صفحات العالم

تركيا والسعودية –مقالات مختارة-

 

 

 

تركيا والسعودية.. حديث جاد/ طارق الحميد

من الصعب فهم «الحملات» الإعلامية المستمرة والتي تطالب بضرورة تشكيل تحالف سعودي تركي الآن، فما هو الأساس لذلك؟ ومتى كان هذا التحالف السعودي التركي حتى يعود؟ الحقيقة أن التحالف السابق بالمنطقة، ودوما، كان سعوديا مصريا، وحاول بشار الأسد من ضمن ألاعيبه الملتوية أن يقحم تركيا بمنطقتنا يوم استغل إردوغان لضرب موقع مصر، مثلما استغل فرنسا ساركوزي لضرب الأميركيين، وهو ما تفطنت له السعودية أيام الملك عبد الله بن عبد العزيز رحمه الله، وحتى عندما دعا السيد عمرو موسى، يوم كان أمينا للجامعة العربية، إلى تشكيل ما سمي وقتها برابطة الجوار العربي، على أن تدخل به تركيا وإيران، رفض ذلك المشروع سعوديا ومصريا، ووئد بحينه، فأين هذا التحالف المزعوم؟

إذا كان الحديث عن مصالح وعلاقات فهذا صحيح، حيث يجب أن لا تتحول السعودية إلى دولة مقاطعة، فهذا لا يشبه السعودية، ولا هو قدرها، لكن السعودية لا يمكن أن تحشر بزاوية آيديولوجية، أو طائفية، ضيقة، كما حشر البعض نفسه ذات يوم مع حزب الله، والإخوان المسلمين، فهل يفترض بالسعودية أن تنزل بقدرها لمستوى تنظيم الإخوان لتضحي بمصر، مثلا؟ هذا عبث! والعبث أيضا أن يقال إنه يجب أن يتم التعامل مع الإخوان كشأن داخلي مصري، فهل يمكن أن نعتبر الحوثيين شأنا داخليا يمنيا، والأمر نفسه بالبحرين، وليبيا، وسوريا؟ وأما في حال أن يقال أن يكون للسعودية وتركيا دور لتغطية الفراغ الذي تتركه أميركا بالمنطقة، وأمام التغول الإيراني، وفشل العراق، بحيث تلعب الدول الإقليمية الكبرى، السعودية ومصر وتركيا، دورا، فهذا صحيح، لكن هل لدى الأتراك استعداد للعب هذا الدور، وإدراك أهمية مصر؟

هذا هو السؤال، حيث لا يمكن، ولا يعقل، التخلي عن عمقنا الأمني العربي، أي مصر، للتقارب مع تركيا هكذا، وحسب ما يطالب به البعض، فمتى كان هناك تحالف سعودي تركي حتى يُفعّل؟

والسؤال الأهم هنا هو: من هي الدولة الحليفة لتركيا الآن، أو بالأمس؟ لا أحد سوى سوريا الأسد سابقا، ويوم كانت أنقرة ترعى المفاوضات السورية الإسرائيلية، وكذلك التحالف التركي القطري، بينما لم نعرف يوما عن تحالف سعودي تركي، أو سعودي مصري تركي، بل إن لإردوغان تصريحا شهيرا حول التحذير من كربلاء جديدة في البحرين وقت تدخّل قوات درع الجزيرة، ثم نفي التصريح في عشاء خاص في مكة المكرمة، وقيل إن المقصود بتصريحه هو ليبيا، وما علاقة ليبيا بكربلاء أصلا؟ وعليه فلماذا الدعوة لتحالف سعودي تركي الآن؟ وما هي المصالح؟ هل تغيرت تركيا؟ الإجابة لا! إذن لماذا نهدد مصالحنا، ونتغير، ومصر هي عمقنا؟

والمقلق أن من يطالبون الآن بتحالف سعودي تركي هم نفس من كانوا يبررون لحزب الله، وحماس، والأسد بالأمس، وهم من يطالبون الآن بفتح صفحة جديدة مع الإخوان المسلمين رغم أن الإخوان مزقوا الدفتر ككل! فما هو المقصود إذن؟ ولماذا إعلامنا العربي بلا ذاكرة لهذا الحد؟!

