ترمب والمناطق الآمنة في سوريا/ عبد الحسين شعبان
لعل من بين مخرجات ما بعد مؤتمر الأستانة، هو عودة الحديث عن المناطق الآمنة “في سوريا وجوارها”، كما جاء على لسان الرئيس الأميركي دونالد ترمب خلال محادثته الهاتفية مع العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز.
وقد شهدت الأزمة السورية حوارات عديدة ونقاشات مختلفة ومتنوعة ورؤى دبلوماسية دولية متفاوتة بشأن المناطق الآمنة، تراوحت بين تأييد حار من جانب باريس ولندن وأنقرة والرياض والدوحة، وتردد أميركي وتحفظات روسية ومعارضة إيرانية ورفض حكومي سوري، كما أن العديد من أطراف المعارضة كانت قد طالبت بإقامتها، في حين شككت أطراف أخرى بها، إلا إذا كان القصد منها ممرات إنسانية آمنة ومحمية للمساعدة في تأمين حاجات السكان الحيوية.
وكان خبراء غربيون عسكريون قد اقترحوا في وقت سابق (أواخر العام 2014) الحصول على تفويض دولي لإقامة مناطق “حظر جوي “No Fly Zone، بهدف حماية مجموعات المعارضة السورية، والمدنيين والنازحين كما جاء في تبريرهم، لكن عدم الحماسة الأميركية في حينه حال دون تنفيذ الفكرة.
ويختلط مفهوم “المناطق الآمنة” بغيره من المفاهيم، وتجري مقاربته من زوايا مختلفة، سواء بخلط متعمد أو غير مقصود، علما بأن هناك فرقا بين فكرة المنطقة الآمنة التي تسمى Safety Zone أوSafety Area ، وبين المنطقة العازلة Buffer Zone وبين ما يسمى بالملاذات الآمنة Safe Havens، مثلما تختلف هذه المصطلحات عن مصطلح المناطق المنزوعة السلاح Demilitarized Zone، وهناك أمثلة لكل حالة من الحالات، فهذه المفاهيم مختلفة ومتباينة من زاوية القانون الدولي المعاصر واتفاقيات جنيف لعام 1949 وملاحقها وقواعد القانون الإنساني الدولي.
المنطقة العازلة تنشأ بفعل وجود نزاع دولي مسلح قائم، ويتم تحديد منطقة عازلة للفصل بين المتنازعين، وفي الغالب لها معنى عسكري، في حين أن المنطقة الآمنة لها معنى إنساني وهي تخضع لقواعد القانون الإنساني الدولي، وقد بحثتُ في اتفاقيات جنيف لعام 1949 وملاحقها، ولم أعثر على كلمة “مناطق آمنة”، إلا إذا اعتبرنا المقصود “المناطق الطبية” والمراد بها المستشفيات والطواقم الطبية وجمعيات الصليب والهلال الأحمر الدوليين وغيرها، أو “المناطق المحايدة” (المناطق المحرمة التي لم يحسم أمرها)، أو “المناطق المنزوعة السلاح” مثلما هي بين القسم التركي والقسم اليوناني في قبرص وبين سوريا وإسرائيل في هضبة الجولان، وهذه جميعها غير المقصودة بالمناطق الآمنة التي يريدها الرئيس الأميركي.
إن غرض الملاذات الآمنة Safe Havens هو حماية المدنيين ومنع تدفق أعداد كبيرة وجديدة من النازحين واللاجئين، وقد استخدم هذا الشكل من “الحماية” بعد الهجرة الواسعة التي شهدتها كردستان بعد حرب الخليج الثانية العام 1991، وانسحاب القوات العراقية من الكويت، حيث أقيمت منطقة آمنة بقرار من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بمعزل عن مجلس الأمن الدولي.
وبالمناسبة لم تمكن إقامة المناطق الآمنة في الكثير من الأحيان من حماية المدنيين، فقد أقام مجلس الأمن الدولي 6 مناطق آمنة في البوسنة والهرسك لحماية المدنيين من هجمات القوات الصربية، لكن ذلك لم يمنع الصرب من ارتكاب مجازر ضد المدنيين أخطرها وأكثرها شهرة مجزرة سربرنيتسا التي راح ضحيتها نحو 8 آلاف مسلم (يوليو/تموز عام 1995)، كما لم يمنع قرار إقامة مناطق آمنة في رواندا من ارتكاب مجازر الإبادة الجماعية التي استمرت نحو 100 يوم (6 أبريل/نيسان ولغاية منتصف يوليو/تموز عام 1994)، والتي راح ضحيتها نحو 800 ألف إنسان، وقُتل فيها نحو 75% من قبيلة التوتسي على يد جماعة الهوتو.
أما بخصوص المنطقة العازلة فهي مساحة جغرافية من الأرض، يتم عزلها عن جوارها عسكريا بواسطة البر في الغالب، وأحيانا في البحر والجو، وتمثل “حدودا” بين الأطراف المتنازعة، وتكون داخل أراضي المتنازعين، سواء كانوا دولا في حالة الحروب أو مساحة من الأرض في حالة الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة الداخلية، والهدف هو حفظ الأمن على الحدود ومنع تسلل الجماعات المسلحة وغيرها من الأمور الحدودية والأمنية. وأحيانا تفرض دولة ما أو دولا منطقة عازلة بالقوة من طرف واحد أو من عدة أطراف، سواء عبر شريط حدودي كما تفعل “إسرائيل” بعمق عشرة كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية، وفي المناطق العازلة تستخدم أحيانا قوات دولية أو قوات لحفظ السلام، لكي تحول دون حدوث اصطدامات مجددا.
وتفترض المنطقة الآمنة وجود مجموعة من السكان لا تستطيع حماية نفسها وتستوجب توفير حماية دولية لها، وأحيانا تشمل منع تحليق الطائرات العسكرية فوق المساحة الجغرافية المحددة خوفا من تعرض السكان المدنيين للخطر، الأمر الذي يتطلب اتخاذ التدابير التي من شأنها حماية السكان المدنيين.
لقد راج موضوع “المناطق الآمنة” تحت عنوان “التدخل الإنساني”Humanitarian Intervention أو “التدخل لأغراض إنسانية”، بهدف حماية المدنيين، وعلى أساس هذه الفكرة تدخلت الأمم المتحدة في عدد من البلدان تحت يافطة “حماية حقوق الإنسان” أو باسم “حماية الأقليات” والمقصود (المجموعات الثقافية، الإثنية أو الدينية أو اللغوية أو السلالية) أو غير ذلك، ولكن القسم الأعم الأغلب من هذه التدخلات كان مردودها عكسيا، خصوصا حين يتم استخدامها أداة بيد القوى الكبرى المتنفذة لفرض الإرادة والهيمنة، لا سيما إذا اقترنت بالتدخل العسكري والذي كانت نتائجه وخيمة في جميع التجارب الدولية، وقد أدى إلى انتشار الفوضى والعنف وإضعاف الدولة الوطنية، كما حصل باحتلال أفغانستان والعراق، والتدخل العسكري في ليبيا واليمن وسوريا، وقبل ذلك في كوسوفو وغيرها من التجارب المريرة التي دفعت بسببها الشعوب أثمانا باهظة.
وإذا كان التدخل لأغراض إنسانية أمرا مشروعا، فإنه يقتضي:
– أولا وقبل كل شيء التمييز بين الحاكم والشعب، فقد كان الحصار الذي فُرض على عدد من البلدان وفي مقدمتها العراق وليبيا والسودان وكوبا (وإن كان الأخير خارج نطاق مجلس الأمن) وغيرها، سببا مضاعفا في هدر حقوق الإنسان وفي إلحاق الأذى بالشعب عموما، فما بالك بالتدخلات العسكرية.
– وثانيا ينبغي أن يتم تطبيقه خارج نطاق ازدواجية المعايير وسياسة الكيل بمكيالين، لأن التمييز من شأنه أن يزيد القضية تعقيدا ويضعف الثقة بشرعية مثل هذا التدخل ويلغي وجهه الإنساني.
– وثالثا يتطلب صدور قرار من مجلس الأمن وأن تقوم الأمم المتحدة بتنفيذه وليس انفراد جهة متنفذة به، الأمر الذي سيضعها في موضع الآمر والسيد والمهيمن، وحينذاك سيمكنها من تقديم مصالحها الخاصة الأنانية الضيقة على حساب مصالح المجتمع الدولي وشعوب البلدان التي تزعم التدخل لحمايتها.
