تركتي الثقيلة (إلى أمي)/ نجوى بركات
أذكر أني في أولى سنيّ مراهقتي، كنت أجمع نقودي من الدروس الخصوصية التي كنت أوفرها لمجموعة من التلاميذ، وأشتري بها كتبا. كنت أشتري أي شيء، كل شيء، وأقرأ… حتى تكونت لدي مكتبة “جميلة” وثرية، بمقاييسي المتواضعة آنذاك.
لكني عدت ذات يوم من مدرستي، وكنا لم نزل في الحرب، فوجدت أمي، وقد كدّست بين ساقيها عددا لا يستهان به من كتبي، وقد بدأت تلقيه في موقدة تسخين المياه. وما أن رأتني أقف في باب الحمام، مصعوقة، حتى استعجلتني ودعتني إلى مساعدتها. اجلبي ما تبقى، قالت، إنهم يدورون على البيوت منذ الصباح، وحيث يجدون ما يثبت انتماء أصحاب البيت إلى أحزاب شيوعية أو يسارية، يكون العقاب بالطرد إلى منطقة أخرى. كانت أمي التي لم تكن متعلمة فعلاً، أو التي تعلمت بما يسمح لها أن تقرأ وتكتب، قد اختارت معظم العناوين الماركسية واليسارية أو المتعلقة بالثورات وحركات التحرر، وراكمتها أمام الموقد.
وقفت إلى جانبها وبكيت بحرقة، ساعدني على بكائي فيلم “جوليا” الذي لم يكن قد مضى وقت طويل على مشاهدتي إياه، ذاك الذي من بطولة فانيسا ردغريف وجين فوندا، والذي يروي علاقة صديقتين أيام النازية، وملاحقة واضطهاد إحداهما وحرق كتبها. رأت أمي دموعي الغزيرة وصمتي، فقامت واعتذرت وأردفت: لا تحزني، أنت قرأتها كلها، لا؟ غداً تمر هذه الغيمة السوداء، فتشترين غيرها، وتكون لك مكتبة أكبر من هذه. استأنفت عملها، وقرفصت أنا بقربها أساعدها وأملّس على ظهرها، بما معناه: أن نكون معاً، أحياء وآمنين، لهو أهم من أي كتاب.
بعد سنوات قليلة، تركت بيروت، وسافرت إلى باريس للدراسة. حارت والدتي بكتبي التي عادت تملأ الحائط المقابل للحمّام، والتي ازدادت عما حُرق، وصارت تشكل نواة مكتبة حقيقية الآن. كانت تعرف ولعي بها وحرصي عليها، فكانت تهتم بها كأنها ما بقي لي، أو مني، في هذا البيت الذي أضيف إليه مواليد جدد بعد زواج أخي. لكن إقامتي هناك طالت أكثر من المتوقع، وأمي تعبت من التنبيه بضرورة عدم الغرف من مكتبتي، كيفما اتفق، لأنها لي وحدي وقد شقيتُ في جمعها. هكذا، وبعد مضي سنوات، كنت أجدها تتناقص، على الرغم من دفاع أمي عنها، مؤلّفا بعد آخر، إلى أن أصبحت بضعة صناديق ارتفعت إلى العلّية، وقد أصبحت من الأغراض الفائضة عن حاجتهم إليها.
في باريس، بعد مضيّ عمر، احتلت مكتبتي أكثر من حائط وأرضية في غرفتَي شقتي الصغيرة. وحين أقول صغيرة، ينبغي تجزئة كلمة صغيرة إلى أربع أو خمس قطع على الأقل، وأخذ إحداها فقط وتحويلها الى مكان للعيش، لكي يتسنى لمن لا يحيا في تلك البلدان تصوّر معنى الكلمة وحجمها. أذكر جيدا رد فعل العاملين المصريين اللذين سألاني عما تحويه كل تلك الصناديق الصغيرة المتشابهة الثقيلة التي كانا ينقلانها إلى بيتي الحالي، وامتعاضهما عندما أدركا أنها كلها تقريباً تحوي كتباً، واعتراضهما الشديد لأن الكتب برأيهما لا تعتبر أثاثاً، ونقلها ينبغي أن يكلفني سعراً إضافياً.
اليوم، وأنا في بيروت، أفكر كثيرا بمكتبتي التي بقيت هناك. أراها في نومي، وأفكر فيها كما لو كانت قفصاً ملآن بالأصوات والكائنات، لا أعرف كيف أنقله، أين أضعه، ولا ما ينبغي أن أفعل به. لا تشغلني الكتب، فقد اعتدت أن أتركها ورائي، بقدر ما تشغلني كتب ضمّنتها أحيانا صوراً، قصاصات، رسائل، ملاحظات، نصوصا صغيرة وأفكار روايات كانت تحضرني في أثناء قراءتي، فكنت أرميها بين الصفحات، كيفما اتفق، آملة أن أتذكّر في أي كتاب وضعتها، لو كانت تستحق فعلاً أن ترى النور.
داخل مكتبتي، مكتبة سرية صغيرة هي تركتي الثقيلة لنفسي، قبل الآخرين.
العربي الجديد