تشقّقات في جدار الليبرالية/ خليل العناني
تشي حالة الصعود المطّرد لتيارات اليمين الشعبوي في أوروبا والولايات المتحدة بأن ثمّة أزمة حقيقية تواجه النموذج الليبرالي الغربي، إلى الدرجة التي بدأ فيها بعضهم الحديث عن نهاية الليبرالية وسقوطها، أو فقدان صلاحيتها. وسوف تزداد الأزمة تعقيداً، إذا ما وصلت هذه التيارات إلى السلطة في بلدانٍ كانت تمثل، تاريخياً، قلاعاً حصينة لليبرالية الغربية، مثل فرنسا وهولندا وإيطاليا وألمانيا، فضلا عن جيران هذه البلدان، كالنمسا والنرويج والسويد. وبذلك، سنكون إزاء دورة تاريخية جديدة تحدث كل قرن، تنزوي فيها القيم الليبرالية لصالح قيم الشعبوية الشوفينية التي تقوم على إقصاء الآخر، وترفض التعدّدية الثقافية والدينية والإيديولوجية، كما كانت الحال بعد الحرب العالمية الأولى.
بشرّنا فرانسيس فوكوياما، قبل ربع قرن، بـ”نهاية التاريخ”، والتي عنت، من بين أشياء أخرى، إعلان هيمنة النموذج الغربي وسيطرته على ما عداه من النماذج الفكرية والإيديولوجية، خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط الإيديولوجية الشيوعية لصالح الليبرالية الغربية. وتحدث فريد زكريا الذي كان يرأس وقتها دورية “فورين أفيرز” المرموقة عن الديمقراطية غير الليبرالية ومشكلاتها، وأن النموذج الغربي لليبرالية هو الذي يجب أن يكون المرجعية للنظم التي تسير في عملية التحول الديمقراطي.
وبغض النظر عن حديث النهايات أو فشلها، والذي يطمس أجزاء من التحليل الموضوعي، سوف يتوقف الباحثون والمفكرون كثيراً أمام تفسير هذا التحول التاريخي، واستكشاف أسبابه، وما إذا كان أمراً عابراً أم تجسيداً لحالة سياسية ومجتمعية، سوف تدوم معنا حتى منتصف هذا القرن. ولكن، ما لا شك فيه أن ثمة تشقّقات وانكسارات حقيقية، تواجه النموذج الليبرالي الغربي، خصوصاً بعدما تحول من نموذجٍ يهدف إلى تحقيق الحرية والمساواة والعدالة إلى أداةٍ لتكريس سيطرة فئاتٍ قليلة على السلطة والثروة على حساب بقية فئات المجتمع، فالتصويت لليمين الشعبوي، كما بيّنت الحالة الأميركية، لم يكن بشكل كامل تصويتاً عن قناعةٍ بشعارات اليمين الشعبوي، بقدر ما كان تصويتاً احتجاجياً على السياسات النيوليبرالية التي اتبعتها النخب الحاكمة، طوال العقد الماضي، والتي نجم عنها تراجع في الطبقة الوسطي التي تمثل حجر الأساس في النموذج الليبرالي.
ومن المفارقات اللافتة أن أزمة الليبرالية الغربية تتواكب مع أزمةٍ أخرى، تواجه تيارات اليسار وقواه، خصوصاً في أوروبا. وكأننا إزاء حالة إفلاس فكري وسياسي للتيارين اللذين تبادلا مقاعد السلطة والنفوذ في الغرب، طوال العقود الثلاثة الماضية. خذ بريطانيا، مثلاً، تجد أن حزب المحافظين الذي يحكم الآن يعيش أزمةً واضحة منذ التصويت المفاجئ على الخروج من الاتحاد الأوروبي، والذي لعب فيه التيار اليميني الشعبوي دوراً مهماً، في وقتٍ يعاني فيه حزب العمال، بقيادة جيرمي كوربن، أزمة طاحنة قد تطيح هذا الأخير من مقعد القيادة في الحزب. كذلك الحال في فرنسا التي فشل فيها التيار الاشتراكي فشلاً ذريعاً طوال السنوات الخمس الماضية، وأصبحت فرنسا في حالة انتظار لوصول اليمين المتطرف للسلطة، بقيادة مارين لوبان، في الانتخابات الرئاسية المقررة في الربيع المقبل.
وعلى الرغم من ذلك، يظل البعد الإجرائي للنموذج الليبرالي قائماً ومؤثراً، وهو ما يعطي أملاً بإمكانية إصلاح النموذج لنفسه بنفسه، والعودة إلى حالته الطبيعية. ومن الأسى أن تصل الحال بأوروبا وأميركا إلى هذه الدرجة من البؤس السياسي والفكري التي تتشابه فيها مع دول عالمثالثية لا تزال تتحسّس طريقها نحو الحرية والديمقراطية.
العربي الجديد