إعلامي و كاتب سعودي ورئيس تحرير سابق لصحيفة “الشّرق الأوسط”

الشرق الأوسط

 

 

 

 

الرياض وأنقرة: حسابات الاصطفاف الجديد/ مصطفى اللباد

ما زالت أصداء التحركات السعودية تجاه أنقره تملأ أفق النقاش السياسي في المنطقة، وما انفكَّ التحالف المزمع بين العاصمتين لموازنة النفوذ الإيراني في المنطقة يثري خيال المؤيدين ويثير مخاوف المعارضين. وبرغم اختطاف كلمة نتنياهو في الكونغرس الأميركي لانتباه المراقبين ليوم أو اثنين على الأكثر، إلا أن موضوع التحالف السعودي – التركي استمر معلّقاً في الأجواء الإقليمية، ويبقى مرشّحاً للبقاء فيها لفترة مقبلة. ويعود السبب في ذلك إلى أن تركيا والسعودية لا تملكان ـ موضوعياً – بدائل أفضل من التقارب في ضوء الكباش الإقليمي الحالي، برغم تباين حسابات الطرفين لهذا الاصطفاف الجديد.

حسابات السعودية

اختارت الرياض توقيت زيارة أردوغان وهي عالمة بعزلته الإقليمية، ما يعني أن رغبة السعودية في طرح اصطفاف إقليمي مع تركيا تعني بلا مواربة مواجهة إيران ومن أمامها حليفها النظام السوري، من دون نقاش تركي كثير حول «الأسس القيمية» لهذا التحالف، ومن دون سماع رطانة أردوغان حول «الربيع العربي»، وهو أمر لا تحبّذه الرياض ولا تريده ولا يناسب أهدافها الإقليمية. دخلت المفاوضات النووية الأميركية – الإيرانية مراحل متقدمة، وقدرات الرياض في التأثير على مسارها محدودة، وبالتالي فالأوفق – من المنظور السعودي – استباق نتائجها بتغيير الواقع على الأرض في سوريا لغير مصلحة إيران. وحتى تستطيع الرياض تعظيم قدرتها على مواجهة طهران وتحالفاتها الإقليمية، فقد توجب عليها ضم تركيا إلى جهدها الإقليمي. ومن ثم تطبيع العلاقات بين الرياض والدوحة، وتسيير الأخيرة بقدراتها المالية والإعلامية الضخمة وعلاقاتها الإقليمية المتشعبة في مسار التكتل الإقليمي بمواجهة طهران، لأن الدوحة احتفظت لنفسها بمسافة واضحة عن السعودية فيما يخص إيران طيلة العقد الماضي. هنا تظهر بوضوح الفوائد السعودية من ضم تركيا إلى التحالف الإقليمي الجديد، أما الخسائر فتبدو ـ من المنظور السعودي مقارنة بالفوائد – ممكنة الاحتمال. الخسائر السعودية المحتملة للتحالف مع تركيا هي: أولاً امتعاض القاهرة، ثانياً تحفّظ أبو ظبي، ثالثاً الخلاف المرتقب مع أنقره في حال إطاحة الرئيس السوري، لمعرفة السعودية بأفضليات تركيا في النظام السوري الجديد التي تتصادم مع أولوياتها. فيما يخص القاهرة يبدو بوضوح أن عامل الإسناد المالي السعودي للنظام المصري يعطي الرياض ورقة ضغط لا يمكن الاستهانة بتأثيرها، خصوصاً في ضوء التحديات الاقتصادية والأمنية والسياسية التي تمر بها القاهرة. وفيما يخص أبو ظبي، تعتقد الرياض أن العباءة الخليجية والمصالح المشتركة ستخففان كثيراً من ردّ الفعل الإماراتي المتحفّظ على تركيا وجماعة «الإخوان المسلمين»، حتى مع الانتعاش المرتقب لأدوار الدوحة في معية الاصطفاف السعودي – التركي الجديد. أما فيما يخص الموقف من ملامح النظام السوري الجديد ـ في حال سقوط النظام الحالي ـ فتعتقد الرياض أن لا حظوظ لها كلياً مع النظام الحالي الواقع بالكامل في القبضة الإيرانية، وبالتالي عند سقوطه ستتاح للرياض الفرصة للتأثير في خيارات تركيا بوسائل متنوعة فيما يخص الرئيس السوري الجديد.