إن إدارة الرئيس ترمب التي طرحت اليوم مجددا موضوع إقامة المناطق الآمنة في سوريا وجوارها، حسمت تردد الرئيس السابق باراك أوباما الذي ظل يتذرع باحتمال “فيتو روسي صيني”، حيث لم ترغب واشنطن في تكرار تجربة العراق بعدم العودة إلى مجلس الأمن الدولي. وتأتي دعوته هذه بعد مؤتمر الأستانة واللقاء الروسي بقوى المعارضة وعشية مؤتمر جنيف.
وكان العاهل السعودي قد دعم فكرة إقامة المناطق الآمنة، ليس في سوريا فحسب، بل في اليمن، كما وسع الفكرة الرئيس الأميركي، وكانت قطر هي الأخرى وتركيا قد رحبتا بإقامة مناطق آمنة للمدنيين، وقد اعتبر ترمب أن أوروبا ارتكبت خطأ كبيرا بالسماح بوصول ملايين اللاجئين إليها، في تبرير له لإقامة “المناطق الآمنة”.
ويندرج قرار إقامة “المناطق الآمنة” ضمن الفصل السابع الخاص بالعقوبات إذا ما صدر عن مجلس الأمن، وسيكون بهذا المعنى ملزما لأنه يعطي الحق باستخدام جميع الوسائل لفرض احترام قواعد القانون الدولي، بما فيها القوة المسلحة، لكن مثل ذلك يحتاج إلى عدم استخدام الفيتو من جانب روسيا والصين، بل موافقتهما على مثل هذا القرار، ويُعتقد أن موسكو لا تزال تدعم حليفتها دمشق ولن تتخلى عنها، ولهذا فإنها لن تستجيب لقرار إقامة “المناطق الآمنة” إلا بالاتفاق مع الحكومة السورية وبالتنسيق معها.
لم يحدد الرئيس الأميركي مفهومه للمنطقة الآمنة، وقد سارعت روسيا على لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف للقول إن موسكو على استعداد لمناقشة الفكرة شريطة التنسيق مع دمشق وموافقتها، في حين كان رد الفعل السوري التحذير من التداعيات التي قد يسفر عنها تحقيق هذه الفكرة دون التنسيق معها، لأنه سيؤدي إلى المساس بالسيادة الوطنية.
وبتقديري أن ما دعا إليه الرئيس الأميركي زاد الفكرة غموضا وإبهاما، فكيف سيتم اختيار المناطق الآمنة؟ ومن سيديرها؟ وكيف ستتكفل الجهات الدولية بتقديم المساعدة لها؟ وهل ستكون للدول الضامنة لمؤتمر الأستانة الدور الأساسي فيها؟ وكيف سيتم التنسيق مع الأمم المتحدة والهيئات الإنسانية الأخرى؟
هذه وغيرها أسئلة تحتاج إلى تفاهمات مسبقة، إذا ما أريد وضعها موضع التطبيق، وإلا فإنها ستلقى معارضة ورفضا شديدين قد يعوق تنفيذها، سواء من جانب دمشق أو من حلفائها في حالة عدم الاتفاق معها، خصوصا وأن هناك رؤى مختلفة ومتعارضة إزاء موضوع إدارة المناطق، فـ”وحدات الحماية الكردية” تعمل بالتعاون مع قوات التحالف الدولي “الأميركي” باسم “قوات سوريا الديمقراطية” وهناك مناطق تابعة للجيش التركي في وسط منطقة جرابلس، حيث يوجد فيها الآن، مثلما هناك مناطق تحت سيطرة الجماعات الإرهابية، مثل “جبهة فتح الشام”، و”داعش” (تنظيم الدولة الإسلامية) وغيرها، مثل إدلب والرقة، فكيف سيتم التعامل معها؟
ويبقى “جوار سوريا” الذي قصده الرئيس الأميركي ترمب محط علامات استفهام كبيرة، والمقصود بذلك تركيا ولبنان والأردن، وهي البلدان التي تستضيف أعدادا كبيرة من اللاجئين السوريين، الأمر الذي يفترض قبل أي قرار الحصول على موافقتها لإقامة المناطق الآمنة والتعاون والتنسيق معها، خصوصا بما سيثيره مثل هذا القرار من إشكالات إقليمية ودولية، وتبعات مالية واقتصادية واجتماعية وغيرها.
جميع حقوق النشر محفوظة، الجزيرة
2017