تركيا والثورات العربية: أين أصبحت رؤيا داود أوغلو؟
هدى رزق
ماذا لو كان الموقف التركي تجاه الثورات العربية براغماتيا بالرغم من الآمال العربية التي عقدت على تركيا بعدما اخذت مواقف الى جانب القضية الفلسطينية وبعد سفينة الحرية في غزة ؟
ما هي أسباب التفاوت النسبي في الموقف التركي من ثورة شعبية الى أخرى ومن بلد الى آخر؟ كيف تنظر تركيا الى الثورات الشعبية في الدول العربية؟ وما هي مبادئ ومنطلقات السياسة الخارجية التركية تجاه هذه الثورات؟ وهل صحت تصريحات داود أوغلو بأن ما يجري في العالم العربي “مسار طبيعي للأمور و أن التغييرات التي تشهدها دول الشرق الأوسط ناتجة عن ضرورة اجتماعية، مشددا على وجوب ابتعاد الزعماء عن الوقوف أمام رياح التغيير، وان على الحكام العرب أن يتبنوا التغيير أو المخاطرة بفقدان مناصبهم؟
كيف يمكن تبرير التدخل الدولي في ليبيا بعد نفي تركيا أن تكون موجة الانتفاضات الشعبية في المنطقة من عمل عناصر أجنبية؟ وتشديد اوغلو أن المنطقة تشهد عهدا من التغيير مثلما حدث في أوروبا الشرقية في أواخر التسعينات وأنه يجب احترام إرادة الشعوب والحفاظ على استقرار وأمن الدول، وضرورة أن يتم التغيير بشكل سلمي، والحفاظ على وحدة وسلامة أراضي الدول العربية؟
يبدو الحديث وكأنه شروط تضعها تركيا، وكأنها رجع صدى لما تقوله الولايات المتحدة في بعض الاوقات، ولكن على من تملى هذه الشروط؟ على المتظاهرين؟ ام على الرؤساء الذين طلب منهم الرحيل ؟ ام على الذين حاولوا القيام بإصلاحات وفوجئوا بالمزيد الى حد الطلب باسقاطهم؟
مع ان المراقب يرى بوضوح المسار نفسه الذي بدأ في تونس وبلغ سوريا: منظمات مجتمع مدني وحقوق الانسان تقدم تقارير، ومدونو الانترنت وتويتر يصعّدون حملات التوتير، ودعوات الى التظاهر ومعارضون يقطنون في الخارج يدخلون على خط التغيير في ليبيا مثلا وسوريا والبحرين، وافلام على اليوتيوب ومقابلات مع معارضين واختصاصيين وفضائيات تلعب دور المحرض على التغيير مدعومة من انظمة لا ديموقراطية وعائلات ملكية، مع كل ذلك تبدو الصورة مشوشة بعض الشيء، وتبدو تركيا تارة محشورة وطورا مرتاحة الى سير الامور ولكن؟
الموقف من ليبيا: برغماتية ومكيافيلية كاملة
ألم يقل اوغلو بوجوب الحفاظ على البنية التحتية ومؤسسات الدول وثرواتها، ورفض التدخل العسكري الأجنبي في الدول العربية. ماذا جرى في ليبيا؟ هل ان تقديم العون والدعم للتحولات الداخلية يتم حسب الظروف الداخلية الخاصة بكل دولة؟ وهل رعاية المصالح التركية الوطنية العليا هي المبررات الاساسية للمشاركة في الحرب على القذافي؟ طبعا مع الاستناد إلى الشرعية الدولية والتحرك في إطار القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة التي تؤكد تركيا على التمسك بها.
هل انسجمت رؤية داوود أوغلو مع الواقع العربي الجديد؟ هل حدّت الثورات التي يشهدها العالم العربي من سياسة تركيا باقامة علاقات لا تشوبها مشاكل مع جاراتها (صفر مشاكل) من اجل بناء علاقات اقوى مع القادة العرب؟
ربما اجبرت الاحداث الجارية اوغلو على اعادة النظر في سياسة “اللامشاكل” التركية. ان السرعة القياسية التي ادت بتركيا الى مطالبة مبارك بالتنحي والارتباك الذي ساد موقفها من الانتفاضة التي جرت في ليبيا، البلد الذي تشارك فيه نحو مئتي شركة تركية في مشاريع بناء تصل قيمتها الى اكثر من 15 مليار دولار بالاضافة الى 25 الف عامل او اكثر من الاتراك يطرح تساؤلات حول موقفها الذي لم يكن مفهوما مع ان اردوغان كان قال بأن تدخل الحلف الاطلسي عسكريا في ليبيا سيأتي بنتائج عكسية.
لكن عادت تركيا ووافقت على تولي الحلف جميع العمليات العسكرية في ليبيا، وارسلت سفن حربية بقيادة الحلف الاطلسي. هل اقتضت مصالحها الاقتصادية هذا التحالف لا سيما ان الاذعان للقرارات الدولية هو مبدأ اساسي في تصريحات اوغلو في الموقف من الثورات العربية؟
هل يمكن القول أن “الديموقراطية في العالم العربي قضت على سياسة اقامة علاقات خالية من المشاكل مع الدول العربية”؟ يبدو ان الديبلوماسية التركية استدركت هذا التغيير وحّدت الموقف الجديد تجاه الثورات مما يثبت بدون جدل أن تركيا تسلك سلوكا براغماتيا تجاه الثورات وتجاه الدول ولا تحيد عن الخط الاميركي بدءاً بمصر وصولا الى سوريا. بدت تركيا في الآونة الأخيرة لاعِـبا إقليميا ودوليا، لا يقل انخراطه في القضايا التي تبدو داخلية عن انخراط القوى ذات المدى العالمي في القوة والهيمنة. لقد اختصر اردوغان السياسة التركية، عقب مطالبته معمر القذافي بالرحيل بقوله أن سياسة تركيا تمليها المصالح الوطنية واكد انه لم يدع القذافي إلى التنحي، بل طالبه بإجراء انتخابات نيابية ورئاسية يمكن أن يشارك فيها وأبناءه، مثلهم مثل غيرهم من الليبيين لكن لم يمتثل. هو يبرر موقفه لكن في كل خطوة يقوم بها الناتو نجد الموقف التركي غير معارض. ربما فهم الاتراك بأن لا دور سياسياً لهم بل يجب عليهم حماية مصالحهم.
ربما كانت لدى أردوغان في البداية مخاوف وهواجس مشروعة من تحول التدخل العسكري إلى احتلال في ليبيا أو الى تقسيمها طلبا لنفطها، على غرار ما حصل في العراق اوفي أفغانستان، لكنه اكد أن تركيا يمكن أن تلعب دورا إنسانيا. ومهما كانت هذه الشروط أو الدور الإنساني الذي تلعبه تركيا في ليبيا فإن هذا الموقف يعتبر تراجعا واضحا عن الموقف الأول الرافض لجميع أنواع التدخل.
العلاقات التركية – السورية بين الحرص والمصلحة
لقد شهدت العلاقات التركية مع كل من ايران وسوريا والعراق والعديد من الدول العربية انتعاشا كبيرا في ظل حكم حزب العدالة والتنمية. وقعت تركيا سلسلة من الاتفاقيات التجارية مع هذه الدول بما فيها اتفاقات للتنقل بينها بدون تأشيرات سفر. لكن الاحداث الاخيرة في سوريا وما يواجه رئيسها بشار الاسد، اخاف تركيا على مصالحها مع الدولة الجارة التي تشاركها حدوداً بطول 800 كيلومتر ويقع بها شريط كردي على طول هذه الحدود.
موقفها من سوريا مختلف عن موقفها من الدول العربية الاخرى، وهي نقطة تحسب لتركيا ولا تحسب عليها لا سيما مراعاة خصوصية كل دولة وظروفها ومصالح تركيا المتشابكة معها. فهي حاولت الحفاظ على رصيدها وصورتها الجيدة في نظر بعض الشعوب العربية، كدولة مساندة لحقوقهم المشروعة وداعمة لمطالبهم في الحصول على الحرية والديموقراطية، كما تحسين صورتها داخليا أمام شعبها كحكومة ديموقراطية تدعم حق كل الشعوب في الحصول على الحرية، خاصة مع اقتراب الانتخابات العامة المزمع عقدها في شهر حزيران المقبل، وإبعاد شبهة دعم الأنظمة الديكتاتورية عن نفسها وهو الأمر الذي قد يقلل من شعبيتها إلى حد كبير.
في المقابل يمكن القول بأن سوريا منحت تركيا الإستقرار الأمني في المسألة الكردية وفتحت لها الحدود، كما منحتها دور الوسيط بين سوريا وإسرائيل، تماما كما فعلت إيران في اقتراحها تفويض تركيا القيام بمفاوضات البرنامج النووي مع الغرب.
لكن حين بدأت الإضطرابات في سوريا، لم تتردد تركيا في “استضافة” محمد رياض الشفقة، المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا في مؤتمر صحافي عقده في إسطنبول حيث شنّ هجوما على الأسد. ومع أن وزارة الخارجية التركية أصدرت بيانا تنصّـلت فيه من مواقف الشفقة بحجة ان الديموقراطية التركية لا يمكنها الا السماح بابداء الرأي الا أن هذا التبرير لم يقنع سوريا لا سيما ان التدخل جاء للتوسط لاشراك الاخوان المسلمين في السلطة. مع العلم بأن هناك معارضات في سوريا وليس معارضة واحدة صحيح ان الاسلاميين اقواها لكن هذا الدعم من قبل حزب العدالة والتنمية الاخواني لم يرق للسوريين، ولا حتى الادعاءات الاعلامية باسداء النصائح للسوريين مع العلم بأنهم فعلوا، لكن اظهار سوريا وكأنها ضعيفة وقاصرة اثار حفيظة الحكم والشعب المؤيد على السواء. لمن ارادت تركيا ان توجه الرسالة؟ حكما الى واشنطن.
إن سياسة العمق التاريخي الذي اشتغل عليه قادة تركيا ووزير خارجيتها تحديدا، تفترض الأخوة والجوار والنصح والتعاون والتوفيق وعدم ازدواجية المعايير، لكن لجوء السلطات السورية إلى القوة في التعامل مع المتظاهرين وضع أنقرة في موقف حرج تجاه حليفتها سوريا، وهي عماد سياستها في الشرق الأوسط لذلك ارسلت مسؤول مخابراتها لإقناع النظام السوري بالتخلي عن القوة وبدء الاصلاحات.
إن انتقادات اردوغان للأسد التزمت حدود ابداء النصح، لكن نبرته اصبحت عالية فقط عند دخول الدبابات الى درعا، اذ خشيت أنقرة من عدم استقرار الأوضاع في سوريا والذي قد ينتشر إلى المناطق الكردية في تركيا، ولاسيما انتقال عدد من مقاتلي حزب العمال الكردي من سوريا إلى تركيا. هذا عدا عن ان الوضع السوري يضع اردوغان وسياسة صفر مشكلات في وضع حرج. هذه الامور مجتمعة هي التي حملت اردوغان على حض الاسد على الاصلاح الاقتصادي والسياسي من اجل المصالح المشتركة، لاسيما ان سوريا تشكل بوابة تركيا على العالم العربي. تتمنى تركيا ان ينجلي الوضع في سوريا سريعا وأن يقود الاسد دفة الاصلاح من داخل حزب البعث اولا، أي البدء بالاصلاح الداخلي والاصلاحات الاخرى المطلوبة، والتي ابدى الاسد استعداداً لتطبيقها لا بل بدأ فيها.
هل هناك تأثير للتحركات ضد نظام الأسد على السياسة الداخلية في تركيا التي ستشهد انتخابات عامة في حزيران المقبل؟ ليس بالضرورة، كما ان تأثير العلاقات الاقتصادية المتميزة لتركيا مع جارتها لم تتأثر كثيراً بالاحداث. لكن نظاماً ديمقراطياً اصلاحياً في دمشق سيضع تنمية العلاقات الاقتصادية مع أنقرة في صدارة أولوياته. لا شك في أن سلوك اردوغان يرضي جمهور حزب العدالة والتنمية الذي يؤيده في اقامة علاقات مع سوريا والعالم العربي.
( استاذة جامعية)
النهار