حسابات أردوغان

عاشت تركيا فترة عصيبة قبل قيام أردوغان بزيارته الأخيرة إلى السعودية، فأنقره عانت من عزلة إقليمية قلّ نظيرها بعد إطاحة حكم جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر. وتحولت أنقره من «قبلة الثائرين» و «منارة التحديث» بعد انتفاضات «الربيع العربي»، إلى طرف إقليمي له أطماع في المنطقة يتوسّل نفوذه بالتحالف حصرياً مع «الإخوان المسلمين» في ساحات «الربيع» كلها: تونس وليبيا ومصر وسوريا. ومع إطاحة الجماعة في أعقاب تظاهرات 30 حزيران 2013 من الحكم في مصر، وخسارتهم نتيجة الانتخابات التونسية، وانحدار الحراك في ليبيا إلى حرب أهلية، وضياع الجماعة على موائد الرغبات الإقليمية والدولية بخصوص سوريا، فقد ذهب حلم أردوغان في القيادة الإقليمية أدراج الرياح. وتحول «الربيع العربي» من فرصة ممتازة لتركيا كي تمدد نفوذها الإقليمي في مرحلته الأولى، إلى عازل لتركيا في مرحلته الثانية مع تبلور تحالف سعودي – مصري – إماراتي يعزل أنقره ويمنعها من تمديد نفوذها بالمنطقة. ومع الخطوط الحمر الأميركية والاعتبارات الداخلية التركية، فقد رُسم خط أحمر واضح لتركيا لجهة انخراطها بفعالية في الشأن السوري، فلم يتبق لها سوى غضّ الطرف عن «داعش» وتحويله إلى ورقة في المساومات بين أنقره وواشنطن. في لحظة التخلي الإقليمية هذه، جاءت الدعوة السعودية من الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز، لتكسر طوق العزلة الإقليمية عن تركيا. لم يتأخر الرئيس التركي بالطبع عن تلبية الدعوة، مع علمه بأن السعودية لا تحبذ عودة «الإخوان المسلمين» للحكم في مصر، وإنما في أفضل الأحوال تحويلهم من قضية صراعية في مصر إلى فصيل سياسي لا يحظى بمرتبة اللاعب الأول، وبالتالي تركيز الأولويات الصراعية على الخطر الإيراني المتمدد. بمعنى آخر، المعروض على تركيا كسر طوق عزلتها الإقليمية مقابل انخراطها في اصطفاف جديد لموازنة النفوذ الإيراني، بحيث تكون سوريا ساحة لأفعال وتجليات ذلك الاصطفاف الجديد. لم تعد خيارات تركيا كثيرة في الواقع، بعدما أرست تحالفاتها حصرياً على جماعة «الإخوان المسلمين». وبالتالي، وفي كل الأحوال، مثّلت زيارة أردوغان للسعودية مكسباً بفك عزلته الإقليمية أولاً، والانطلاق نحو تغيير غريمه النظام السوري ثانياً. يُمنّي أردوغان نفسه بأفضل الفرص في إيصال رئيس سوري جديد يتخذ من أنقره مرجعيــــته الإقليمية؛ وفي تحويل الشمال الـــسوري ـ من حلب وحتى إدلب ـ إلى منطـــقة «حدود رخوة» تعرف هيمنة اقتصادية تركية.

