“تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة”/ موسى برهومة
شاء رسّام كاريكاتور عربي أن يجعل من الرقم (6) في العام 2016 طوق نجاة لطفلة تغرق في الدماء، وترفع يدها الصغيرة إلى أعلى، لتفادي الموت.
المشهد ذاته يتكرّر في الكتابات والأمنيات والتهاني. لا يحبّ البشر، في العادة، الاستسلام لليأس، فتجدّهم يمنّون النفس بأن يكون القادم أجمل، وربما يستعين مثقف، من بينهم، بما قاله الشاعر التركي ناظم حكمت: «أجمل الأيام تلك التي لم نعشها بعد».
بيْد أنّ المقدمات، كما يقول المناطقة، لا تسعف النتائج، ولا تمنحها فرصة بأن تكون أفضل. والمقدّمات التي في حوزتنا باعثة على القلق، لا سيما في شرق المتوسط الذي تتلظّى أرضه وسماؤه بألسنة اللهب الطائفي وحمّى الخطر الإرهابي، وهذان كافيان بأن يرجو أيّ عاقل بأن يكون العام الجديد أقلّ إيلاماً مما مضى.
ذاتَ مرّة، نظر الكاتب إلى الخريطة الممتدة من الماء إلى الصحراء، وراح يعّد الدول الآمنة في المحيط العربي، فألفى بضعة بلدان، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، في منأى عن الزلازل السياسية والاضطرابات التي لا تعين تفكيراً، ولا تساعد على تنمية، ولا تؤطر لملامح أي تطلّع أو بناء. كلّ الأنظار مصوّبة نحو الأمن، والأصابع كلّها على الزناد، والقلوب في مساقط الهلع.
الطفلة التي تمدّ يدها الصغيرة نحو الرقم (6) الذي تخيّلته طوق نجاة، هي في الأغلب سورية، وربما تكون في عمر الفتى إيلان الذي لفظ أنفاسه الأخيرة على أحد الشواطئ التركية، بعدما لفظته الدنيا، وأعمى القدر عينيْ «طبيب العيون!» عن تمثّل عذاباته، وعذابات شعبه.
لا نجاة، إذاً، ما دام «دراكولا العصر» يحكم سورية، وما دام أنّ الأحلام الإمبراطورية القيصرية وجدت في أرض الشام موطناً لانبعاثها، فالحاكم في دمشق لا يحكم، بل يقتل، والبلاد منهوبة و «مطوّبة» لخيلاء إيران وقادتها العسكريين المدجّجين بالوهم والأساطير والرؤى الباطنية. وأما الحق والشريعة والشرعة والسنن ومصفوفة القيم، فكلّها كلام يتلى، فقط، على المنابر، ويُقرأ في البيانات المعدّة مسبقاً، فالسياسة ها هنا تتجلّى كنوع من الاسترقاق والهينمة الجائعة للتوسع حتى لو على ركام الجماجم، وهذا ما يجري من دون مبالغة أو إسراف في التعبير.
لا بأس أن تظل يدكِ الصغيرة ممدودة إلى الأعالي، فلعلّ شاعراً يترفق بها، أو كاتباً في «الحياة» يستعين بها في مقالته، فيذكّر العالم بأنّ مأساة السوريين التي لا تعادلها أي مأساة أخرى في وحشيتها، لا سبيل إلى حلّها في العام الذي يتخذ أول أرقامه شكل طوق نجاة، لكنّه مما شبّه لنا، نحن الحالمين المصابين بلوثة التفاؤل التي تثير زوابعَها القصائدُ والأغاني والحِكم: «ما أضيقَ العيش لولا فسحة الأمل»!
لكنّ الأمل، كما أيّ فكرة أخرى، يحتاج إلى مسوّغات كي ينتصب على ساقيه. وما في الأفق فسحة لذلك. إنه «تشاؤم العقل» الذي يقيّم الأشياء والمعطيات في ضوء النظر التحليلي، فيقارب الأحداث، ويستقصي عن خلفياتها ومراميها ومغازيها، ثم يحدّق في الضفة الأخرى من المشهد، أي ضفة رد الفعل، فلا يجد إلا أقواماً قد اعتراهم الصمت، وعقد ألسنتهم الذهول.
إذاً، لا بأس من «تفاؤل الإرادة» كيلا يبقى الكائن متسمّراً في مكانه لا يلوي على شيء، فالحياة منحة كوكبيّة تستحق المقاومة والدفاع عنها والاستبسال كيلا تختطفها جحافل الظلام. وربما أنّ دورق الأمل يتغذى على القطرات القليلة الشحيحة التي لن تملأه، لكنّها ستجعله سعيداً ومغتبطاً بانتظار أي قطرة، مع أنّ الانتظار معذّب وسالب للسكينة!
* كاتب وأكاديمي أردني
الحياة