تركيا الغارقة في اليمين/ رستم محمود
مع تجدد الأعمال القتالية العنيفة بين «العمال الكردستاني» والقوات الأمنية التركية، وسقوط العشرات من المدنيين والعسكريين ضحايا لذلك، وظهور ضغوط شديدة على الاقتصاد التركي، باتت البلاد مهددة فعلياً بالدخول في دوامة حرب أهلية مجهولة العواقب. لكن كل ذلك لم يغيّر بتاتاً المواقف التقليدية للأحزاب السياسية التركية الرئيسية!
فخلا الحزب المؤيد للأكراد في البلاد «حزب الشعوب الديمقراطية»، فإن مواقف كامل الطيف السياسي التركي بقيت «منسجمة» في ما بينها إلى حد التطابق، محافظة على «سرديتها» الوطنية – القومية التركية في ما يخص هذه المجريات وكامل المسألة الجوهرية للبلاد. فبحسبها جميعاً، ثمة دولة مركزية بهوية قومية واضحة، لا يمكن مسها أو تغيير هويتها بأي شكل، وما المتمردون الأكراد سوى «إرهابيين» انفصاليين، مدفوعين من جهات دولية وإقليمية، لإحداث شرخ في الدولة والمجتمع التركي «الواحد»!
ما يجمع القوى السياسية التركية كلها هو اعتبارها أن الكيان وواحدية هوية المجتمع التركي مقدسان، مع إنكار تام للطبيعة الموضوعية لتدهور «عدالة» هذا الكيان، وبالضبط في التعاطي مع مكون رئيسي من سكان البلاد (الأكراد)، مع الاستساغة التامة لدخول البلاد في بوابة العنف والفوضى، وربما الحرب الأهلية، في سبيل ذلك. في المقابل، فدولة كتركيا، تدعي تبنيها للقيم السياسية الحداثوية والأعراف الديموقراطية، يخلو مجتمعها السياسي من أي تيار سياسي (يسار)، يجمع بين الاعتراف بالمشكلات الموضوعية للبلاد واعتبار للحس الأخلاقي والوجداني بما يملي بلوغ درجة معقولة من العدالة لمجموع المواطنين.
ثمة قطبان متنافران من «اليسار»، بعيدان جداً عن ذلك التحديد البسيط لليسار السياسي. واحد يحصر الرؤية اليسارية بجملة من الإجراءات الاقتصادية والتنموية، متمثل بـ «حزب الشعب الجمهوري» (الأتاتوركي)، العضو القوي في الاشتراكية الدولية. وهو نصير لجملة السياسات التي تقوي دور الدولة ومركزيتها في الاقتصاد والبيروقراطية والضرائب، مع سلوك سياسي يرى في اليسار حيّزه الإجرائي – الجهازي، من دون أية رؤية سياسية أيديولوجية عمومية. وعلى نقيضه تقف الجماعات اليسارية العنيفة المتطرفة التي تتبنى خطاباً سياسياً وأيديولوجياً «مراهقاً»، ولا تنفذ سوى بعض الأعمال «الإرهابية» المثيرة، من دون أي أفق سياسي موضوعي متوقع.
وفي كل ذلك الكثير مما يثير الاستغراب.
فتركيا دولة فيها طبقة وسطى اقتصادياً وثقافياً ومدنياً، وهي عالية الحضور والحيوية، وتشغل موقعاً جغرافياً وسياسياً مندمجاً بكثافة في الكل العالمي، وفيها عشرات المدن الكبرى المتطابقة مع نظيراتها الأكثر حداثة في العالم، ولا يهددها أي خطر إقليمي أو داخلي داهم. أي أن جميع العوامل الموضوعية الكبرى لا تدفع إلى هذا المقدار من الكثافة والديمومة لليمين السياسي الأيديولوجي.
على العكس تماماً، تُحرّض تركيا على انبعاث «كتلة» مجتمعية سياسية واثقة من ذاتها، وتحمل رؤية ثقافية واجتماعية وسياسية قادرة على الاعتراف بمدى تدهور أحوال «العدالة» في البلاد، ما سيؤدي موضوعياً إلى اندلاع مواجهات مستقبلية عنيفة قد تطيح كامل المكتسبات المتحققة خلال ربع القرن الماضي.
ما يحدث في تركيا راهناً شبيه بما شهدته خلال الستينات والسبعينات، حينما تدفق ملايين القرويين الأتراك نحو المدن المركزية، فلم تستطع القوى السياسية فهم حاجات هؤلاء المقبلين وحقوقهم، وبقيت مصرة على تبني سياسات اقتصادية وأيديولوجية أقرب ما تكون إلى سلوك البرجوازيات المدينية. الشيء الذي أدى إلى شرعنة وشعبية التيارات اليسارية الثورية، وإلى اندلاع الحرب الأهلية الشهيرة بين المقبلين واليمين المتطرف، على مدى عقدين كاملين، والتي ذهب ضحيتها عشرات آلاف الأبرياء، واحتاج قمعها إلى ثلاثة انقلابات عسكرية أطاحت كل الطموحات التحديثية التي كان يمكن أن تُجرى في البلاد.
هذا التيار السياسي المطلوب، قد يصح أن يُسمى يسارياً أو ديموقراطياً أو مدنياً، لكنه في المحصلة تيار يعمل لتحقيق نسب أعلى من عدالة موقع الدولة ومؤسساتها حيال كل مكونات البلاد الاجتماعية والأهلية والثقافية، ويفكك هويتها ونزعتها الأيديولوجية قدر المستطاع، لتغدو متطابقة مع كونها جهازاً عاماً يطبّق العقد الاجتماعي – الدستوري بين المواطنين، وهو ما يمر حتماً بتفكيك أشكال المركزية جميعاً.
وتحقق ذلك قد يحتاج إلى أشياء كثيرة، لكن ليس من بينها إطلاقاً بحر الدماء التي تُغرق وستُغرق الدولة والمجتمع التركيين، مما يتحمل هذا اليمين التركي مسؤوليته الكبرى.
* كاتب سوري
الحياة