الخلاصة

لا تبدو التحركات السعودية تجاه تركيا و «الإخوان المسلمين» متعلقة فقط بتغيير شخص الحاكم من الملك الراحل عبد الله إلى الملك الحالي سلمان، وإنما بالأساس إلى تبدّل التوازنات الداخلية السعودية بالتوازي مع تغير التوازنات الإقليمية. ربما يكون لتفسير هيمنة «الجناح السديري» على الحكم من جديد بعض الوجاهة التفسيرية للتحول في السياسة الإقليمية السعودية، لكن مقتضيات التحالف بين العائلة السعودية الحاكمة بكامل أجنحتها والمؤسسة الدينية الوهابية كأساس لمشروعية الحكم، تملك قدرة تفسيرية أعلى لأسباب تغير السياسة الإقليمية السعودية، حتى تصبح أكثر صلابة في مواجهة إيران الشيعية. في هذه الحالة، تحقق السياسة السعودية الجديدة هدفين ثميـــــنين: الأول تمتين التحالف السعودي ـ الوهابي في الداخل بعد «الإصــــلاحات» التي قام بها الملك الراحل عبد الله على محــــدوديتها، والثاني تصليب المعسكر السعودي في مواجهــــة إيران وتحالفاتها الشيعية. ولا يخفى في النهاية بأن التكتل السني في مواجــــهة التكتـــل الشيعي، أمر يصب في التصورات الأميركية الخاصة بترتــــيب الأوزان الإقليمية في المـــشرق العربي والمنطـــقة، بحيـــث يحجّم كل منهما الآخر من دون أن يقضي عليه.

من الناحية العملية، تعرف السعودية قدراتها وحدودها، فهي تواجه إيران على الأقل منذ احتلال العراق العام 2003، وتواجه تركيا في الوقت نفسه منذ العام 2013. ومن شأن تحويل تركيا من منافس إلى شريك بمقتضى السياسة السعودية الجديدة، تسهيل المهمة السعودية في مواجهة إيران. لكن ومن وجه ثانٍ، يعني سعي الرياض نحو الاصطفاف مع أنقره على وجاهة أسبابه من المنظور السعودي، عملياً إلحاق الرقم العربي في المعادلة الشرق أوسطية ـ على تراجعه وتضاؤل تأثيره ـ بتركيا الطامحة في صراع التوازن مع إيران الناخرة فعلياً لهذا الرقم. إذا كان تشخيص الداء الحالي هو تراجع الرقم العربي في المعادلة الإقليمية بسبب تعاظم أدوار القوى غير العربية، فالدواء يتطلب بداهة تعظيم الرقم العربي في المعادلة أو تخفيف أدوار القوى غير العربية حتى لا نقول كلاهما معاً. أما الاستعانة بأحدها في مواجهة الأخرى، فيعني انطباق المثل القائل: «وداوني بالتي كانت هي الداء».

لم تعد حواضر العرب الكبرى في المشرق العربي فاعلة في رسم توازنات المنطقة، إذ أصبحت الصراعات / التحالفات في المنطقة تدور في دائرة أقطابها السعودية وإيران وتركيا. في هذه الأثناء، سيعود عرب كثيرون في المشــــرق العربي وخارجه لـــــتذكر بيتي شعر لبيد بن ربيعة العامري المتوفى العام 661 ميلادية:

فَإِن تَسأَلينا فيمَ نَحنُ فَإِنَّنا .. عَصافيرُ مِن هَذا الأَنامِ المُسَحَّرِ

عَبيدٌ لِحَيِّ حِميَرٍ إِن تَمَلَّكوا .. وَتَظلِمُنا عُمّالُ كِسرى وَقَيصَرِ

السفير

 

 

