تركيا على بوابة دمشق
حميد المنصوري
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى مرت تركيا بثلاث جمهوريات ذات توجهات سياسية واقتصادية وأمنية مختلفة. الجمهورية الأولى تمثلت منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى1949، وكانت تركيا مهتمة في إصلاحاتها الداخلية، حيث أمست علاقاتها مع الدول العربية ضعيفة، أما الجمهورية الثانية “1950 -1990” فكانت تمتاز بالأحلاف، والتي مثلت فيها تركيا حليف الولايات المتحدة الأميركية والنهج الرأسمالي بشكل عام، وكانت الدول العربية تنظر لتركيا بنظرة الريبة والشك وخاصة عندما تطورت العلاقات التركية الإسرائيلية، ودخلت تركيا حلف الناتو.
ولعل التغير الكبير تجاه الشرق الأوسط أتى بعد تحرير الكويت، وهنا بدأت الجمهورية التركية الثالثة في عام 1991 تهتم بالشرق الأوسط أمنياً “بسبب بروز القضية الكردية في العراق”، كما أن انتهاء الحرب الباردة وفقدان تركيا لدور محوري فيها كان محفزاً كبيراً للبحث عن دورٍ مهمٍ على المستويين الإقليمي والدولي.
إضافة إلى ذلك، أتى بروز دول آسيا الوسطى معززاً لتركيا كفاعل مهم في الشرق الأوسط بسبب العلاقات الخاصة بين الطرفين التاريخية والدينية واللغوية والعرقية أيضاً. وليس غريباً أن يكون أيضاً الفشل التركي في الدخول إلى الاتحاد الأوروبي قد عكس البوصلة التركية في خلق علاقات اقتصادية وسياسية مع منطقة الشرق الأوسط، ناهيك عن البعد الجغرافي لتركيا بين الشرق الأوسط وأوروبا. ومع الصبغة الإسلامية، فإن حزب “العدالة والتنمية” يبدو أنهُ يسعى إلى تحقيق القوة بأبعادها السياسية والاقتصادية والأمنية عبر جعل تركيا الفاعل الأبرز في قضايا واستقرار الشرق الأوسط، والذي لا بد وأن ينعكس على علاقاتها الدولية مع الدول الكبرى والمهمة.
ولعل الوضع السوري اليوم وما سيؤول إليه يقدم قراءة مستقبلية لدور تركيا الإقليمي والدولي.
اتسمت العلاقات التركية- السورية بأنها علاقات صراعية بسبب ضم تركيا لأراض من سوريا أهمها كان لواء الإسكندرونه عام 1938، واختلاف التحالفات الإستراتيجية لكلا البلدين، حيث اختارت تركيا السياسات والتوجهات الأطلسية الغربية الرأسمالية، في حين انحازت أغلب الحكومات السورية إلى التوجهات اليسارية والاشتراكية، وامتد النزاع ليشمل المياه، خصوصاً خلال تسعينيات القرن العشرين. كما أن العلاقات التركية- الإسرائيلية كانت محبطة لأي تقارب مع سوريا. وكانت تركيا تتهم الحكومة السورية بإيواء وتدريب عناصر حزب “العمال الكردستاني”، وأنه يستخدم كورقة سياسية لـ”زعزعة أمنها”، إضافة إلى أنها كانت تنظر بريبة للعلاقات السياسية بين سوريا واليونان، والعلاقات مع الشطر اليوناني من قبرص، فالعلاقات التركية اليونانية ذات طابع صراعي من قضية قبرص والحدود والموارد البحرية على بحر إيجه ناهيك عن البعد التاريخي. وبعد أن بلغ النزاع أوجه عام 1998 بين البلدين حين هددت أنقرة باجتياح الأراضي السورية بحجة وقف هجمات حزب “العمال الكردستاني”، تغيرت العلاقات التركية- السورية، فبرزت أوجه نحو الحوار والتفاهم لدى الحكومتين السورية والتركية، والذي قاد نحو إقامة علاقات أفضل وأكثر استقراراً بين البلدين، فبدأ التوافق في الجانب الأمني، ثم انتقل إلى الجانب الاقتصادي بقيادة حزب العدالة والتنمية “كاتفاقية التجارة الحرة”، والجانب السياسي ” تمثل في لعب أنقرة دور الوسيط بين إسرائيل وسوريا والوقوف مع دمشق ضد سياسات بوش الابن”. وتبلورت نظرة تركية لسوريا كمفتاح للتجارة والطاقة مع الدول العربية.
مسار تركيا في الشرق الأوسط قد يتحدد بشكل كبير عبر الوضع الراهن لسوريا المتمثل في صراع نظام “البعث” للبقاء بالقوة على حساب الشرعية والشعب الذي أصبح مصمماً على تغيير وضعهُ الاجتماعي والمادي بنهاية النظام “البعثي”. ففي ظل الوضع السوري الراهن، وعبر ما حدث في عام 1998 من نقيض حيث ارتفع الصراع التركي- السوري حول قضية حزب العمال الكردستاني، ثم نتج تفاهم تم في أكتوبر 1998، حيث وقّعت كل من تركيا وسوريا اتفاقية أضنة، التي شملت على شروط في غاية الوضوح لمنع نشاطات حزب العمال الكردستاني في سوريا. وهذه الاتفاقية مطاطية تنص المادة رقم 1 منها على أن سوريا لن تسمح بأي نشاط على أراضيها يهدف إلى المساس “بأمن تركيا واستقرارها” وهنا فالأحداث الجارية في سوريا من صراع دموي بين نظام البعث وشريحة كبيرة من المعارضة والشعب والذي على إثره تم دخول الكثير من السوريين إلى تركيا كلاجئين، فكل هذا ونتيجة له يخلق تهديداً جدياً “لأمن تركيا واستقرارها” ولتركيا الحق في اتخاذ التدابير اللازمة للدفاع عن النفس، بما في ذلك التدخل المسلح في الأراضي السورية لاحتواء التهديد.
إن دخول تركيا سوريا وارد، حتى وإن لم تستطع الأمم المتحدة حل القضية التي يعترضها “الفيتو” الروسي والصيني، فقد تبرر أنقرة التدخل العسكري باتفاقية أضنة لعام 1998 مع سوريا، كما قد تدعو أعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي إلى تطبيق المادة الخامسة من ميثاق الحلف، والتي تفيد بأن أي تهجّم على أي عضو كان في الحلف هو بمثابة هجوم على كافة أعضائه. وهو أمر مرجح الحدوث مع فشل نظام الأسد في تنفيذ خطة عنان، ومع تأمين موافقة المجلس الوطني السوري لإطلاق عمليات مشتركة مع الجيش السوري الحر ضد قوات الأسد، ناهيك عن أن ميزان القوة العسكرية لصالح تركيا بامتياز، كما أن هناك وجوداً لدعم دولي وإقليمي لا يستهان بهِ.
إذا قامت تركيا بدور محوري في إسقاط النظام البعثي السوري، فإن هناك متغيرات سياسية وأمنية واقتصادية سوف تحدث. أولاً المتغيرات السياسية: بروز تركيا كلاعب مهم في استقرار الشرق الأوسط، وتفضيل الدول الكبرى الاعتماد على الدول الإقليمية في تحقيق الأمن والاستقرار. ورغم التقارب الإيراني التركي في القضية الكردية في عدم بروزها في البلدين وأيضاً التعاون في الطاقة، سيحدث توتراً في العلاقات التركية الإيرانية، وستضعف إيران سياسياً بسبب سقوط البعث السوري، وربما يقود ذلك إلى توتر تركي مع العراق بقيادة المالكي. رغم هذا سوف تتطور العلاقات العربية التركية إلى مرحلة أكثر قوة.
ثانياً المتغيرات الأمنية: فعلى المستوى التركي ربما تواجه تركيا القضية الكردية في سوريا والعراق كما في تركيا بتحريك من دول لا ترغب في بروز الدور التركي في منطقة الشرق الأوسط. أما المستوى الإقليمي قد تصبح تركيا رادعاً للقوة الإيرانية في المنطقة، وفي هذه الحالة سيكون الحلف الأطلسي جزءاً من الردع بسبب عضوية تركيا.
ثالثاً المتغيرات الاقتصادية: لا شك أن تكون هناك مكاسب اقتصادية مهمة مثل تعزيز التجارة والاستثمار بين تركيا والدول العربية، وستلعب سوريا دوراً مهماً في ذلك مثل تصدير الطاقة إلى تركيا وأوروبا، إضافة إلى تصدير واستيراد البضائع والسلع بين تركيا والأقطار العربية عبر سوريا. وهناك دول خارج الشرق الأوسط لابد لها من دعم تركيا في جوانب الاقتصاد والتكنولوجيا بسبب الدور الذي قد يتزايد أهميتهُ في استقرار المنطقة.
أخيراً، تركيا مع المجلس “الوطني السوري” والقوى السورية المعارضة للنظام، تستطيع إسقاط النظام، كما أن أنقرة لابد وأن تأخذ بعين الاعتبار الموقف السياسي من موسكو وبكين، وهنا هل تستطيع تركيا إرضاء موسكو وبكين بمكاسب معينة ثم تسعى إلى إسقاط النظام السوري في سبيل تحقيق معادلة أمنية واقتصادية جديده لها في منطقة بدأت تسقط أنظمتها الواحد تلو الآخر؟.
الاتحاد