تركيا والحرب على داعش/ سلامة كيلة
تقف تركيا مترددة في المشاركة في “التحالف” الذي تشكّل من أجل الحرب ضد داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، أو بدقة أكبر نرى أنها تعتقد أن أميركا ستكون بحاجة إليها لأن الحرب ضد داعش لن تحسم بالقصف الجوي، بل ستكون بحاجة لقوات برية، وهنا ستكون أميركا مضطرة للتفاهم مع تركيا.
ولذا وضعت شروطا للمشاركة أساسها أن الحرب يجب أن تستهدف النظام السوري كذلك، وأن الهدف يجب أن يكون إسقاطه وليس التخلص من داعش فقط، ولا شك أنها الدولة الوحيدة التي تمتلك قوة عسكرية قادرة على التدخل، ويبدو أن تركيا تريد ذلك، لكن ليس بأي ثمن، بل تهدف إلى تغيير النظام السوري بالتحديد.
وربما كانت هي الوحيدة التي تمتلك هذا الطموح، لأنه لا يبدو أن أميركا قد طرحت على ذاتها هذا الأمر إلى الآن، وربما يتعلق الأمر أيضا بتطورات الوضع في العراق، وبالتفاهم الممكن مع إيران.
ربما هذا التوقّع هو الذي يجعل تركيا تتشدد في رفض المشاركة دون الموافقة على شروطها، لأن الموافقة على هذه الشروط يعني أن تحدد تركيا طبيعة النظام السياسي الجديد في سوريا، ولتشددها “تاريخ” كذلك، حيث اكتشفت بعد عام من الثورة السورية أن لأميركا سياسة لا تصبّ في مصالح تركيا التي كانت تريد تغيير النظام السوري لمصلحة قوى معارضة “حليفة” لها، بينما ذهبت أميركا للتفاهم مع روسيا على حل يعطي الأولوية للسيطرة الروسية على النظام الجديد.
تركيا الآن تعتقد بأنه باتت أمامها فرصة جديدة لكي تعيد فرض شروطها، وبالتالي أن تكون هي من يقرر من يحكم في دمشق. هذه مسألة حاسمة بالنسبة لها، ولهذا ستقاتل من أجلها، نتيجة أن لسوريا أهمية كبيرة في منظور السياسة التركية التي قررها أردوغان منذ أكثر من عقد، والتي أتت رياح الثورة السورية لتعصف بها.
ورغم ضغوط أردوغان على بشار الأسد لكي يجري تغييرا مهما في السلطة لمصلحة تشكيل “دولة تعددية”، فإن بنية النظام السوري لم تكن تسمح بأي تنازل، حتى إن كان هامشيا كما ظهر أصلا في “السياسة الإصلاحية” التي قام بها بشار الأسد، وهو ما جعل تركيا في ورطة، خصوصا أن الأمور لم تكن واضحة في أي مسار تسير سوى أن الثورة سوف تفرض تغيير النظام.
لهذا قررت بعد حوار وضغط لثلاثة أشهر أن تنقلب سريعا وتكون مع الثورة، لكن مع تحضير بديل يخضع لسيطرتها، هو المجلس الوطني المسيطَر عليه من قبل جماعة الإخوان المسلمين.
لقد حصل أردوغان على “امتيازات” كبيرة من بشار الأسد فترة “الصداقة الشخصية” بينهما، حيث وقّع الطرفان تحالفا إستراتيجيا، شمل تشكيل سوق حرة، الأمر الذي جعل سوريا سوقا مهمة للاقتصاد التركي، وممرا مهما للسلع إلى الخليج، إضافة إلى الامتياز السياسي الذي حصلت عليه تركيا في سعيها لأن تهيمن على سوق الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي دفعها لرفع وتيرة “الصراع” مع الدولة الصهيونية حينها. فقد كانت تسعى لأن تصبح “قوة عالمية” كما صرح “وكتب” داود أوغلو قبل سنوات. ولا شك أن ذلك يحتاج لأن تصبح هي القوة المهيمنة في “الشرق الأوسط”، فذلك هو ما يعزِّز اقتصادها وحضورها العالمي، وبالتالي يفرضها فعلا قوة عالمية.
سنلاحظ بأن كل هذا الطموح كان يتمحور حول “كسب سوريا”، التي هي إضافة إلى أنها سوق مهم، ودولة مهمة، هي الشريان الذي ينشط علاقة تركيا الاقتصادية بالخليج.
ولهذا كانت تركيا معنية بأن يكون البديل عن النظام القائم نظاما يرتبط بها لكي تستمر في تكريس كل الامتيازات التي حصلت عليها من نظام بشار الأسد، وهي كبيرة ومهمة. وبهذا يمكنها أن تتحوّل إلى “قوة عالمية”.
ولهذا أيضا ارتبكت حين وجدت أن أميركا تساوم روسيا على سوريا، فأسهمت في دخول “الجهاديين” من أجل أن تربك التوافقات التي كانت تجري بين كل من روسيا وأميركا، لكن عجز روسيا عن الاستفادة من التفاهم مع أميركا لترتيب بديل عن بشار الأسد خلال مؤتمر جنيف2، ومن ثم انكفاؤها بعد انفجار الصراع في أوكرانيا من جهة، ومن ثم عودة أميركا لكي تتدخل في ترتيب وضع المنطقة من جهة أخرى؛ جعل تركيا تعتقد أنه يمكن أن تعيد فرض شروطها، وتحظى بموافقة أميركية لأن تتولى ترتيب وضع النظام الجديد في سوريا.
هذا ما يجعلها تشترط، وترفض المشاركة دون موافقة أميركية على شروطها. لكن، ولتحديد إمكانيات ذلك، لا بد من طرح سؤالين: الأول هل أميركا جادة في سحق داعش، وبالتالي تحتاج فعلا لقوى برية من أجل ذلك؟ والثاني هل تريد أميركا فعلا تغيير النظام السوري؟ وإذا كانت تريد ذلك هل ستفعل ذلك بالتفاهم مع تركيا أو يمكن أن تفعله بالتفاهم مع إيران، أو أن تبقي المجال لدور روسي؟
ما يقوله المسؤولون الأميركيون هو أن المطلوب هو تحجيم داعش وليس إنهاؤها، وأن التركيز هو على وضع العراق وما يجري في سوريا من ضربات هو لقطع الإمداد عن داعش في العراق، وعليه فإن أميركا ربما لا تريد قوات برية.
وكما أشرنا في مقال سابق فأميركا تضغط من أجل التفاهم مع إيران، حيث تريد تحقيق “استقرار” الخليج عبر ذلك، ومن ثم فهي تريد تعديل وضع السلطة في العراق لمصلحة توافق أميركي إيراني، وبعد ذلك ربما تفكّر في معادلة مماثلة في سوريا، وبالتالي إذا ارتأت بأنه يمكن تغيير وضع السلطة في سوريا فسيكون ذلك بالتفاهم مع إيران بالأساس وليس مع تركيا، أو أن يتحقق تفاهم مع أطراف في السلطة مباشرة فتقوم هي برعاية التغيير لمصلحتها.
انطلاقا من ذلك ربما لا يتحقق تفاهم مع تركيا، ومن ثم تترك دون أن تحقق شيئا سوى استثارة الأكراد نتيجة “تخاذلها” في دعمهم في عين العرب، كما قد تبدو شروطها بلا معنى لأن أميركا أصلا لا تريد تدخلا عسكريا في سوريا كما يبدو أكثر من الضربات الجوية، ولعل هذا ما يجعلها تشير إلى حرب طويلة، وتدعو إلى تدريب بضعة آلاف من المقاتلين السوريين على مدى زمني ليس بالقصير، رغم أن الأمر هنا يحتاج إلى سلاح نوعي وليس إلى تدريب مقاتلين فقط.
يبدو أن الهدف الأميركي، إلى الآن -على الأقل- يتمثل في إرباك تركيا، وربما جرها إلى حرب لا معنى لها، لأن كل الحرب على داعش تأخذ شكلا “مظهريا”، أو ربما تسعى إلى زعزعة وضعها في سياق تصور مستقبلي، هي أصلا ليست مستعدة له نتيجة ضعفها الاقتصادي، وعجزها عن استخدام قواتها البرية بعد التحولات التي تبعت الانهيار المالي (والذي يبدو أنه سيتكرر في فترة قريبة)؟
أما تركيا فتعاود طرح طموحها الذي تعتقد أنه الضرورة التي ستجعلها قوة مهمة، فهي تعتقد بأن أميركا ستضطر للموافقة على شروطها نتيجة حاجتها لإنهاء داعش، وهي هنا تنطلق من أساس خاطئ في التحليل. لكنها في كل الأحوال لا تستطيع المشاركة في “الحرب” على داعش وفق المنظور الأميركي الذي يتجاهلها أصلا، ويركّز على إيران بدلا عنها.
لقد كانت أهمية تركيا قائمة حينما كانت أميركا تريد وقف التمدد الشيوعي جنوبا، أما اليوم فهي تريد حصار الصين بعد أن انتهى “الخطر الشيوعي”، ولهذا تحتاج إيران أكثر.
يعني هذا أن تركيا في مأزق كبير، وفي وضع حرج، حيث إن استمرار الصراع في سوريا بالشكل القائم عبر “الحرب على داعش” ربما يؤدي إلى إعادة الحرب إلى تركيا ذاتها. لكنها في الوقت ذاته لا مصلحة لها في دخول حرب ضد داعش من الواضح أنها شكلية إلى أبعد الحدود، وقد تورطها في مشكلات دون أن تحقق لها نتائج مفيدة، لأن الحرب في نهاية المطاف هي “لعبة أميركية” لأغراض سياسية ليست في صالح تركيا.
أظن أن مشكلة تركيا كانت في أنها تعاملت مع الثورة السورية من منظور ضيّق قام على أساس ترتيب سلطة بديلة تابعة لها، في وضع كانت فيه الأحزاب التي اعتمدت عليها غير جديرة بأن تكون قيادة للثورة، وعلى العكس من ذلك كانت ضارّة لأنها بنت سياساتها على أساس صراع غريزي ضد السلطة وبمنظور طائفي، كانت السلطة السورية بأشدّ الاحتياج إليه لتأكيد خطابها الذي قام على طائفية الثورة. وبالتالي كانت تركيا تضع ذاتها في المأزق من الأساس.
الجزيرة نت