الحرب السوريّة كحرب حدوديّة: “التتْرَكَة” و”الأَرْدَنة”/ جهاد الزين

لأن الأزمةَ السوريّةَ معقّدةٌ جداً وملتهبةٌ وتدميريّةٌ قبل تداخلها المباشر مع الوضع في العراق وبعد هذا التداخل، ماذا لو قمنا اليوم بتمرين يحاول تبسيط هذه الأزمة – الحرب الضارية من منظور حدود الدول المحيطة وبالتالي قرار تهدئتها مثل تفجيرها كقرار حدودي؟

العمل الأول في هذا التمرين عملٌ حدودي. أي أن ننتبه إلى أنه بعد كل شيء، كل شيء، فإن الصراع العسكري في سوريا مفتوح على “حدودَيْن” اثنتين أساسا بل من الناحية العملية “لا ثالثة” لهما: الحدود السورية مع تركيا والحدود السورية مع الأردن. أما الحدود مع العراق ولبنان وإسرائيل فهي حدود “تابعة” وليست الأساسيّة في الصراع السوري.

إذن كلُّ الحدود السوريّة الأخرى هامشيّة في الصراع داخل سوريا وإذا لم تكن هامشيّة فهي لا قيمة فعليّةً لها من دون “الحدودَيْن” الإثنتين مع تركيّا والأردن، البابَيْن الرئيسيّيْن لعملية عَسْكَرةِ الأزمة السورية التي حصلت في أواخر عام 2011 بعد أشهر قليلة من الثورة المدنيّة الطابع والداخليّة الطابع فيما هذه العسكرة، أي فتح “الحدودَيْن” التركية والأردنية مع سوريا، حوّلت الأزمة إلى أزمةٍ خارجيّة إقليميّة ودوليّة لا تزال مستمرّة وإلى حرب أهليّة معاً.

ماذا تعني “التّتْرَكَة” و”الأَرْدَنة” الحدودية للحرب السوريّة؟

تعني أنه إذا شاءت “لعبة الأمم” الإقليميّة والدوليّة أن تقفل هاتين “الحدودَيْن” فإن الحرب السوريّة تصبح أسهل على الحل بل تصبح مهيّأةً لعزل الداخل الذي سيصبح ترتيبه في هذه الحالة مسألة وقت وربما أسرع من المنتَظَر.

ماذا يبقى من جبهتي الشمال الأساسيّيتين في حلب وريف إدلب لو قرّرت الحكومة التركية لسببٍ ما، أو لأسبابٍ ما، أن تقفل حدودها مع سوريا؟ وماذا سيبقى من جبهة الجنوب لو قرّرت السلطة الأردنيّة إقفال حدودها مع سوريا؟ أي منع كل أنواع تدفّق المقاتلين والأسلحة إلى الداخل السوري أو سد منافذ الخروج على ميليشيات المعارضة؟

لنتخيّل أن اتفاقاً دوليّا حصل على هذا الإقفال فالسؤال الثاني في هذا التمرين التبسيطي سيصبح: كم سيستغرق وقف إطلاق النار الشامل ولاحقا انتهاء الحرب بصورتها الراهنة الطاحنة وعودتها لتكون “مجرد” (مع الاعتذار على كلمة “مجرّد” بعد كل هذه الضحايا) أزمة داخلية بين النظام السياسي وشرائح معترضة من النخبة والمجتمع؟

الأرجح بل المؤكّد أن إقفال “الحدودَيْن” التركيّة والأردنيّة سيعني السيطرة المباشرة على مسار الحرب أي وقفها.

نقول ذلك لنخفِّف على أنفسنا الدُوار الذي يصيبنا من مجرّد التفكير بصعوبة وقف الحرب بعد كل هذا التداخل والتفتّت العسكري في سوريا. التبسيط هنا يضيء على الحقيقة الحدوديّة الصارخة للأزمة السوريّة منذ بدأت عسكرتُها، أي منذ قرّر الغرب وحلفاؤه إنهاءَ الطابع المدني للثورة، أي إنهاء الثورة، وتحويلَها إلى حرب عسكرية من حدود مفتوحة ومنظّمة شمالاً مع تركيا وجنوبا عبر الأردن… كل ذلك بهدف الإسراع في إسقاط النظام، والبعض في المعارضة بات يقول همساً، بهدف تدمير سوريا بذاته.

إذن المسألة التي تبدو الآن وكأنها دخلت في طاحونة أكثر من عشر سنوات آتية ربما، لنبسِّط على أنفسنا، قد لا يستغرق وقفُها الوقتَ الطويلَ الذي نظنّها تحتاجه حاليا.

طبعا ما حصل في سوريا في السنوات الأربع المنصرمة تحتاج معالجاته في البشر والحجر وتفكك المجتمع والدولة وتدمير سبع مدن كبيرة وأرياف لا تحصى إلى عشرات السنوات. لكنْ ما أعنيه هنا هو أن السيطرة على هذه الحرب ليست بالصعوبة التي نتصوّر متى توفّر إغلاق “الحدودَيْن” التركية والأردنية.

أعرف أنه فات الأوان ربما على خروج صوت شجاع من المعارضة العلمانية أو المدنية ليعترف أن الثورة ماتت بصيغتها الأولى وأن سوريا، كياناً ومجتمعاً ودولة، باتت تحتاج إلى إنقاذ يتجاوز مجرّد موضوع الاعتراض على النظام الذي أصبح موضوعا ثانويا قياسا على المخاطر الوجودية التي غرقت فيها سوريا. أين هو هذا الصوت الشجاع القادر على الاعتراف بأن ما تحتاجه سوريا اليوم هو الإنقاذ لا الثورة التي تحطّمت بين مدافع النظام والوحوش الأصولية والمخطّطات الخبيثة للدول الإقليميّة والدوليّة المهمّة في هذا الصراع؟

يبقى سؤال آخر ربما يبدو وكأنّه يعيق هذا التمرين التبسيطي أو يتناقض معه. أعني ظاهرة “داعش” باعتبارها ممتدّة على سوريا والعراق معاً ممّا قد يلغي الخصوصيّة السوريّة للحل؟

هذه الخصوصية موجودة. فوجود “داعش” السوري هو أساسا في مناطق “هامشية” في الجيوبوليتيك الحربي والسياسي السوري من أقاصي ريف حلب الشرقي إلى مدينة الرقة. الأساس أن “داعش” موجودة في الصحراء السورية بينما مناطق الصراع، تاريخيا والآن عسكريا، هي على الخط الذي صنع دوما شخصية سوريا الحديثة وهو الآن محور الصراع الضاري الخارجي عليها: مثلّث دمشق حلب الساحل. هذه هي سوريا السياسيّة منذ عهد الانتداب الفرنسي مرورا بحقبات الاستقلال. أقصد من الناحية السياسيّة مع كل الاحترام النضالي والرومنطيقي لمناطق الجزيرة. بينما في العراق “داعش” وصلت إلى القلب: إلى حدود بغداد وسيطرت على المدينة الثانية أو الثالثة في البلاد، الموصل، ووقفت على حدود “الحصان الذهبي” للنظام الدولي في العراق أي الإقليم الكردي وهدّدتْهُ. وهذا أمر مختلف عن وضعها في سوريا.

عندما قرّرت “لعبة الأمم” في الحرب الأهلية اللبنانيّة وقف الحرب في الثمانينات من القرن المنصرم باشرت بقطع اقتصاد الحرب عن القوى الداخلية. أما في سوريا فبنية الحرب العسكريّة حدوديّة. ذات يوم قد نُدْهَش من مدى قدرة “لعبة الأمم” على وقف سريع لما يبدو انه الآن صراعٌ أبدي.

النهار

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى