تساؤلات حول مستقبل (المناطق الكردية) في سورية/ رستم محمود
إذا صمدت هدنة الجنوب السوري المتوافق عليها دولياً وإقليمياً، واستقر مسارها، وإذا انتهت معركة الرقة خلال الأسابيع المنظورة، فإن المناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديموقراطي شمال شرق سورية مرشحة بقوة لأن تكون محل نقاشٍ عام، سوري وإقليمي ودولي، لأن يحدد «مصيرها الموقت» بانتظار التسوية الشاملة.
على أن التوازنات السياسية والأمنية بين القوى في تلك المناطق أكثر حساسية من بقية المناطق السورية، حتى من الجنوب السوري. لذا يحتاج التوافق إلى توازن دقيق بين جميع الفاعلين، لأنه بغير ذلك، يستطيع كل منهم تعكير أي توافق على تحديد شكل تلك المنطقة. وأيضاً لأن هذا التوافق سيؤثر بعمق في التسوية النهائية للمسألة السورية، فالمساحة المسيطَر عليها تقارب ثلث مساحة سورية، وتشتبك بها العديد من القضايا والتوازنات الإقليمية، لذا يجب أن يكون مصيرها المشترك محل أوسع مظلة توافق ممكنة.
يشكل حزب الاتحاد الديموقراطي أكبر فاعل في هذه المعادلة. وهو الذي يتبع مشروعاً سياسياً يتمثل في إقرار الحقوق القومية للأكراد في تركيا أولاً، ويتحرك في فضاء حزب العمال الكردستاني، ويسعى في مجمل حركته لتحقيق الأهداف الاستراتيجية لحزب العمال الكردستاني، وأن يعود الحزب فاعلاً متوازناً بين المحورين السياسيين الاستراتيجيين في المنطقة، تركيا وإيران.
تتأتى قوة حزب الاتحاد الديموقراطي من هيمنته العسكرية والأمنية على هذه المناطق، وسعيه الدائم لرفد ذلك بالهيمنة السياسية التامة في تلك المنطقة، على حساب الأحزاب الكردية المناوئة له. من جانب آخر، يملك الاتحاد الديموقراطي علاقات عسكرية وثيقة مع الولايات المتحدة ودول أوروبية. وهو محل ثقة تفوق علاقة هذه الدول مع بقية القوى السورية. ومن عناصر قوته أيضاً توازن علاقته مع النظام السوري، ما يوفر له نوعاً من الشرعية، مع الكثير من الحماية من الضربات الجوية التي يوجهها النظام لسائر المعارضين السوريين.
لا يقل دور النظام السوري عن دور حزب الاتحاد الديموقراطي في تلك الجغرافيا. فالنظام ما زال يملك شرعية الحكم، البيروقراطية والرمزية والسياسية، حتى بالنسبة إلى تركيا، أشد مناوئيه الإقليميين. فتركيا تعتبر النظام السوري حلاً أفضل من هيمنة حزب الاتحاد الديموقراطي، وقد تساعد النظام في مرحلة متقدمة في استعادة سيطرته المباشرة والكلية على تلك المناطق، فقط كي لا يسيطر الاتحاد الديموقراطي على أي شيء.
والنظام السوري يعتبر الأكراد، وبالذات حزب الاتحاد الديموقراطي، حليفاً استراتيجياً في «تحالف الأقليات» السورية. لذا يسعى النظام السوري لتعزيز مكانة الاتحاد الديموقراطي على حساب الأكراد والعرب المناوئين له في الشمال السوري. لكنه في المقابل حذر من شكلين من التطورات التي يمكن أن تحدث: من جهة أن يتحول حكم الاتحاد الديموقراطي إلى أي شكل رسمي ومعترف به، فهو يقبل الاتحاد الديموقراطي وحكمه على قاعدة «غض النظر» من دون أي اعتراف رسمي به. من جهة أخرى، حذر النظام السوري من العلاقة المتنامية بين الاتحاد الديموقراطي والولايات المتحدة، وبقية دول التحالف.
