صفحات العالم

تسميات أخرى للحاصل في سورية!


مرزوق الحلبي

لعلّ أبرز ما ظهر في صور القمع الوافدة إلينا عبر الشبكات هو هذه النزعة البارزة لدة قوات النظام السوري في إذلال المواطنين والمحتجين. وقد ظهر ذلك جليا في مشاهد الضرب المهين والطم والركل والتخبيط والناس مكبّلة الأيدي، وفي تشويه جثث قتلاهم أو تشويه أجساد المعرضين وهم أحياء ـ علي فرزات مثالا. وأضافت على هذا المشهد المريع والمُنهك، تلك الدبابات المخترقة للأزقة والتي لا تميز صليات مدافعها وقذائفها بين بيت وبيت وبين حي وحي سوى على الهوية الطائفية. إنه دون شك ليس مشهدا لضبط الأمن أو الحفاظ على النظام، بل هو مشهد حرب من النظام على المجتمع وحملة تأديب يقوم بها جيش النظام الفئوي بحق المعارضة السلمية في غالبيتها وعقوبات جماعية لا تختلف في شيء عما تقوم به جيوش احتلال في المنطقة ـ الضفة وغزة مثلا ـ وبعيدا عنها ـ الشيشان. وهكذا فإن الأمور لم تعد تحتمل ذاك الترف القائل بوجود وجهات نظر في المسألة السورية. مثلما لا يُمكن تأويل نشاط المستعمرين القديم والحديث ولا المحتلّ الإسرائيلي ولا الأمريكي في أفغانستان مثلا، فإنه لا يُمكن لأي عبقري مهما بلغ من الفذلكة أن يؤوّل الحاصل في سورية على أنه عنف شرعي للدولة ونظامها. بل يتضح أحيانا إن الاحتلالات أرحم وأكثر رأفة مما يفعله نظام يتصرف كمن خسر كل شيء وتخلى عنه الرب.

لقد تجاوز النظام منذ الأيام الأولى للتظاهرات الاحتجاجية كل عُرف وتحوّل إستبداده وعداؤه للحريات والفكر المعارض السلمي تماما إلى حمام دم في درعا واللاذقية وتلكلخ. ثم امتدّ إلى سواها من مواقع آخرها حمص التي قطعت أوصالها وهدمت بيوتها دبابات النظام وقمعه الأعمى. وبدا النظام العسكري تماما أصم أبكم، لا يسمع ولا يعي الإشارات الوافدة إليه من الأصدقاء قبل الخصوم والأعداء. فقد أقفل هواتفه وقصد تعطيل الرؤية والسمع والحواس الأخرى فوق الأرض السورية وداخل حدودها الأمر الذي اتضح سريعا أنه مستحيل تماما أمام تقنيات الاتصالات والصورة كما يمتلكها المواطن السوري رغما عن النظام واحتكاراته كل أسباب الحياة والممات أيضا. وهو لا يزال على حاله يدمّر البلد وأهله والدولة والسياسة حتى آخر حجر فيهما. وفي غياب السياسة تأتي بدائلها. ومنها ما هو حاصل الآن، مثل تنكر أوساط في الشعب السوري للسياسة باللجوء إلى العصيان والعنف المسلح. اهتمام دول إقليمية ودولية بالضغط الخفي غير التقليدي على النظام لانتزاع الوقت من بين يديه. التمهيد لتدخل دولي محدود أو شامل من خلال الدفع بالنظام إلى زاوية التاريخ.

هذا المآل للأزمة السورية محصّلة حتمية لما بدأه النظام وثابر عليه. فهو الوحيد الذي يتحمّل مسؤولية ما قد يتطور من عنفه المدمّر ومن اشتغاله بتحصيل شرعية من خارج الوطن بعد أن فقدها بشكل شبه تام في داخله. صحيح أن التناقضات في العلاقات بين القوى الدولية لا تزال تمنحه هامشا للمناورة لكن من الواضح أن هذا الهامش في انحسار متسارع. والواضح الآن، إن النظام لم يعد سوريا إلا من حيث مواقع قمعه وضحاياه وتاريخه. إذ يتضح يوما بعد يوم مدى ارتكازه على نظام الملالي في إيران كعرّاب له ووصي. وهو ما يكشف هشاشته في الداخلة وإن بدا حتى الآن في ذروة عنفه وعنفوانه قادر في مقابلة صحفية لرئيسه على التشكيك بشرعية هيئة الأمم المتحدة مثلا أو على إنكار جرائمه بحق مواطنيه. وهنا بالذات تنكشف كل الأقنعة العروبية والشعوبية لهذا النظام الذي انتقل من تثمير تركيبة المجتمع السوري الطائفية والعرقية خفية إلى تثميرها على رؤوس الأشهاد والعباد من خلال فرز المجتمع والبلد وممارسة التدمير والقتل على الهوية كما هو واضح في درعا وفي حمص الآن. وهو لا يتورّع عن الزج بالأقليات المستضعفة ـ الدروز والمسيحيين مثلا ـ في أتون معركة ضد المجتمع والتاريخ قربانا سدى لعرّابه في طهران. إنها الجماعة الدينية التي تُطلّق الدولة ومدلولاتها والجامحة إلى مشاريع غير سياساتية ولا دولانية، وإن كانت تمتطي ظهر الدولة وتستنفذ مقوماتها وما تتيحه من موارد. والحقيقة المعروفة لنا أن النظام إنما قادر حتى الآن على تمويل نزعته هذه ودفع مستحقاته لشبيحته والمنفذين. ونتوقع يوما قريبا ستضيق حلقة الميم كثيرا فيقلّ الدفع بالدولار حتى ينضب. وعندها ستدور دفة الأمور إلى ناحية أخرى وربما بالمعكوس.

لم يعد بالإمكان إخفاء سعي النظام إلى اللعب بالورقة المذهبية والطائفية حتى الرمق الأخير. ونرجّح أنه سيمضي في لعبته هذه حتى النهاية، نهايته. لكننا نخشى ألا تكون سورية بعد هذه النهاية كسورية التي نعرفها. وهو أمر لا يضير إيران الملالي ولا أمريكا ولا تركيا إذا ما انتقلت إلى معادلة جديدة تحفظ لكل منها مصلحته وتؤجّل استحقاق الجولان مثلا إلى يوم القيامة! سيناريو ممكن تنافسه سيناريوهات أخرى أكثر أو أقل قتامة. وهي كلها من إنتاج النظام وعرابيه وحلفائه والمنافحين عنه وعن عُقمه وقمعه. فهو الذي سعى إلى حتفه بظلفه وحرق كل الجسور مع جهات الكون إلا مع عرّابه الذي يوظف النظام الأقلوي في سورية القابض على روح الدولة في طريقه المدمرة إلى ولاية الفقيه. بمعنى، إن النظام السوري، مهما تبجح ومهما اتكأ على إرث عروبي ليس له، إنما غادر منذ زمن بعيد هذه المواقع وصار نظاما يعمل بالمقاولة الثانوية والرئيسية لدى نظام ولاية الفقيه. أما التسميات الأخرى فإلى جهنم وبئس المصير!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى