ترهات سيمور هيرش/ رشا الأطرش
بعد أيام قليلة، سيتسلم الصحافي الأميركي سيمور هيرش (مواليد 1937)، “جائزة سام آدامز للنزاهة”، ليضيفها إلى مجموعته الأثيرة من الجوائز الصحافية والتكريمية.
كان سام آدامز، بحسب القائمين على الجائزة التي تحمل اسمه، أحد محللي الملف الفيتنامي في “سي آي ايه”، وكاد يفضح كذب الجنرالات الأميركيين في سايغون، لكنه أجبر على التزام الصمت. ثم سرعان ما تسربت المعلومات التي كانت بحوزته، لتشكل الفضيحة الشهيرة بشأن أكثر من نصف مليون فيتنامي شيوعي مسلّح كانوا منتشرين في جنوب فيتنام، وهو نحو ضعف الرقم الذي كانت قد اعترفت به القيادة العسكرية الأميركية في العام 1967، مستكملة عملية تضليل ممنهجة، لا سيما بإصرارها على تصدير “تقدّمها” في الحرب، للرأي العام الأميركي، كما العالم. ومعروفة بقية القصة عن إعلان الرئيس ليندون جونسون آنذاك، بدء المفاوضات بعد وقف إطلاق النار في 31 آذار/مارس 1968، وأنه لن يترشح لولاية رئاسية جديدة في نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته.
هو الملف الفيتنامي الذي صنع شهرة سيمور هيرش، يعود ليحيي ما تبقى من مجده، إن كان التجديد ممكناً. ففي سيرته الذاتية، يبرز تحقيقه الاستقصائي (1969) حيث أماط اللثام عن مجزرة “ماي لاي” في فيتنام، ونال عنه جائزة بوليتزر المرموقة، والتي ما زالت تذيّل اسمه، وتطبَع، بالمصداقية والهيبة، الكثير من الترّهات التي انتجها خلال الأعوام الـ13 الأخيرة في أقل تقدير. هكذا، وخلال أكثر من عقد، دأب هيرش على نشر تخريفات علنية في بعض المنابر الغربية الأكثر احتراماً من قبيل “نيويوركر”، التي يحسب لها أخيراً أنها رفضت نشر أحدث مقالاته/خرافاته عن سوريا، فما كان من هيرش إلا أن ذهب بها إلى “لندن ريفيو أوف بوكس” ذات الطابع الأدبي الغالب، والتي لا تتمتع بآلية “نيويوركر” للتدقيق في المعلومات.
للرجل إنجازات معروفة، واسمه ما زال جذاباً لصحف ومجلات غربية كثيرة. ولئن شاب التوتر علاقته بـ”نيويوركر” مؤخراً، بعد عقود طويلة من التعاون، ما دفعه إلى منابر أوروبية مثل “لندن ريفيو أوف بوكس” و”دويتشه فيله”، فإن ارتباط اسمه بمرحلة حساسة ومفصلية من تاريخ أميركا، بل والعالم، ما زال يسبغ على إنتاجه شيئاً من الرزانة. أو لعله وَهمُ الرزانة. أميركا لا تنسى جروحها. لكنها أميركا، وحرية التعبير المصانة بالدستور، والتي استفاد منها هيرش نفسه حينما واجه دعوى قضائية، فتمسك برفضه الكشف عن مصادره، ولم يتم إجباره على ذلك. وفي المقابل، شرّح الكثيرون من الصحافيين والباحثين، أضاليل هيرش، خلال السنوات الأخيرة، حتى لم يتبقَ منه سوى حطام نزق. فالصحافيون الأميركيون الجادّون يتعاطون مع هيرش، بالهزء والنبذ المهني نفسه الذي صبغ تعاطي الصحافيين الجادين من المصريين والعرب مع “الأستاذ” محمد حسنين هيكل (الذي بالمناسبة كان قد أسس مع هيرش مؤسسة لتدريب الصحافيين، وشاركه حبّه لبشار الأسد).
في العام 1974، أضاء هيرش على ممارسات “سي آي ايه” غير القانونية في حق حركة مناهضة الحرب. ثم، في العام 2004، كشف تورط الإدارة الأميركية في فضائح سجن “أبوغريب” الشهيرة، ونال “جائزة جورج أورويل” من “المجلس القومي لأساتذة الانكليزية” والتي تمنح “للكتّاب الذين يساهمون في التفكيك النقدي لسجالات الشأن العام”. لكنها تبقى إنجازات معدودة، يعيش الصحافي العجوز على أطلالها. “يحلب” أثرها الباقي، في مقالات و”تحقيقات” لا تمت إلى الدقة أو النزاهة المهنية بصلة، لكنها ما زالت تسوّقه باعتباره “الصحافي المخضرم/المتمرّس” (veteran journalist)، وهي العبارة التي يقدّمه بها الكثير من محاوريه ومقتبسي كتاباته. و”الجمهور”، مهما كان “واعياً”، قد ينجذب إلى نظرية المؤامرة، والثرثرة السياسية والأمنية الأقرب إلى النميمة في صالونات قدامى موظفي الدولة والاستخبارات. لكن، في المقابل، ثمة عشرات المقالات التي لا يحتاج ايجادها أكثر من جولة سريعة في الانترنت، ويتصدّى كتّابها لـ”استقصاءات” هيرش، فيفندونها بالحقائق الموثقة والمعلومات الصلبة، ليمسي دحض “معلوماته الخاصة” وتكذيب “مصادره”، تمريناً مسلياً لا يصعب على صحافي مبتدئ. حتى أن بعض النقاد ذهب إلى تحليل شخصية هيرش المتأثرة بمرحلة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون و”مؤامراتها”، وباليسار الأميركي بنسخته العتيقة البالية، وبمجايلي هيرش من متقاعدي الأجهزة الأمنية والعسكرية الذين يعتبرون السياسيين “مخنثين” لا يقوون إلا على كلام منمق بلا أفعال، ولا يجرأون على إعلان “الحقيقة” كما هي. والحال، أن سوسة متقادمة، وإن حظيت بجوائز وألقاب ومنابر للنشر وجمهور، لا تعني فساد طحين الصحافة الغربية بأكمله، بل لعلها تؤكد حيويته وفعاليته.
الصحافي الأميركي المتهالك، في السنّ والمهنة، عرفه اللبنانيون أكثر ما عرفوه، غداة حرب تموز 2006، حينما كتب أن الهجوم الإسرائيلي على “حزب الله” في لبنان كان مقرراً سلفاً، وأنه كان سيجد حجّته، وبدعم أميركي، بصرف النظر عن قيام الحزب بخطف الجنديين الإسرائيليين عبر الحدود. وهي المقالة التي تمسك بها محور الممانعة، وعلى رأسه “حزب الله”، كخشبة خلاص، خصوصاً بعد خطاب “لو كنت أعلم” للأمين العام حسن نصرالله. وقبل ذلك، كان قد كتب، نقلاً عن “أحد مصادره”، إن اللواء وسام الحسن (اغتيل العام 2012) كان متورطاً في اغتيال الرئيس رفيق الحريري (العام 2005). ثم ما لبث أن تبيّن أن “مصدره الموثوق” ليس سوى الوزير السابق ميشال سماحة الذي انكشف تورطه في مخطط النظام الأسدي لتنفيذ عدد من العمليات الإرهابية في لبنان، بل ونقل سماحة المتفجرات بسيارته الخاصة.
ويتذكر اللبنانيون أيضاً كيف ذهب هيرش، في العام 2007، إلى ربط تنظيم “فتح الإسلام” وتغلغله في مخيم “نهر البارد” شمالي لبنان، بأميركا وبتمويل سعودي، على اعتبار أن الدولتين سعتا إلى إعداد “مليشيات سنّية” تقوّي رئيس الحكومة آنذاك، فؤاد السنيورة، في وجه “حزب الله”، الذي “أكد” هيرش أن الإدارة الأميركية تسعى جاهدة إلى تفكيكه ونزع سلاحه، إضافة إلى النيل من النظامين السوري والإيراني اللذين يدعمانه. الأمر الذي استخدمه إعلام الحزب وما دار في فلكه، أيضاً، لتبرير غزوته المسلحة في 7 أيار/مايو 2008 على بيروت وجزء من جبل لبنان.
طبعاً، لطالما كان الشطط واضحاً في المقالتين، على اعتبار أن إسرائيل كانت دوماً في حالة حرب مع “حزب الله”، قبل تحرير جنوب لبنان، وبعده. الأمر الذي، للمفارقة، استكان، فاطمأنت إسرائيل من ناحية “حزب الله”، أكثر ما اطمأنت، بعد “النصر الإلهي” في آب/أغسطس 2006 وصدور القرار 1701. كما أنه معروف أن زعيم “فتح الإسلام” شاكر العبسي، تعود علاقته بأجهزة الاستخبارات السورية إلى بداية عقد الثمانينات، قبل أن يسجن في صيدنايا، ليخرج من سجنه إلى “البارد”، ثم اختفى بعد المعركة مع الجيش اللبناني، وأشارت دلائل كثيرة إلى أنه عاد إلى سوريا، حيث لم يتم التأكد من اعتقاله أو تصفيته.
لكن المدهش، أن سيمور هيرش لم يتوقف، طوال عقود، عن تكرار استناده إلى مصادر مجهّلة، ينقل عنها “معلومات” تبدو أقرب إلى أفلام الأكشن رديئة الصنع. وهي مصادر غالباً ما يقدّمها بأوصاف عجائبية، من قبيل: “خبير في الشرق الأوسط مطّلع على طريقة التفكير الراهنة في حكومتي إسرائيل والولايات المتحدة”، أو “خبير في الشأن العسكري والاستخباراتي الإسرائيلي”، “مسؤول استخباراتي متقاعد رفيع المستوى”، و”مستشارين سابقين لقيادة العمليات الخاصة الأميركية”. لكنه يقابل حسن نصرالله، ويتحدث مباشرة مع بشار الأسد.
أما الأدهى والأفدح من كل ما سبق، فمقالاته عن سوريا، لا سيما مقاله الصادر مؤخراً، حيث أكّد وجزَم، بشتى الطرق و”المعلومات” من “مصادره” إياها، بأن النظام السوري، في نيسان/ابريل 2017، لم يقصف خان شيخون بالسارين أو أي سلاح كيماوي. وتجرأ هيرش، كالعادة، على تقديم “سردية بديلة”، تفيد بأن الإدارة الأميركية كانت على علم مسبق، عبر قنوات روسية، بالضربة التي سينفذها بشار الأسد، ولم تمانع. وقال إن الضربة استهدفت اجتماعاً لمسلحين من تنظيم “القاعدة”، وانبرى لوصف المبنى وموعد الضربة فجراً، مضيفاً أن المنطقة زراعية وأن المبنى احتوى في قبوه على أسمدة ومبيدات حشرية وكيماويات، هي التي أدت إلى انفجارات ثانوية ونتجت عنها أبخرة/غيوم سامّة، ما يفسّر في رأيه الحالات التي رآها العالم بأسره في صُور مروعة. واعتبر هيرش أن الإدارة الأميركية نصبت فخاً للأسد ونظامه، بدليل الهجوم العسكري على سوريا لاحقاً بأمر من الرئيس دونالد ترامب الذي “كان يعلم بالضربة السورية”. بل وكشف هيرش “وثائق” تظهر نوايا الولايات المتحدة بـ”تدمير سوريا” منذ العام 1983!
بديهي القول إن السيد هيرش لا يعرف شيئاً عن صعوبة إنتاج غاز السارين أو غيره من الأسلحة الكيماوية، ولا عن الكمية المطلوبة لإحداث مثل هذه الانفجارات، ولا الكلفة، ولا الموجبات اللوجستية للانتاج والاستخدام، ناهيك عن الأسلحة التي لا يمكن أن تكون “منزلية الصنع” كما زعم، ويستحيل توافرها إلا في ترسانة لدولة تملك مصنعاً وتجهيزات وخبرات. ولم يتحرّج الصحافي المخضرم من مناقضة تقارير المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيماوية، ومنظمة “أطباء بلا حدود”، وفريق الحكومة الفرنسية. بل إنه لم يتحرّج من مناقضة التصريحات الرسمية، السورية والروسية (ضحايا المؤامرة الأميركية التي دبّجها هيرش في مقاله) بعد أيام على الهجوم، والتي أعطت أوصافاً ولوجستيات مختلفة تماماً عما أورده هيرش بشأن هندسة المبنى وما يحويه وهوية الموجودين فيه.
وكأن هيرش تفوّق على نفسه هذه المرة، بعدما كانت مقالته الأكثر إثارة للسخرية والحنق في وقت واحد، هي تلك التي نشرها في “لندن ريفيو أوف بوكس” العام 2013، واتهم فيها المعارضة السورية المسلحة بأنها هي التي أطلقت السلاح الكيماوي في الغوطة، يوم 21 آب/اغسطس 2013، قاتلة الأهالي، الذين هم أهل هؤلاء المسلحين أنفسهم. إضافة إلى مقالة له في العام 2014، حيث “برهن”، ودوماً عبر مصادره من الخبراء وقدامى موظفي الاستخبارات الذين لا أسماء لهم ولا وجوه، أن تركيا كانت تمرر غاز السارين لـ”جبهة النصرة”، وأن البيت الأبيض أنشأ “خط جرذان” لإيصال الأسلحة من ليبيا إلى الجهاديين في سوريا!
إنها الكوميديا، التي تنقلب تراجيديا مفجعة، بمجرد التفكير في الضحايا المدنيين، والأطفال، وذويهم، والندوب الاجتماعية والنفسية التي لن تمحى في المدى المنظور. بل قد تقفز الدموع من العين إثر الانتباه إلى أن قرّاء ومتابعين حول العالم يستهلكون تلك “المعلومات”، أسوة بمحور الممانعة، وقد لا يتسنى لهم الاطلاع على المنشورات التي تنخرها بسهولة فتسوّيها بالأرض.
سيمور هيرش هذا سيتسلّم جائزة جديدة بعد أيام قليلة. ثمانون عاماً ويرفض التقاعد، على غرار أصدقائه الذين لا يبخلون عليه بكل ما “يعرفون”، إلا بأسمائهم وأدلّتهم. خياله أنشط مما يوحي به سنّه، قوالبه لم تتغير منذ ما يربو على نصف قرن، وعلاقته بالإعلام الأميركي مشروخة. خبر للقائمين على إعلام المؤامرات و”المصادر” في العالم الثالث: جهزوا عروض العمل.
العرب