غير أن القوى الإقليمية لا يمكن أن تترك تلك المنطقة للتفاهم والتوازن بين النظام وحزب الاتحاد الديموقراطي. فإيران تعتبر الجزيرة السورية جزءاً من استراتيجيتها الساعية لوصل سورية بالعراق. وهي لا تستأمن جانب حزب الاتحاد الديموقراطي، خصوصاً بعد تنامي علاقاته العسكرية مع الولايات المتحدة. كما أنها تتطابق مع تركيا في التضييق العسكري على هذه المنطقة، كي تخضع للتوازنات الإقليمية التقليدية التي لا تحتمل كياناً كردياً جديداً، يضاف إلى الفيديرالية في كردستان العراق.
ثمة لاعب أخير ضمن التوازن الذي سيحدد مصير هذه المنطقة. فالحزب الديموقراطي الكردستاني-العراقي، وعلى رغم ترهل الحزب الكردي السوري الرديف له، يملك شعبية ما معقولة في أوساط الأكراد السوريين، ونفوذه الجماهيري يجب أن يحقق له ديناميكية للنفوذ ضمن سورية. ويدعم الديموقراطي الكردستاني-العراق مجموعة الأحزاب الكردية السورية المناوئة للاتحاد الديموقراطي الكردي، ومعها كل الوسائل والآليات التي لا تسمح للاتحاد الديموقراطي بالاستحواذ على الساحة والتمثيل السياسي للأكراد السوريين.
ضمن هذه الديناميكيات الأربع الأكثر حيوية، تتحول التوازنات بين الفاعلين، وهي التي ستحدد مصير المناطق الشمالية الـــشرقية من ســورية، لكنها تنتظر بدورها ثلاثة تحولات قد تُجرى في الشهرين المقبلين:
1- رد الفعل الإيراني على تجربة التوافق الأولى بين الولايات المتحدة وروسيا في جنوب سورية. ومن الواضح هنا أن إيران خارج هذا التوافق تماماً، وهي تقرأه كجزء من الاستراتيجية الأميركية لإزالة نفوذها في سورية. وسيكون لإيران رد فعل سياسي وعسكري على هذا التوافق، وهو رد قد يكون ضمن سورية أو خارجها. وضمن هذا المسار، لا يمكن فصل التمدد الإيراني في المناطق الشرقية من سورية، فإيران ستسعى بكل قوتها لأن تتولى قيادة معركة دير الزور، لتزاحم الولايات المتحدة في منطقة نفوذها الأقوى في الجزيرة السورية.
2- ثاني التحولات المنتظرة يتعلق بمآل التهديدات التركية للمناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديموقراطي، وخصوصاً إقليم عفرين. فهذه المنطقة التي ستستحوذ على هوية سياسية كردية ما، يمكن أن تلقى قبولاً وشرعية من أي طرف باستثناء تركيا التي ستستخدم كل قدراتها قبل تبلور أي شيء رسمي وحقيقي متوافق عليه في شأن مستقبل تلك المنطقة. تعرف تركيا أن أي دخولٍ عسكري مباشر إلى مناطق ذات شعبية وسيطرة كردية سيكون بمثابة مغامرة عسكرية وسياسية، لأنها يمكن أن تلقى مقاومة كردية عسكرية ولا تحقق أهدافها، وهذه ستكون نكسة عظمى لصورة الجيش والأمن القومي التركيين. من جهة أخرى، فإن ذلك قد يواجه برفضٍ أميركي وروسي، وحتى سوري، وهو ما سيفقد تركيا أقوى أوراقها: التهديد.
آخر التحولات يتعلق برد فعل الغالبية العربية في المناطق الجديدة التي سيسيطر عليها حزب الاتحاد الديموقراطي. فالمناطق الواسعة الممتدة بين مثلث منبج – الرقة – تل أبيض تكاد تكون ديموغرافياً عربية، وأغلب الظن أن الاتحاد الديموقراطي الكردي والمؤسسات الرديفة له لن تستطيع حكم تلك المناطق كما فعلت في المناطق ذات الغالبية الكردية. وسيكون لرد فعل السكان المحليين دور في تحديد شكل سلطة الاتحاد الديموقراطي سواء مع الأكراد أو عرب المنطقة.
سيكون لتلك المنطقة شكل سياسي وعسكري ما، لأنها من دون ذلك ستدخل مرحلة «عطالة سياسية» بعد نهاية معركة الرقة، وسيكون في ذلك الشكل الذي تتخذه أكبر دلالة على شكل سورية المستقبلية.
الحياة