تركيا.. مأزق السياسة والهوية/ علي العبد الله
عانت الجمهورية التركية التي أنشأتها المؤسسة العسكرية بقيادة الجنرال مصطفى كمال الملقب بأتاتورك في أكتوبر/تشرين الأول 1923 من تناقضات بنيوية: علمانية النظام وإسلامية المجتمع، عرقية النظام وتعددية المجتمع، ديمقراطية الدستور وهيمنة العسكر، شرقية الموقع والانتماء وغربية السياسة والتوجه.
وقد ترتب على هذا التكوين الهجين بروز استقطابات سياسية واجتماعية تمحورت حول عناصره عاكسةً مأزقَ هوية عميقًا جعل الدولة عرضة للأزمات والاهتزازات المتتالية.
انطوت السياسة التي اتبعها أتاتورك على مجموعة من المفارقات والتناقضات، لعل أهمها وأخطرها على مستقبل الدولة تعامل أتاتورك العلماني مع قضية الدين تعاملا مصلحيا.
فقد سعى بكل الطرق إلى إنهاء الحضور الإسلامي في مختلف مجالات الحياة وبين مختلف فئات المجتمع من جهة، ومن جهة ثانية بين القومية التركية والإسلام حين رفض في مفاوضات لوزان الإقرار بوجود أقليات قومية في الدولة التركية، ولم يعترف إلا بوجود أقليات غير مسلمة. فالمسلم تركي وغير المسلم غير تركي، وذلك للتملص من حقوق الشعوب والأعراق والإثنيات التي تعيش على أراضي ما أصبح يسمى تركيا، لذا عين في البرلمان الأول (1923) وفق النظام الملي العثماني، ممثلين عن هذه الأقليات، نائبين أرثوذكسيين، ونائبا أرمنيا، وعين في برلمان (1935- 1939) نائبا يهوديا. ونظر إلى النشاطات السياسية التي قام بها الأكراد تعبيرا عن تميزهم وعن وعيهم القومي، باعتبارها عصيانا ضد الدولة ووصف القائمين بها بـ”العصاة ” واستخدم القوة ضدهم.
لم ينجح النظام الأتاتوركي في القفز على التركيبة المجتمعية، وخاصة عنصري الدين والقومية، فالنظام العلماني لم يخترق البنية الأساسية للمجتمع التركي، ولم يستطع اجتثاث المشاعر الدينية عند غالبية المواطنين، فانشطر المجتمع التركي إلى أقلية “متعصرنة” وأكثرية متمسكة بتقاليدها باحثة عن سبل تطورها من داخل قيمها، وأخذ الصراع الاجتماعي والسياسي بين الطرفين شكل صراع حضاري، صراع من أجل الهوية والاختيارات الأساسية. كما لم يستطع احتواء التطلعات القومية للشعوب غير التركية (الأكراد والعرب واليونانيين والأرمن).
لم يستطع التوجه العلماني والعرقي الشمولي المتشدد الصمود في وجه المصاعب المحلية والإقليمية حيث بدأ الواقع يفرض ذاته على الخيارات السياسية للنظام الأتاتوركي، مما اضطر حزب الشعب الجمهوري -حزب أتاتورك- إلى شيء من الليبرالية وسيلة لاستعادة شعبيته المتآكلة، فسمح بتأسيس حزب معارض (الحزب الديمقراطي) في إطار عملية هي أقرب إلى مأسسة للديكتاتورية والاستبداد منها إلى إشاعة مناخ سياسي ديمقراطي.
فقد بقي الخيار الأساسي، سياسيا واجتماعيا، دون تغيير. واضطرت الظروف السياسية والاقتصادية المحلية والإقليمية والدولية، الدولة التركية إلى التراجع عن إجراءاتها ضد الدين الإسلامي، ودفعتها إلى إعادة الاعتبار إليه.
ففي إطار المواجهة بين الشرق والغرب، حيث كانت تركيا في صف الغرب، واتساع النشاط الماركسي فيها، نُظر إلى الإسلام بوصفه وسيلة فعالة لتقويم الأخلاق ومحاربة الشيوعية فلجأت الدولة التركية إليه في سعيها إلى تقليم أظافر التيار اليساري.
وفي منتصف سبعينيات القرن الماضي، وبفعل عاملين مهمين: القضية القبرصية والأزمة الاقتصادية، ناهيك عن الحاجة إلى استخدام الدين والأخوة الدينية في مواجهة أكراد تركيا المطالبين بدولة كردية في جنوب شرق الأناضول، دُفعت تركيا إلى اللعب بورقة الهوية الإسلامية في الخلاف حول قبرص والسعي إلى الاستفادة من الثروة النفطية في الدول الإسلامية، وقد تبلور ذلك بالانضمام إلى منظمة المؤتمر الإسلامي وتضمين دستور 1982 فرض التعليم الديني في المدارس الابتدائية، وأصبح هدف السياسة الثقافية في تركيا الحفاظ على الإسلام عنصرا ليس بالإمكان فصله عن الثقافة التركية.
لقد باءت بالفشل محاولات استئصال الإسلام بأسلوب قسري، فبعد كل محاولة كان الإسلام -بوصفه قوة اجتماعية وسياسية- يعود إلى الحلبة أكبر وأقوى، خاصة أن هدم نظام الثقافة والقيم السائدة في تركيا، وهو في أساسه إسلامي، لم يستطع أن يرسخ نظام القيم الغربية الجديد وتعميمه لدى كل الفئات الاجتماعية، فاقتصر ذلك على نخبة “كمالية” تتشكل أساسا من كبار الضباط والموظفين وأرباب المهن الحرة، في حين بقيت الأكثرية الساحقة من الشعب مرتبطة بالإسلام ممارسة وسلوكا يوميا.
وقد كشفت فسحة الديمقراطية أن “الكمالية” في بُعدها العلماني، كما فهمها أتاتورك، ليست الصيغة المناسبة لمجتمع ودولة في بلد كان عنصر الدين الإسلامي علة وجوده وعظمته على امتداد أكثر من ستة قرون. كما أتاحت للقوميات والإثنيات، الكردية خاصة باعتبارها ثانية أكبر قومية، التعبير عن نفسها بأشكال عديدة: جمعيات، أحزاب سياسية، نشاطات ثقافية… إلخ، فقضية القوميات هي الوجه الآخر لقضية الهوية، حيث لا تزال دون حل من جهة ودون وجود تصور مشترك حولها داخل المجتمع والنخبة السياسية التركية من جهة ثانية.
وقد زاد من تعقد المواقف إزاءها وصول أحزاب قومية متطرفة إلى سدة الحكم، تختلف فيما بينها في الكثير من القضايا وتتفق في إنكار الهويات القومية، وخاصة الكردية في ضوء المواجهة المسلحة مع حزب العمال الكردستاني، فما كان يجمع بين بولند أجاويد اليساري (رئيس حزب اليسار الديمقراطي) ودولت باغجلي اليميني (رئيس حزب الحركة القومية) في الحكومة السابقة على حكومة حزب العدالة والتنمية هو نزعتهما القومية المتطرفة واستنادهما في مقاربة أوضاع تركيا إلى منظور صارم يضع الانتماء إلى العرق التركي فوق كل اعتبار.
لقد وضع الخيار الأتاتوركي الجمهورية التركية في مأزق دائم، وعقد عملية الاختيار وصياغة المستقبل وشتت الوعي والولاء التركيين، وتسبب في غياب إجماع حول الهوية، فهي لا تستطيع -لاعتبارات تاريخية ودينية- التحول إلى دولة علمانية خالصة، ولا تستطيع -لاعتبارات سياسية واجتماعية- التحول إلى دولة إسلامية. لذا فهي مشتتة بين خيارها السياسي الاجتماعي وبين تاريخها وتكوينها الأساسي.
إنها غير قادرة على الالتحاق الكامل بالغرب لأنها شرقية، وغير راغبة في الالتحاق بالشرق لأن خيارها غربي. غير قادرة على القفز على الإسلام وغير راغبة في السماح للإسلام باستعادة حضوره السياسي والاجتماعي الكامل، وغير قادرة على محو الهويات القومية للجماعات المشتركة في الكيان التركي وغير راغبة في الاعتراف بها والسماح لها بالتعبير عن ذاتها.
برز مأزق الهوية في تركيا باجتماع عاملين: عجز العقيدة الأتاتوركية عن تحقيق ذاتها، وبالتالي فشلها في التعاطي مع المشكلات الحيوية للمجتمع التركي، وغياب إجماع عام على هوية. فقد ظهر للعيان أن الانقسام المذهبي والقومي الذي تعرفه تركيا أرسخ من الحلول التي طرحت لحله، حيث بقي الوجه السني للدولة بارزا، رغم ما قيل عن علمانية الدولة، والاستياء العلوي لذلك شاخصا، وفشلت محاولات الصهر التي يمكن من خلالها طبع الشعب كله بطابع قومي واحد، وبقي شعار اليمين العلماني “نحن جميعا أتراك” بلا جذور. كما لم ينجح شعار “الأخوة الإسلامية” في القفز على الانقسام القومي.
لذا عُدّ عقد ثمانينيات القرن الماضي، في ضوء التغيرات التي حصلت في موقف الدولة من قضيتي الدين والانفتاح الديمقراطي، فاتحة عهد جديد في علاقة الدولة بالدين حيث برزت مواقف مخففة من العلمانية التي غدت واحدة من الأركان التي يوصف بها نظام تركيا المعاصرة، فعاد الإسلام، دينًا وثقافةً، قوة مهمة جدا ليس في مقدور النظام تجاهل انتماء تركيا إليه، وبرز التسامح مع التعبيرات القومية للأكراد، وتبدل شكل الصراع الداخلي من الصراع بين اليمين واليسار، الذي شهدته تركيا في السبعينيات، إلى صراع عقدي بين إسلاميين وعلمانيين، وقومي بين أتراك وأكراد.
كما أدت المتغيرات إلى ازدياد إحساس التركي بهويته المتميزة عن الغرب الأوروبي، وانتمائه إلى فضاء حضاري آخر، وزاد ذلك الصراعَ العقدي بين الإسلاميين والعلمانيين تعقيدا، حيث وجد الإسلاميون في ذلك فرصة لتحويل خيارات تركيا الخارجية باتجاه إسلامي بينما وجد فيه القوميون المتشددون فضاء للطورانية ولحظة مناسبة لاستعادتها وتكريسها.
عبرت هذه التطورات عن تحول في اتجاهات التفكير داخل المجتمع التركي قادت إلى إعادة النظر في المنطلقات الأساسية للأتاتوركية، حيث طرحت فكرة “الجمهورية الثانية” التي تُختصر بتعميم كامل للديمقراطية والحريات بما فيها حقوق الأقليات في التعبير عن هويتها وتغليب النزعة المدنية في المجتمع على النزعة العسكرية التي استبدت بالجمهورية الأولى منذ تأسيسها وما زالت، وفي ذلك خروج على روح اتفاقية لوزان التي لم تعترف فيها تركيا بوجود أقليات عرقية بل دينية غير إسلامية، وفكرة “العثمانية الجديدة” التي تضمنت تجاوزا لأحد أهم أطروحات الأتاتوركية في السياسة الخارجية: الانكفاء إلى حد العزلة وشعارها المعروف “سلام في الوطن، سلام في الخارج”.
جاء فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية وتشكيله الوزارة بعد أن اصطدمت دعوات العودة عن الخيار الأتاتوركي والاعتراف بالإسلام وبالتعددية القومية بالموقف الغاضب للمؤسسة العسكرية وللقوميين الأتراك المتشددين الذين تحركوا لوقف التغيرات الداخلية على صعيد طرح المواقف والقضايا، ووقف عملية تعديل أولويات تركيا الأتاتوركية وخياراتها الداخلية والخارجية، واحتواء ما اعتبروه “خطر الإسلام والأكراد”، فأسقطوا حكومة الشراكة بين زعيم حزب الرفاه الإسلامي نجم الدين أربكان وزعيمة حزب الطريق القويم العلماني تانسو تشيلر، فجاءت إدارته (حزب العدالة) للسياسة الداخلية والخارجية واعية ومرنة بحيث تحاشى الأخطاء التي وقع فيها سلفه الإسلامي فأعلن تمسكه بعلمانية الدولة واستند إلى الخيار الأوروبي للنخبة التركية لتقييد المؤسسة العسكرية والحد من تدخلها في السياسة.
وهذا، بالإضافة إلى نجاحه في إخراج الاقتصاد التركي من حالة العجز والمديونية وتحسين مستوى المعيشة للمواطنين، ما مكنه من الاستمرار في السلطة لدورات متعاقبة، ومنحه فرصة كبيرة لمصالحة تركيا مع تاريخها بإعادة الاعتبار للدين الإسلامي، باعتباره مكونا جوهريا في الهوية التركية.
كما تحرك لإخراج تركيا من حالة الخصام مع ذاتها وتركيبتها القومية بالعمل على حل القضية الكردية عبر خطوات تمهيدية لتحضير المناخ لمصالحة وطنية بالسماح باستخدام اللغة الكردية وتعلمها وتخصيص قناة فضائية ناطقة بها تبث برامجها طوال اليوم، ودخل عام 2010 في مفاوضات مع قيادات سياسية كردية في أوروبا بداية ثم نقل المفاوضات عام 2012 إلى الداخل وفتح خطا مع حزب العمال الكردستاني عبر حزب السلام الديمقراطي ثم عبر حزب الشعوب الديمقراطية، وتشكيل لجنة حكماء تحت اسم “العين الثالثة” للعب دور تهيئة المناخ والتقريب بين المواقف، وأعلن خارطة طريق في ست نقاط، وربط تنفيذ كل نقطة بتنفيذ النقطة التي تسبقها لضمان الاستمرارية والنجاح.
لقد كان مأزق تركيا طوال العقود السابقة في عجزها عن الحسم، كمقدمة لابد منها للانطلاق، في مسألة الهوية. لذا فقد تأرجحت في مواقفها وخياراتها وعاشت مآسي دامية، وسيبقى هذا المأزق ما لم تنجز مراجعتها الحاسمة وتعيد النظر في الهوية الوطنية وتنحاز إلى عقد اجتماعي جديد يرضي كل القوميات والمذاهب ويحقق العدالة والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات.
الجزيرة نت