تركيا والانتفاضة السورية: أثمان باهظة وخصوم كثر/ صبحي حديدي
لا يكاد يمرّ أسبوع، لكي لا يذهب المرء إلى ترجيح تواتر زمني أقرب إلى التكرار اليوميّ، دون أن تتعرّض الحكومة التركية لمساءلة أو مضايقة أو معارضة أو مهاجمة… جرّاء موقفها، المؤيد والمساند والمتقدّم والميداني، السياسي والإنساني واللوجستي، إزاء الانتفاضة السورية، عموماً؛ ومؤسسات المعارضة السورية الخارجية، ‘المجلس الوطني’ و’الائتلاف الوطني’، فضلاً عن أفراد وكتائب ‘الجيش الحرّ’ في المناطق المحاذية، بصفة خاصة. وحصيلة هذه الحال هي دخول تركيا في جولات شدّ وجذب، داخلية وطنية أوّلاً، ثمّ إقليمية وعالمية بعدئذ؛ مع أطراف وقوى ودول ليست بالضرورة في حال من العداء مع تركيا، بل هي ـ على قياس الولايات المتحدة، أو الاتحاد الأوروبي، أو الحلف الأطلسي، كأمثلة ـ جهات صديقة أو حليفة.
أمّا حين تكون مناهضة هذه المواقف التركية آتية من دولة مثل إسرائيل؛ يُفترض أنها، نظرياً على الأقلّ، ‘خصم’ لنظام بشار الأسد ‘الممانع′ و’المقاوِم’، فإنّ ما وراء الأكمة يتجاوز تناقض السطح والظاهر، إلى تناحر الباطن والخافي. أي، في صياغة أخرى، إلى ثوابت جيو ـ سياسية، وأخرى تاريخية، وثالثة عسكرية، ورابعة ثقافية… تخصّ موقع تركيا، أكثر بكثير من موقفها، تجاه هذه المسألة أو تلك، سواء في مستوى الأداء الشخصي لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، أو في الأداء الجماعي لحكومات حزب ‘العدالة والتنمية’ إجمالاً. وهذا سجلّ اشتمل على المواقف التركية من عدوان إسرائيل على لبنان، صيف 2006؛ وعدوانها على قطاع غزّة، أواخر 2008؛ وإغارتها على ‘أسطول الحرّية’ التركي، في مياه المتوسط الدولية قبالة شاطىء غزّة، أيار (مايو) 2010؛ كما اشتمل، لاحقاً، على المواقف من ‘الربيع العربي’، والعدوان الأطلسي على ليبيا، والانتفاضة السورية، وانقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر…
كذلك، وكما هي العادة المألوفة، حين تكون إسرائيل على الطرف الآخر من الخصومة؛ فإنّ التوتر مع تركيا لا يقتصر على دول الأصدقاء والحلفاء، بل يشمل وسائل الإعلام، ويتضمن حملات صحفية منظمة، ينخرط فيها غالباً كتّاب أعمدة من المشاهير، يكتبون في كبريات الصحف. هذه، على سبيل المثال الأحدث، حال الأمريكي دافيد إغناتيوس، الكاتب والمعلّق في صحيفة ‘واشنطن بوست’ الأمريكية؛ بصدد الهجمة الإعلامية الشرسة التي شنتها إسرائيل، مؤخراً، ضدّ أردوغان (على نحو مستتر، غير مباشر)، وضدّ حاقان فيدان، رئيس ‘منظمة الاستخبارات الوطنية’ التركية، علانية ومباشرة. الأخير، بتوجيه من رئيسه بالطبع، متهم بإطلاع الاستخبارات الإيرانية على هويات عشرة من جواسيس الاستخبارات الإسرائيلية، الـ’موساد’، العاملين من الأراضي التركية.
أمّا الحلقة السورية في هذه الحكاية، فهي أنّ فيدان يُعدّ من كبار المتحمسين لتسليح المعارضة السورية، وهو أيضاً أحد أبرز مستشاري أردوغان في الملفّ السوري، بصفة خاصة؛ ويتردد، على نطاق واسع، بأنه الناصح الأشدّ تمتعاً بثقة رئيس الوزراء التركي، والأشدّ تمتعاً بكراهية الإسرائيليين زملائه في المهنة (إغناتيوس نقل مزحة، على لسان ضابط من هؤلاء، مفادها أنّ فيدان هو ‘رئيس محطة الاستخبارات والأمن الإيرانية في أنقرة’!). كذلك تسبب فيدان في استعداء شركات صناعة السلاح الأمريكية، بسبب دوره في عقد صفقة مع الصين، بقيمة أربعة مليارات دولار أمريكي، لشراء صواريخ بعيدة المدى؛ وذلك بعد امتناع شركة ‘رايتون’ الأمريكية، الصانعة لصواريخ ‘باتريوت’، عن تزويد تركيا بالتفاصيل التكنولوجية المرتبطة بتشغيل هذه الصواريخ. من جانبها، أشارت حكومة أردوغان إلى أنّ الصفقة مع الصين عُقدت لسبب آخر، بسيط وجوهري، هو أنّ العرض الأمريكي كان أغلى بـ500 مليون دولار!
وهذا ‘التظلّم’ الإسرائيلي، ضدّ تركيا، يعيد إلى الأذهان نكتة روسية ـ يهودية عتيقة، اعتاد على اقتباسها يوري أفنيري، الكاتب والناشط الإسرائيلي؛ تقول إنّ فتى يهودياً استُدعي، أيام روسيا القيصرية، للخدمة العسكرية الإلزامية على جبهة الحرب مع تركيا. وعند توديعها له على رصيف القطار، أوصته أمّه الباكية أن لا يجهد نفسه كثيراً: ‘إقتلْ تركياً، ثمّ استرحْ قليلاً قبل أن تقتل الآخر، وبعده استرحْ أيضاً، وهكذا دواليك يا بنيّ’. وحين ردّ الفتى: ‘ولكن ماذا لو قتلني الأتراك يا أمّاه؟’، صُعقت الأمّ وأجابت باستنكار شديد: ‘ولماذا يقتلونك يا ولدي؟ أيّ ذنب ارتكبتَ، أيها اليهودي الطيّب؟’. في صياغة أخرى لروح النكتة، أليس من حقّ اليهودي الطيب، الإسرائيلي، أو المشتغلين عنده من جواسيس، أن يتجسسوا على أراضي دول أخرى دون أن تعكر سلطاتها صفو نشاطاتهم، أو حتى ترمي واحدهم بزهرة؟
وهكذا، تريد إسرائيل من تركيا أن تسمح لجواسيس الـ’موساد’، حاملي جنسية دولة جارة، وقوّة عظمى إقليمية، ألا يسرحوا ويمرحوا في ربوع تركيا، فقط؛ بل يتوجب، أيضاً، أن تمدّ لهم أجهزة الاستخبارات التركية العون، كلّ العون، وأن تصفق لهم كلّ الوقت! لا يجوز، كذلك، أن يسدي فيدان إلى رئيسه المباشر، أردوغان، بنصائح من طراز لا يخدم قراءة اليهودي الطيب، الإسرائيلي، لمشهد الانتفاضة السورية، والإبقاء على توازن القوّة العسكري معلّقاً عند مستوى منجاة النظام السوري. ولا يصحّ، استطراداً، أن تسكت عن هذه ‘التجاوزات’ صحيفة ‘وول ستريت جورنال، في عمود آدم إنتوس وجو باركنسون، قبل ‘واشنطن بوست’ وعمود إغناتيوس، وأن يكون فيدان في مرمى نيران غزيرة من كلّ حدب وصوب؛ هو ‘المدان’، في عرف هؤلاء الصحافيين أصدقاء إسرائيل، بصياغة ‘سياسة تركية’ تجاه الانتفاضة السورية، مستقلة عن«««’إسرائيل، والولايات المتحدة!
طبيعي، والحال هذه، أن يزيد في الطنبور نغماً طرف له كلّ المصلحة في هذا التأثيم للموقف التركي، أي رأس النظام السوري، الأسد نفسه؛ الذي صار شتم أردوغان لازمة دائمة في أحاديثه الصحفية، خاصة عندما يكون محاوِره ليس أقلّ منه ‘ممانعة’ ديماغوجية، و’مقاومة’ غوغائية. آخر ما حُرّر، في هذا الصدد، خلال حوار مع قناة ‘الميادين’، اكتشاف الأسد أنّ مواقف أردوغان من الانتفاضة السورية مبعثها سعيه ‘لمجيء الأخوان المسلمين إلى الحكم في سورية لأنه يعيش حالة صراع مع العلمانيين منذ تمّ انتخابه. وبالنسبة له كانت فرصة كبيرة أن يرى أن الأخوان يحكمون من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق، لأنّ هذا يعني بأنهم لن يكونوا هم الأقلية كما كان يشعر في تركيا بل سيتحول إلى أكثرية وسيتخلص من العلمانيين داخل تركيا. فلذلك بالنسبة له مجيء الأخوان إلى الحكم في سورية موضوع مصيري يتجاوز أية علاقة شخصية’!
وأمّا التصريحات الأكثر كلاسيكية، والأشدّ قدحية بالطبع، فهي تلك التي يعلنها الأسد حين يتوجه إلى قارىء تركي افتراضي، كما في حديثه لصحيفة ‘جمهورييت’ التركية، حين اعتبر أنّ أردوغان ‘أبدى ‘الكثير من الصراخ دفاعاً عن الفلسطينيين في عام 2008 عندما هاجمت إسرائيل غزة، ولكن قبلها بسنتين ونصف لم نسمع هذا الصراخ عندما هاجمت إسرائيل لبنان’؛ الأمر الذي ‘أظهر خلفيته الطائفية، لأن الفرق [بين لبنان وغزّة] هو فقط الناحية الطائفية’. وكان مدهشاً أن يكشف الأسد قناعته بأنّ عدوان إسرائيل لم يكن ضدّ لبنان بأسره، وهو بلد متعدد الأديان والطوائف، بل ضدّ الشيعة وحدهم، بدليل تقصير أردوغان (السنّي!) في نصرتهم. كما ذهب الأسد أبعد، حين اتهم رئيس الوزراء التركي بالنفاق: ‘اليوم يبكي من أجل الشعب السوري بكاء المنافقين’، ولكن ‘لماذا لم يبكِ من أجل مَنْ يُقتلون في بعض دول الخليج وهم أبرياء وسلميّون ولا يحملون السلاح؟ لماذا لا يتحدث عن الديمقراطية في بعض بلدان الدول الخليجية؟’… مفترضاً أنه، أي الأسد، ظلّ طيلة سنوات رافع العقيرة دفاعاً عن قتلى الخليج، وحامل لواء الديمقراطية هناك!
يبقى، أخيراً وليس آخراً، ذلك الثمن الذي تواصل تركيا دفعه جراء مواقفها الإقليمية إجمالاً، وموقعها الراهن ـ المتميز تماماً، والإشكالي في ناظر’خصومها مثل حلفائها وأصدقائها ـ إزاء الانتفاضة السورية: أي الملفّ القديم المتجدد، حول انضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي، ونافذة التفاوض التي أعاد الاتحاد فتحها قبل أيام. الثابت أنّ الملفّ ينطوي على تعقيدات حقّ، حتى إذا أُريد منه الباطل، لأنّ تحدياته مزدوجة ومتبادلة، وعواقبه شديدة الوطأة على الطرفين بالتساوي، تركيا مثل أوروبا، خصوصاً حين يُحصر داخل أسوار أسئلة من النوع التالي: هل في وسع′أوروبا المعاصرة الموحدة، ذات الثقافة المسيحية ـ اليهودية الطاغية، أن ‘تهضم’ بلداً مثل تركيا بملايينه الـ 71، ذات الأغلبية المسلمة الساحقة؟ وهل في وسع تركيا أن تندمج في ثقافة، ثمّ تطبّق سلسلة من القوانين والأعراف والمعايير، الغربية الصرفة؟ وماذا عن فصول التاريخ الدامية، العثمانية أساساً وذات الصلة بالصراعات الثقافية ـ الدينية، التي خلقت اكثر من هوّة على مستوى الوجدان الجَمعي والمزاج’الشعبي والميول الحضارية؟
الملفّ، إلى هذا، وربما بسبب من سلسلة الاعتبارات السابقة، وسواها، يظلّ أسير جملة المواقف التي عبّر عنها ساسة أوروبيون، في مناسبات مختلفة: الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي (مكان تركيا ليس في أوروبا، في نظره، بل في آسيا المسلمة)؛ أو المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل (التي فضّلت صيغة ‘الشراكة المتميزة’ على العضوية التامة)؛ أو المستشار النمساوي الأسبق ولفغانغ شوسل (الذي رأى أنّ بدء الاتحاد الاوروبي مفاوضات ضمّ مع تركيا ‘أمر يثير السخرية’، فيما يتخلى الاتحاد عن المفاوضات مع كراوتيا)؛ أو الهولندي فريتس بولكشتين، المفوّض السابق في الاتحاد (الذي أعلن على الملأ أنّه إذا انضمت تركيا فسيكون تحرير فيينا من الحصار العثماني، سنة 1683، قد ذهب عبثاً في عبث!)…
لكنه، اليوم على وجه التحديد، لا ينفصل البتة عن حيثيات الموقف التركي من الانتفاضة السورية؛ ولعلّ فتحه، بمعنى بلوغ مآل إجرائي ملموس حول العضوية، لم يعد متاحاً إلا بالترابط مع تعقيدات المشهد السوري، وتداعياته الإقليمية. وهذا، بدوره، أحد الأثمان التي توجّب أن تدفعها تركيا، في محيط مصطخب مضطرم متبدّل متحوّل، تتكسر فيه النصال على النصال، كلّ يوم!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس