً فائقاً أتاح لهما نسيان إجراءات القهر والتنكيل والتمييز التي فرضتها السلطات المصرية، في عهد السيسي وأجهزته، ضدّ المواطنين الفلسطينيين، ثمّ السوريين.

أمّا حكاية ‘الضمان’، الذي يتجاوز المصريين إلى العرب والمسلمين أجمعين، فإنّ الرجوب يفعل خيراً إذا ترك للشعوب ذاتها أن تلتمس طبائع ما ضمن السيسي في الماضي، منذ تموز (يوليو) الماضي، وهو يقبض على أعنة السلطة من الكواليس؛ وطبائع ما سيضمن في المستقبل، بوصفه ‘الرئيس المنتخب’: المشير الذي سوف يرتديّ الزيّ المدني فوق ذاك العسكري، سليل المؤسسة العسكرية المصرية، وخَلَف محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك وحسين طنطاوي… أمّا استعادة دور مصر الإقليمي فهذه، بدورها، حكاية أبعد بكثير، وأشدّ تعقيداً وإشكالية، من أن يخوض فيها الرجوب تحديداً؛ في هذه الأطوار المصرية الصعبة تحديداً: حيث الشارع الشعبي منقسم وقلق، والاقتصاد يضع البلد رهينة المساعدات، والإرهاب يستفيق وينتعش ويتغذى على موبقات السلطة ذاتها.

بمعزل عن طرائف كهذه، فإنّ ترشيح السيسي اليوم يعود بمصر، وبانتفاضة ميدان التحرير، القهقرى؛ إلى الأسابيع الأولى من عمر هذه الانتفاضة، حين طُرح التساؤل المشروع حول الخيار الختامي الذي سوف يستقرّ عليه الجيش المصري: أهو الوقوف مع الشعب، حقاً، ضدّ مؤسسة رئاسة ظلّت عسكرية منذ سنة 1952؛ أم الالتفاف على الشارع الشعبي، والمناورة حول زخم الاحتجاجات والتظاهرات العارمة، لتمرير خيارات أخرى بديلة، بينها قيادة ثورة مضادة تعيد إنتاج النظام ذاته، بعد تبديلات هنا وهناك في الوجوه، وتجميل هذه الصورة القبيحة أو تلك؟ وكما في الماضي، أواخر العام 2010، كذلك اليوم عشية ترشيح السيسي؛ تفرض سلسلة اعتبارات قديمة منطقها الجديد، أو المتجدد بالأحرى.

اعتبار أوّل، قديم ومتأصل، يفيد بأنّ المؤسسة العسكرية المصرية لا تنوي قطع حلقة الرئاسات العسكرية لمصر، وهي بالتالي غير راضية عن برنامج التوريث الذي انخرط فيه آل مبارك، بالتعاون مع حيتان النهب والفساد. ولعلّ هذه المؤسسة، التي تشرف أيضاً على جهاز المخابرات العامة، قد تنبهت ـ تحرّكها، ربما، تلك الحكمة العسكرية التي ترى في الدفاع خير وسائل الهجوم ـ إلى إمكانية استغلال حركة الشارع المصري، وإعادة فرض الجيش كرقم صعب (صار الأصعب عند مبارك، بعدئذ) في المعادلة السياسية الداخلية. والخطأ القاتل، الذي وقع فيه محمد مرسي، الرئيس الوحيد المدني في تاريخ مصر الحديث، هو اليقين بأنّ تحييد المؤسسة العسكرية (ممثّلة، يومذاك، بمجموعة الطنطاوي ورئيس الأركان سامي عنان) يمكن أن تتمّ بيسر وسهولة عبر ترقية ضابط مغمور، إسلامي الهوى كما لاح، يدعى السيسي.

وهذا الأخير، القادم من الصفوف الخلفية، تنبّه جيداً إلى أنّ الشرعية الحقوقية والدستورية التي امتلكها مرسي أخذت تتصادم، تدريجياً، ولكن على نحو منهجي منتظم، مع إرادة شعبية واسعة النطاق كانت ترقب خسوف الكثير من أهداف انتفاضة 25 كانون الثاني/يناير 2011. كذلك راقب السيسي، بعين ضابط الاستخبارات، أنّ زخم ميدان التحرير الديمقراطي والمطلبي والوطني انحسر إلى محض تجاذبات، أقرب إلى دائرة مفرغة، بين جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة المستفرِدة، وجماعات المعارضة المتشرذمة والعاجزة عن بلورة مشروع معارِض مضادّ ذي مصداقية كافية. وهكذا، بدت الإنجازات الديمقراطية (الانتخاب، والتصويت، والحرّيات السياسية والنقابية والإعلامية…) وكأنها السطح الساخن الظاهر، الذي يخفي غليان الأعماق كما جرى التعبير عنه في ثقافة ‘ملء الميادين’، على الطرفين في الواقع، ولكن بمعدّلات أعلى وأشدّ فاعلية في صفّ القوى الشعبية المناهضة لسياسات مرسي والإخوان.

الاعتبار الثاني هو أنّ الانهيار الدراماتيكي الذي أصاب قوى القمع التابعة لوزارة الداخلية (الأمن المركزي، ومباحث أمن الدولة، وجهاز الشرطة)، عشية إسقاط مبارك، وبعد تلك الواقعة الفاصلة مباشرة؛ يصعب أن يكون مصادفة محضة، أو نتيجة وحيدة لخطأ جسيم في حسابات حبيب العادلي، وزير الداخلية في حينه، بافتراض أنه كان صاحب القرار الأوحد في كلّ حال. وإذا تذكّر المرء أنّ أعداد أفراد هذه القوى كانت تتجاوز المليون، مقابل 450 ألف جندي هي عديد الجيش المصري، فإنّ معادلة نقل أمن النظام من وزارة الداخلية إلى المؤسسة العسكرية لم تكن بريئة تماماً. فالثابت أنه لم يسبق للجيش أن دخل القاهرة، أو انتشر في أحياء العاصمة على هذا النطاق، عدداً وتسليحاً، منذ توقيع اتفاقية كامب دافيد، في عهد أنور السادات. ومن المعروف أنّ الوحدات العسكرية لم تُبعد عن القاهرة ومحيطها القريب، فحسب؛ بل جرى عن سابق عمد نشر معسكراتها في مواقع نائية تماماً بالقياس إلى محيط القاهرة.

السيسي، معتمداً على محمد إبراهيم، رجله الأمين في الداخلية، لم يكتفِ بكسر هذا المحظور المتفق عليه، فقط؛ بل أعاد الاعتبار إلى سلطة الأمن، عبر فكرة حماية المصريين من ‘ترويع′ الإخوان، وأدخل الجيش إلى قلب القاهرة تحت أقنعة عديدة، شعبية وشعبوية، أبرزها التحكيم بين الحاكم والمحكوم، وضمان تطبيق ‘خريطة المستقبل’. من جانبه كان مرسي يتكىء على شرعية قانونية ودستورية، لكنها باتت تفتقر إلى الحدّ الأدنى من المصداقية الشعبية، بحيث صارت فاقدة للشرعية في المزاج الشعبي العريض، وارتدى إسقاطها أولوية على أيّ أعتبار آخر، وأياً كانت الوسائل. وتحت وطأة فوران شعبي عارم، كان طبيعياً أن ينقلب الجيش إلى منقذ، حتى عند القطاعات الشعبية ذاتها التي هتفت، قبل أشهر قليلة فقط، بسقوط ‘حكم العسكر’.

لافت، إلى هذا، أن تنزلق أطراف في المعارضة المصرية، على اختلاف أطيافها الإيديولوجية، ليس إلى تجميل صورة الجيش وإعادة إنتاجه كمنقذ للأمّة وضامن لحقوق الشعب، فقط؛ بل كذلك إلى امتداح ‘الداخلية’، وقوى الأمن والاستخبارات والشرطة! وهذا تطوّر أعاد طرح الاعتبار الثالث، أي ذاك الذي يخصّ محتوى التحالفات السوسيو ـ سياسية، لكي لا يذهب المرء أبعد في التنقيب عن حدود شرائحها الطبقية والعقائدية والثقافية، كما تكوّنت سريعاً في ميدان التحرير، ومواقع أخرى من أرض مصر، يوم الجمعة 28 كانون الثاني (يناير) 2011. والأمر، في هذا، لم يكن يقتصر على المحتوى والحدود، لأنه أيضاً شمل الهيكلية الفعلية التي أتاحت مستويات عالية في التنظيم على الأرض، وتناسقاً بنيوياً في التنشيط والتحريك، وتوحيداً في الشعارات (حتى إذا كانت قد تبدّلت بعدئذ، لاعتبارات يسهل إدراكها).

والحال أنّ فئات المعارضة المصرية التي أبهجها انقلاب العسكر على مرسي، وضدّ الإخوان عموماً، كانت قد ارتكبت خطأ جسيماً حين ظنّت أنّ قهر الرأي وقمع حرّية التعبير وحظر النشاط السياسي هي الوسائل المثلى لمحاربة الإخوان المسلمين. التجارب أثبتت سطحية هذا التقدير وخطورته، كما برهنت على أنه ينتج نقيضه في نهاية المطاف، أي إتاحة الفرصة أمام الجماعة لحيازة صفة الضحية المضطهَدة من الجميع، واكتساب شعبية إضافية من خلف القضبان والزنازين. وما دامت المعارضة مبعثرة ومجزأة وضعيفة، فما الذي يضمن اليوم أنّ الدورات الانتخابية القادمة لن تجلب تنويعات أخرى من الإسلام السياسي ذاته، وبالتالي لن تتكرر الحلقات الارتدادية إياها؟

ذلك لأنّ البديل واضح، وسبق أن اختُبر مراراً في أكثر من بلد عربي أو مسلم: إذا حُرم الإسلاميون من معترك صندوق الانتخاب، وتمّ إقصاؤهم بعيداً عن الانخراط في الحياة السياسية (على غرار ما فعل عسكر السيسي فور الإعلان عن الانقلاب)؛ فما الذي يتبقى لهم، سوى العودة إلى التطرّف والتشدد والتكفير، تحت الأرض غالباً، بدعوى أنهم ضحية الإقصاء على الأقلّ؛ وممارسة الإرهاب، بدعوى ‘الجهاد’ في المقام الأوّل؟ ألا توفّر لهم سلطات القمع ذاتها، ذريعة إثر أخرى، وسياقاً بعد آخر، في الذهاب إلى أقصى التطرّف؟ على سبيل المثال، هل كانت مصادفة عشوائية أن يعلن السيسي ترشيحه، بعد أيام قليلة أعقبت صدور حكم الإعدام الجماعي بحقّ 528 مواطناً مصرياً، دفعة واحدة؟ وهل مظاهر التأييد الهستيرية التي سبقت ترشيح السيسي، وتتواصل اليوم على نحو أفدح، دليل ديمقراطية أم استبداد؟ عافية أم اعتلال؟

المشير، في نهاية المطاف، لم يفاجىء أحداً حين أعلن ترشيحه للرئاسة، إذْ أنّ مطمحه هذا تجلى منذ ربع الساعة الأولى في عمر انقلابه العسكري، رغم سلسلة التأكيدات المضادة؛ وفي المقابل، كذّب الترشيح تقديرات ‘خبراء’ و’ثقاة’ كثيرين (على غرار محمد حسنين هيكل) جزموا بأنّ السيسي لن يرشّح، وأنّ مؤسسة الجيش سوف تنأى عن السياسة. ولا ريب في أنّ الاعتبارات السابقة، وإدارة مرحلة ما بعد مرسي على نحو يمزج القمع العاري بالشعبوية البارعة، فضلاً عن الدعم الخليجي السخيّ الذي كان يناهض الإخوان أكثر ممّا يساند عسكر مصر؛ كلها، وسواها، عوامل كفيلة بتوطيد شعبية السيسي، واكتساحه صناديق الاقتراع. أمّا القادم فيما بعد، أي السنوات الصعبة الآتية، الشاقة سياسياً واقتصادياً وأمنياً، فإنها ستكفل اهتراء هذه الشعبية، التي بدأت شعبوية أصلاً وأوّلاً. وليت العواقب تقف عند هذه، وحدها!

‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى