تصاعد العنصرية اتجاه اللاجئين السوريين في لبنان – مقالات مختارة –
صورتنا…/ حازم صاغية
مهينةٌ الصورة التي انتشرت على مواقع التواصل. إهانتها من ذاك النوع الذي يجعل الرائي إليها يتصبّب عرقاً وحدَه في غرفة مقفلة.
عشرات الشبّان السوريّين مطروحون أرضاً. أيديهم مُقيّدة وراء ظهورهم، ووجوههم تقابل التراب. الأرض شبه صحراويّة، تشبه الأراضي التي تتعاطاها الأساطير حيث أوّل الخَلق أو آخر الحياة. لكنّ العنف وحده ما يخترق تلك الطبيعة ويذكّرها تذكير رجل بطّاش لأنثى لا حول لها.
فالشبّان يبدو كأنّهم يعضّون الأرض بأسنانهم، متمسّكين بما أُجبروا عليه لإدراكهم الخفيّ أنّ البدائل أسوأ، وأنّ فصلهم عن الأرض وإيقافهم على رجليهم قد يكونان مقدّمة لرحلة أسوأ. هنا نُميتُ الزمن بمضغ الذلّ والبقاء على قيد الحياة. هنا شيء من الثبات في المكان على الأقلّ.
يشاركهم الأرضَ إيّاها جنود لبنانيّون لا يظهر منهم غير وقوفهم بما يوحيه الوقوف من قوّة وتمكّن يواجهان الانبطاح. وثمّة جزء صغير من شاحنة عسكريّة، دولاباها أضخم من الشبّان المطروحين أرضاً، وفي وسع الدولابين أن يتحرّكا وأن يطحنا أولئك الشبّان الذين قد تُعرف أرقامهم من دون أن تُعرف لهم أسماء. وما هو أكثر بؤساً أنّ ما من شيء يوحي بأنّ هناك من يردع الدولابين إذا قرّرا الإقدام. وفي طرف الصورة شاحنة أخرى يتجمّع حولها عسكريّون ربّما كانوا يصعدون إليها أو يهبطون منها.
جيش، شاحنات، سلاح… يحرسون المهانة.
وشيء كهذا، على رغم التعقيدات المحيطة بالنزوح السوريّ، مُستفظَع. «ينبغي ألاّ يُصوّر»، يقول البعض. «ينبغي ألاّ يحدث»، نقول.
كلّهم إرهابيّون؟ قليل من العقل يكفي لنبذ هذه الحماقة. هؤلاء هاربون من الموت. بعضهم الكثير عمّر بيوتاً للّبنانيّين أو اهتمّ بتشذيب بساتينهم وريّها. أمّا أقاربهم فممنوعون في معظم المناطق من مغادرة بيوتهم بعد حلول المساء. «عندما يأتي المسا» صارت أغنية بمذاق آخر.
ثمّ لو افترضنا الافتراض الأبله: كلّهم إرهابيّون، فهل يُحاكَم الإرهابيّون هكذا، وما الفارق، والحال هذه، بين عدالة الدول المؤسّسة على القانون و»عدالة» جماعات قاتلة كـ»داعش»؟
بينهم إرهابيّون؟ هذا محتمل جدّاً، ورفع علم «داعش» غير بعيد عنهم يوحي بأنّ صلات كهذه لا تُستبعَد. لكنْ أليست السجون السوريّة والعراقيّة التي تطرحهم أرضاً، كما هم مطروحون في الصورة، الأصل الأوّل لـ»داعش»؟ أوليست الأخيرة، بين آباء كثيرين لها، ابنة ذلّ كهذا؟
بعض الدارسين رأوا أنّ قدرة الإنسان على إيلام إنسان آخر مرهونة بشرط مسبق: تجريده من إنسانيّته. هكذا نبعّده عنّا ونزيل كلّ شَبَه يجمعنا به. هكذا نجعله بعوضة، وقتلُ البعوضة سهل في النهاية. لكنْ ماذا لو فعلنا العكس، ولو لمرّة واحدة؟ ماذا لو قلنا إنّ السوريّ مثلنا، وبدأنا نتحسّس أوجاعه من موقع اشتراكنا في الإنسانيّة؟ ماذا لو وضعنا أنفسنا حيث تقيم أنفس السوريّين: مكسورين، يلبسون المِزق التي لا تحمي من برد أو حرّ، وقد خسروا بلداً وأقارب وأشياء أليفة، وفرّوا بأطفالهم كي يصونوا القليل الذي تبقّى لهم. والحياة نفسها صارت للسوريّ هذا القليل!
ومفهومٌ أن نكون واقعيّين، وأن نحسب، ونقارن، ونفكّر في معالجة التردّي الراهن. بل مفهوم أن نفعل ما يفعله البعض إذ يغلقون التلفزيون كي لا يروا المأساة. لكنْ قبل هذا، مطلوب أن نكون بشراً، وأن ننتبه إلى أنّ مأساة السوريّين أعطتنا فرصة لإثبات بشريّتنا.
لقد نشأ موقّع هذه الأسطر في مكان قريب من مخيّمين فلسطينيّين، البارد والبدّاوي. وكانت أصداء ما يعانيه المخيّمان تصله مثلما يصل أنين يأتي من غرفة أخرى في البيت نفسه. فإنزال الألم والمهانة بالرجل والمرأة الفلسطينيّين كان عاديّاً، وكان يوميّاً. وحين انتشر السلاح وجد الفلسطينيّون أنّ الرشّاش السلعة الوحيدة التي يملكونها، والردّ الوحيد الذي يسترجعون عبره كرامة مفقودة. عندهم، لم يكن الأمر «تحرير فلسطين» إلاّ استطراداً، لقد كان الموضوع الفعليّ تحريرهم هم. ولو كان «داعش» حيّاً يومذاك لطلبوا هذا التحرير ولو في «داعش». لكنْ، وكما نعرف جميعاً، انتهى الأمر بتدمير لبنان الذي لم يتعلّم منه اللبنانيّون شيئاً يُذكر.
وهذه شهادة فَرد مبالِغ في تأييد الجيش، إلاّ أنّ تأييده لا يستدرجه إلى مناهضة البشر. وهل ثمّة بيننا من يقبل هذا الخيار واضعاً الجيش في مقابل البشر؟ نحن لا نقبل. هل يقبل الجيش؟
الحياة
هل قلتم «شرف تضحية وفاء» ؟/ بيسان الشيخ
شهد لبنان أخيراً اعتداءين سافرين على سوريين، يختلفان جذرياً عما سبقهما مما صنف تلقائياً (بتسرع ومن غير دقة أحياناً) في خانة العنصرية.
الأول، فردي، طاول شخصية عامة هي الفنانة أصالة التي أوقفت في مطار بيروت الدولي وسحب جواز سفرها وأحيلت إلى النيابة العامة بسبب مذكرة توقيف دولية، تبين لاحقاً أنها صادرة من دمشق بتهمة التعامل مع «العدو».
أما الثاني، فجماعي، طاول خيم اللاجئين السوريين في منطقة عرسال ونتج منه إحراق للتخشبيات التي يقيمون فيها ومزيد من التهجير للعائلات، وحملة اعتقالات للشباب والرجال تطابقت صورها مع ما كنا نشاهده مطلع الثورة السورية من تجاوزات على يد شبيحة النظام وقواته.
وجه الاختلاف عن بقية الاعتداءات، أن الجهة التي ارتكبت تلك الفظائع بالأمس ليست مجموعة شبان حانقين وموتورين خارجين من حزام بؤس هنا أو هناك، بل جهات رسمية تمثل الدولة اللبنانية ومؤسساتها وتطبق سياساتها… أو هكذا على الأقل يفترض، بالتالي، فما أقدمت عليه ليس عملاً فردياً ناتجاً عن سورة غضب بل تطبيق لتوجيهات وسياسات يبدو أنه تم التوافق عليها سراً من خارج النصوص والدساتير.
أما وجه التشابه، فإن الحادثتين على اختلاف تفاصيلهما والمتضررين منهما تشكلان تلبية صريحة لرغبات النظام السوري بأدوات لبنانية، رسمية هذه المرة.
فالإجحاف الذي تعرضت له الفنانة أصالة، يتعرض له يومياً لبنانيون وسوريون على السواء، تجمعهم معارضتهم لنظام الأسد ووصمة فضفاضة بالتعامل مع عدو غير محدد، لكنهم لا يملكون النجومية اللازمة التي تجعل المدعي العام يمنحهم استثناء قانونياً يخلي سبيلهم ريثما تتوضح الأمور. ناشطون وفنانون وحقوقيون ومواطنون عاديون منعوا من السفر وسحبت جوازاتهم بلا تهم واضحة ولا محاكمات ولا أي سند قانوني سوى «أوامر إخضاع» فجائية، تركت كثيرين منهم رهينة لأمزجة رجال الأمن. ولم يفد كثيراً قرار وزير الداخلية الأخير بوقف العمل بـ «أوامر الإخضاع» واعتبارها غير قانونية، إلا لبعض البهرجة الإعلامية، فيما التجاوزات لا تزال سارية على قدم وساق.
أما الطامة الكبرى، فما واجهه اللاجئون في عرسال من أعمال انتقامية وثأرية من حرق خيامهم واعتقال شبانهم من دون مذكرات توقيف على يد ممثلي الدولة وحاملي شعار «شرف تضحية وفاء». فجاءت تلك الممارسات تتمة رسمية لـ «غضب الأهالي» والغطاء الحكومي الصريح لقرارات غير شرعية طبقتها البلديات على الأراضي اللبنانية كافة بدأت بحظر تجوال السوريين وبلغت حد ترحيلهم نهائياً.
وتفادياً للغوص في سجال العنصرية والعنصرية المضادة وتاريخ العلاقات السورية اللبنانية الرسمي منها والشعبي، قد يفيد حصر النقاش في ما تخلفه الحادثتان من أضرار آنية ومستقبلية على اللبنانيين أولاً وعلى علاقتهم ببلد وشعب يرتبطان بهما ارتباطاً عضوياً، ولا مفر من جيرتهم لهما.
بداية، يبدو واضحاً أن السلطات اللبنانية، سواء في مطار بيروت أو في جرود عرسال متخففة كلياً من أية مسائلة أو محاسبة عامة إلا تلك التي تمليها عليها التحالفات السياسية لقياداتها، ومزايدات بعضهم أملاً في تحقيق طموح جامح في رئاسة حكومة أو جمهورية. ولتغطية فشل حقيقي في إدارة أزمة المخطوفين لدى تنظيم «داعش»، وتنفيساً لغليان الشارع، لا مانع من مداهمة بؤر الإرهابيين المتغلغلين في صفوف اللاجئين طالما أن هؤلاء يقدمون لهم ملاذاً آمناً وسط مخيماتهم. ولا مانع أيضاً من أن يسقط بعض الضحايا و «الأضرار الجانبية»، فذلك ثمن مكافحة الإرهاب. أليست تلك اللغة الرسمية التي تصف الوضع في عرسال، وقد نال الجيش بفضلها تفويضاً شعبياً بالضرب بيد من حديد؟
والواضح أيضاً أن الدولة اللبنانية، وعبر مؤسساتها الأمنية والعسكرية لا تأبه بالسوريين فحسب، بل بمواطنيها أو ببعضهم المتمسك بها صمام أمان أخيراً في وجه الميليشيات. فهي خذلت من نادى بها بديلاً جامعاً، إذ تخلت عن دورها و «هيبتها» (التي تطالبنا بها) وتصرفت كأي حزب مسلح خارج عن القانون. هكذا، تهاوت بقايا الدولة التي تعاني أصلاً فراغاً في سدة الرئاسة، وتعثراً حكومياً، وشللاً برلمانياً وأزمات اقتصادية لا تحصى.
ولم تحسب الدولة اللبنانية حساب ما قد يتعرض له اللبنانيون من أعمال انتقام فردية أو جماعية من هؤلاء الذين تعمدت إهانتهم وإذلالهم بغير وجه حق. فهي إذ تزيد الاحتقان والانقسام بين اللاجئين والبيئات المضيفة، إنما تعبد الطريق أمام حالات تطرف بدأت بشائرها تظهر جلية. فأول رد فعل كان رفع رايات «داعش» في مخيمات النازحين في البقاع، علماً أنه كان سبقه سلوك مشابه في طرابلس.
لا شك في أن ثمة من سيتبرع بالقول إن ذلك دليل قاطع على أن بيئة اللجوء السوري حاضنة أصلاً للإرهاب ومنتجة للفكر «الداعشي»، متغاضياً عن بيئاته الحاضنة محلياً وأعداد اللبنانيين في صفوفه.
لكن أياً يكن، فمن غير المقبول أن ينتهك جيش وطني أشخاصاً عزلاً ويستقوي على لاجئين تحت أي ذريعة كانت، وإن فعل فليس باسمنا… ذاك أننا منهمكون اليوم بالبحث جدياً في مسائل الشرف والتضحية والوفاء.
الحياة
حكي جردي: عسْكَرُنا.. وَهْمٌ وَهَمٌّ/ بومدين الساحلي
حكي جردي: عسْكَرُنا.. وَهْمٌ وَهَمٌّ من اليوم الأسود
شروط لا بد منها كي تكون المؤسسة العسكرية وطنية:
ـ أن ينبع قرارُها من قيادتها فقط في إطار تنفيذ المهمات الموكولة إليها وفق الدستور والقانون.
ـ أن ينتسب المواطنون إليها ويـُقبَلون فيها وفقاً لكفاءاتهم وما تفتقر إليه من كوادر.
ـ أن يجري تشكيل أفرادها وتنقّلهم في قطعاتها العسكرية وفقا لحاجتها وقدرة العسكري الذهنية والجسدية وسيرته الميدانية.
** ** ** **
سلطة فاسدة تقوم على حسابات طائفية ومذهبية ومناطقية وفئوية وعلى تبادل رشوات مادية أو معنوية لا يمكن أن تكون سلطة وطنية، هي فاشلة قطعا في أن تبني ـ بسبب تدخلها وهيمنتها ومصالح أفرادها ـ مؤسسة عسكرية قادرة على رعاية المواطنين تحت سقف القانون، فقط هي تجعلها مرآة لتجاوزاتها وأفعالها الشاذة: وجهها المقنع.
** ** ** **
الذين يتباهون بوقوفهم إلى جانب المؤسسة العسكرية ولا يتركون مناسبة إلا ويدّعون دعمها ومؤازرتها ثم يغضون النظر عن بعض قطيعهم -عندما يقوم مثلا بالاعتداء على المواطنين الآمنين العابرين إلى عيشهم تحت حجج مختلفة على مرأى ومسمع عناصرها- أو يمنعونها من تطبيق القانون على المخالفين هنا أو هناك: هم الفئة الباغية، وهي – في حيادها واستنسابها – وجهٌ من وجوه هذه الفئة الظالمة.
** ** ** **
العقيدة العسكرية تخضع بشكل عام لمنظومة من المبادىء الحقوقية والإنسانية، ما تمارسه من طرائق قتالية قبل وأثناء وبعد الحروب لا يجب أن يتخطى تلك المنظومة: كل تجاوز أخلاقي وقانوني – من قبل أي عسكري مهما بلغت رتبته – جرى أو يجري السكوت عنه من قبل رؤسائه إنما يدفع بالمؤسسة التي ينتمي إليها أن تكون ميليشيا فاشية أو حزبية أو قبلية، وهو يزعزع ثقة المواطنين الذين ارتضوها ناظماً لهم في عيشهم وعملهم.
** ** ** **
يستمد العسكري عزيمته ومعنوياته القتالية من مجمل الظروف والأوضاع المحيطة والمعاشة على أكثر من صعيد. التفاني والتضحية والغَيْريّة والاستبسال والفداء مجموعة من القيم يُطْلب من الجندي أن يتحلى بها، الواقع يشير بأنه لا توجد وصفة جاهزة للحصول عليها كما أنها لا تأتي من فراغ إنما هي حاصل تجارب وسِيَرٍ وحَيَوات تستند إلى حزم في تطبيق القانون وعدل في توزيع الفرص والمكاسب. الحالة السياسية المشرذمة والمأزومة وعدم المساواة في الحقوق والواجبات وواقع المحسوبيات والرشاوي في الحصول على المواقع والحوافز، كل ذلك يضرّ بالروح المعنوية وتاليا القتالية للجندي الذي يشعر في لحظات كثيرة من سيرته بأن ما يربطه ببدلته العسكرية ليس أكثر من المعاش الذي يتقاضاه في آخر الشهر ليدفع الجوع والمرض عن عياله: حديثٌ سريعٌ مع أيّ جندي عابر يفيد بأن “هم” يريدون أن يصنعوا بطولات وهمية على “دمنا” بعيداً عن اية رؤية قتالية وعسكرية وبعيدا عن أية أهداف وطنية، وبأن “حياتنا” لا تساوي عند “هم” أكثر من ثمن معدن الوسام الذي سيزيّن “كفننا” على وقع موسيقى الموت.
** ** ** **
ما زال الجنود في الأسر، بعضهم ذُبح واُعدمَ على مرأى ومسمع كل هذه الطبقة السياسية من دون أن يقوم أي من مكوناتها بأي جهد يذكر لطمأنة قلوب أولئك الأهل القابضين على جمر الغياب، علماً بأنهم – بالجملة والمفرّق – قادرون على ذلك ولا يقومون به.
ما تزال ملابسات خطفهم مبهمة، لم نعلم بعد من كان مخطئا في خططه وتقديراته وقراراته حتى وصلنا إلى هذه النتيجة،كأنما تركوا هناك في عراء الوطن من أجل استدراج إهله إلى فخ المذبحة، تلك التي –وإن بدت مؤجلة- تبني أساساتها وتمد جذورَها هنا وهناك بانتظار ساعةٍ صفرٍ يعلنها المهيمنون على هذه البلاد.
** ** ** **
المؤسسة العسكرية التي تصدر بيانا تعلن فيه أنها حررت مواطناً من أيدي مواطنين آخرين من دون أن تذكر شيئاً عن الخاطفين لا تستحق ثقة ناسها، من الواضح أنها لا تنفذ القانون بل ترضخ لتعليمات من يرتهنون لخارجٍ مظلم.
** ** ** **
بالرغم من كل هذه الصورة القاتمة، واجبنا أن نكون مع أبنائنا الذين يرابضون هناك وحيدين إلا من خوفهم وقلقهم والدواعش الذين يحيطون بهم أو يَدفعون بهم في أتون ذلك اللهيب، بانتظار أخبار سلامتهم وعودتهم إلى أحضان من يحبون فإن كل علم لداعش وأخواتها يرتفع فوق أرض لبنان هو رمح يغرز في سفينة نجاتهم.
المدن
العلاقة المركّبة اللبنانية السورية و”بناء السلام/ ريّـان ماجـد
“في إحدى الجلسات الاجتماعية المشتركة بين السوريين واللبنانيين، تحدث شاب سوري عن موقف تعرض له على حاجز للأمن السوري، فشاركه شاب لبناني تجربة شبيهة مرّ بها على حاجز للأمن السوري أيضاً في لبنان. سرعان ما تحوّلت الجلسة سرداً لتجارب تجمعها تفاصيل مشتركة عن الفقدان والموت والحرب والتعايش مع القصف والحصار والمعارك..”. هذا ما كتبته ضحى حسن في مقال لها بعنوان “في لقاء الشباب السوري واللبناني”، نُشر في العدد الخامس من “ملحق مشروع بناء السلام في لبنان”، التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي بتمويل من اليابان، الذي صدر يوم 23 أيلول ووزّع مع صحف لبنانية.
أردت، بعد أن خلقت ذاتاً جديدة لي، لا علاقة لها بالنظام، أو بأبده، أن أتصل بالآخر، الذي منعني “البعث” من التفاعل معه. وقد كان من البديهي أن يكون الاحتكاك الأول مع هذا الغير قاسياً ومؤلماً، لدرجة أنني صرت، في أوقات معينة، شبه متأكد من كرهه لي، ومن كرهي له. أنا الآتي على متن الموت إلى هنا، كان هذياني شديداً، كما كانت الحواجز، التي يضعها الآخر أمامي مرتفعة للغاية”، كتب روجيه عوطة في العدد ذاته، ناقلاً شهادة شاب سوري “أتى إلى لبنان طالباً العام 2009، قبل أن يغادره ويعود إلى بيروت في العام 2012”.
تناول هذا العدد بشكل أساسي موضوع التنميط والنظرة المتقابلة بين اللبنانيين والسوريين، بعدما تناول العددان الأوّلان مواضيع متعلقة بالمصالحة بين اللبنانيين وبمبادرات المجتمع المدني. في الأعداد الثلاثة الأخيرة، فتحنا ملفّ السوريين في لبنان وحاولنا مقاربته بشكل عقلاني والتركيز على الأثار الإيجابية له”، أخبرت جوانا نصار، مديرة مشروع “بناء السلام في لبنان” التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وأضافت أن هدف العدد الأخير، “خلق خطاب مغاير عن السائد، بالرغم من صعوبة هذا التحدّي، من خلال مساهمات صحافيين متنوعين من مؤسسات إعلامية مختلفة، سوريين ولبنانيين، وفتح النقاش حول مواضيع لم تكن تُحكى من قبل بينهم، عن الماضي والتاريخ وعن الواقع الجديد المركّب الذي يعيشه اللبنانيون والسوريون في لبنان”.
“في الحقيقة مررت، كما مرّ غيري من لبنانيين وسوريين أعرفهم، بمراحل مختلفة من الفهم وسوء الفهم أيضاً. فهذه السنوات التي شهدت توافد أعداد كبيرة من السوريين للإقامة في لبنان إما هرباً أو لجوءاً أو انتقالاً نحو بلد آخر، ساهمت في تقارب واكتشاف وصداقات من ناحية وصدامات وسجالات جادة من نواحٍ أخرى. لعلّ السنوات الأولى من عمر ما بدأ كثورة، كانت بمثابة الاكتشاف والتعارف والمصارحة، لكنها مع تصاعد الوضع، ومع ضيق أفق الحلّ، باتت مساحات الصدام أوسع”، كما جاء في مساهمة ديانا مقلد في العدد بعنوان “الشقاء اللبناني السوري”.
صدر هذا الملحق في وقت تتزايد فيه وتيرة الاعتداءات على السوريين في لبنان بشكل مخيف، من دون أن تجري تحقيقات في حوادث الاعتداء وملاحقات قضائية بحق مرتكبيها.
“اعرف عدّوك، السوري عدّوك”، هكذا كُتب على حائط في منطقة الأشرفية في بيروت منذ أيام. إذ بعدما كان يُعاقب السوريون في لبنان بذريعة نظامهم، أصبحوا يُعاقبون اليوم بذريعة “داعش”.
“ما نشهده في لبنان خطير، إذ إن الاعتداءات والاعتقالات والضرب ولافتات حظر التجوّل تنتشر في المناطق بشكل كبير، وهي أصبحت جزءاً من اليوميات، ويعتبرها كثر أنها دليل عافية. وهذا غير مقبول. هناك هيستيريا جماعية وإباحة للعنف، تجعلنا نبتعد عن موضوع حقوق الإنسان. نحاول القول من خلال الملحق وفي مبادرات عديدة أخرى صدرت عن مجموعات في لبنان، أن العقاب الجماعي مرفوض، وأنه لا يمكن تناول موضوع السوريين في لبنان من بوابة الأمن”، ختمت جوانا نصار.
موقع لبنان ناو
الهيبة والأسرى/ حسام عيتاني
تتمسك الحكومة اللبنانية برفض مبادلة الأسرى من جنود الجيش وقوى الأمن الداخلي لدى «داعش» و «النصرة» بسجناء إسلاميين أكثرهم لم تصدر في حقه أحكام قضائية. تتذرع الحكومة بالحرص على «هيبتها» وعلى سلامة العملية القضائية في الدولة.
وعلى جاري عادة راسخة، يُطرح مصطلح جديد في التداول السياسي والإعلامي من دون تفسير مقنع، فما هي «الهيبة» التي تساهم في تكوين السلطة؟ وما أدواتها ورموزها وآليات عملها؟ وكيف تساهم في الحفاظ على التزام المواطنين بواجباتهم وتؤمن لهم الحقوق الشرعية؟ الردود كلام عام مفكك.
تنتمي «الهيبة» الى البنية الفوقية للسلطة، إذا جاز التعبير، وإلى منظومة القسر والإكراه التي تحقق السلطة بها إرادتها. والوصول إلى تعريفها يقتضي مروراً طويلاً بمصطلحات السلطة والدولة والعنف الحصري والاستثناء والشرعية، ما لا تحتمله هذه السطور. باختصار، عند قاعدة هرم السلطة و «هيبتها» يقف الجندي، العنصر المسلح الذي يطبق، ولو بالقوة، قرار السلطة السياسية المستندة إلى واحد من أنواع الشرعية (الدستورية، الثورية، الدينية…). بكلمات ثانية، الجندي ورجل الأمن هما المخولان تنفيذ سياسات السلطة في حال تعذر تنفيذها بالوسائل «الناعمة» عبر الإدارات والهيئات غير المسلحة التي تضمها أجهزة الدولة.
المفارقة أن الحكومة اللبنانية، وهي ائتلاف للسلطات شبه المستقلة القائمة في البلاد، ترفض التفاوض لاستعادة البعض من عناصر قوتها الصريحة والأساسية، حرصاً على هيبتها، أي على عنصر قوتها الكامنة وغير الصريحة. الذريعة هي أن لبنان لا يتفاوض مع إرهابيين. لا مجال هنا للتذكير بأن إرهابيين بالمعنى الدقيق للكلمة، يحتلون الصف الأول للقيادات السياسية اللبنانية، ولا بتجارب دول تفاوضت مع كل من هب ودب من الإرهابيين لاسترجاع جنود ورعايا استرهنهم إرهابيون في لبنان وغيره، بعض هؤلاء الإرهابيين هم ممن يعارض بشدة التفاوض مع نظراء سابقين له، لإنقاذ الجنود.
مهما يكن من أمر هذه الذاكرة القصيرة والانتقائية، يتعين الآن النظر إلى مأساة الجنود الرهائن باعتبارهم من ضحايا النظام السياسي اللبناني. تصريحات أهالي الجنود الذين يطالبون بعودة أبنائهم مقابل برودة وعجرفة المسؤولين الرسميين وممثلي الشعب في البرلمان وقواه السياسية- الطائفية الأبرز، الذين لا ينامون الليل سهراً على هيبة الدولة واستعادة الأسرى، تقدم صورة دقيقة عن هذا البلد.
الجندي عندنا قبل أن يكون ممثلاً للسلطة (الائتلافية منذ اتفاق الطائف)، هو مندوب الشريحة الفقيرة من طائفته في مؤسسات الدولة. التعامل معه يبدأ من خلفيته الاجتماعية كأداة طيِّعة لطائفته أولاً، وللدولة ثانياً. هو مرشح دائم للاستقطاب إلى الأصول الطائفية عندما تدعو الحاجة، على غرار ما حصل مرات لا تحصى بين 1975 و1990، وهو «لحم المدفع» –وفق تعبير تولستوي- الذي يُلقى به في الأتون عندما تطلب الضرورة.
وبعيداً من أي تبرير لإرهابيي «داعش» و «النصرة»، يعيد هذا الوصف الاعتبار إلى وضع الجنود في الجيوش الأوروبية نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، عندما كانوا يساقون إلى حروب استعمارية ترمي إلى تمديد سيطرة الطبقات الحاكمة وتوسيع أمدية مصالحها المالية. شيء مشابه يجري مع الجنود اللبنانيين الأسرى. كما يذكر أن الثورات في ذلك الزمن كانت تبدأ بنداءات إلى «العمال والفلاحين والجنود الفقراء».
الحياة
هناك من يربّي عداوة بين اللبنانيين والسوريين/ يوسف بزي
وصل الكاتب السوري الشاب إلى مطار بيروت. على الفور، أوقفه ضباط «الأمن العام» لمدة ساعتين. كانوا يتحققون منه، ومن سبب زيارته. كان يمكن لهذا الإجراء أن يبدو طبيعياً لولا المعاملة السيئة، المفعمة بالإهانة والإذلال المتعمّدين.
ما لاحظه الكاتب السوري في ملفه لدى «الأمن العام» كلمة «موهوب». وبطبيعة الحال، يحمل الملف معلومات إضافية من نوع «معارض» أو «معتقل سابق في سوريا»..إلخ. الجهاز الأمني اللبناني يبدو نشطاً في هذا المضمار، أي ترتيب ملفات وتقارير عن «الموهوبين» والمعارضين السوريين. ويبدو أن معلوماته مستقاة من مصادر أصلية واسعة الإطلاع، تعرف من هو الموهوب ومن هو المعتقل السابق ومن هو المعارض. على الأرجح هذه المصادر ليست بعيدة عن أجهزة النظام السوري نفسه. ونتجرأ على هذا التخمين، طالما أن وزير العدل اللواء أشرف ريفي قال يوم الأربعاء الماضي: «القضاء (اللبناني) لن يكون أداة في يد النظام السوري، لتنفيذ توقيفات ظاهرها قضائي ولكن خلفياتها سياسية»، في معرض رده على قيام «الأمن العام» بتوقيف الفنانة السورية المعارضة، أصالة، وحجز جواز سفرها.
ما بين أفعال «الأمن العام» وموقف وزير العدل فجوة كبيرة، تدلنا على سعة الانقسام السياسي العميق الذي يشق المجتمع اللبناني ودولته ومؤسساته. انقسام مذهبي وطائفي، علاوة عن كونه انقساماً في المحاور الإقليمية والدولية، يترجم نفسه بقوة في الصراع السوري المرير، بين سفالة الإنحياز لنظام بشار الأسد أو التضامن مع الشعب السوري.
ما حدث للمغنية أصالة في مطار بيروت، يكشف على نحو مخزٍ استمرار «التنسيق الأمني» بين بعض الأجهزة اللبنانية والمخابرات السورية. ويكشف أيضاً أن مؤسسات الدولة اللبنانية، الأمنية والخدماتية والسياسية، تتوزع ولاءاتها دون القرار الرسمي ودون قرار الحكومة، إن وجد هكذا قرار أصلاً.
وإذا كانت نجومية «أصالة»، منحتها بعض الحصانة، وأوقعت الدولة اللبنانية في الحرج إلى حد الفضيحة، فإن مئات السوريين الذين يتعرضون يومياً للمضايقات والإهانات وحتى الإيذاء الجسدي، لا يجدون أي حصانة تصون كرامتهم.
ويتفاقم التأزم اللبناني على وقع الحدث السوري، ليس فقط في الاستنفار المذهبي الحاد، بل في إسقاط المعضلات اللبنانية كلها على مسبب واحد، كبش فداء مستضعف، ومن السهل النيل منه: النازح السوري.
على هذا النحو، وانتقاماً للمهانة التي تعرض لها الجيش اللبناني في عرسال، منذ شهرين تقريباً، تُشن حملة على النازحين السوريين في البلدة وتُحرق خيامهم، ويُقتل طفل منهم، وتنتشر صور المعاملة المسيئة للشبان والرجال السوريين، لتنتهي الحملة بتوقيف 22 شخصاً «للإشتباه بانتمائهم لمنظمات إرهابية» (فقط اشتباه؟!) بالإضافة إلى توقيف 36 شخصاً «لدخولهم الأراضي اللبنانية بطريقة غير شرعية» (معظم النازحين دخلوا بطريقة غير شرعية!).
هنا تجد العنصرية اللبنانية «التلقائية» (إن صح التعبير) نهجاً سياسياً رسمياً لها. فبعدما كانت عنصرية تتذرع بالاختلاف الثقافي أو الطبقي وأنماط العيش وتقاليده، ومتحولة إلى سلوك تمييزي مشين. وبعدما كانت عنصرية قائمة على ضغائن شعبوية وشوفينية، غذتها تجربة الحروب واحتلال جيش النظام السوري ومخابراته للبنان. وبعدما كانت عنصرية نابعة من الخوف الديموغرافي الطائفي وامتداداً للعصبيات المذهبية وأحقادها.. ها هي العنصرية اللبنانية تكتسب بعداً جديداً إذ تتحول إلى «سياسة رسمية» تترجم نفسها في الإجراءات الأمنية والعسكرية والإدارية، كما في التدابير التي تعلنها المجالس البلدية أو سلطات تطبيق القانون الأخرى. عدا عن «فحيح» الإعلام والمناشير وفناني «عبدة الصباط»، والحملات الدعائية الأخرى التي بات من الواضح أنها منسقة ومنظمة.
لا شك أن قسماً كبيراً من اللبنانيين قدم تضحيات من أجل نصرة الشعب السوري، وأظهر قدرة ومرونة فائقتين في استيعاب عدد من النازحين السوريين يماثل ثلث السكان، وتحمل أعباء هائلة في تقاسم القدرات والموارد الضعيفة أصلاً، بل إن مظاهر التعاطف والشهامة والتكافل هي الغالبة على امتداد السنوات الثلاث. ولا شك أن قسماً لا يستهان به من اللبنانيين، «تحلّى» بوضاعة سياسية جعلته متورطاً في الدم السوري وفي خراب سوريا. هذا ما اختزله ببراعة الكاتب والناشر السوري المقيم بباريس فاروق مردم بك، قائلاً: «ما فهمناه في محنتنا، نحن السوريين، أن أصدقاءنا اللبنانيين أنبل الأصدقاء، وأن أعداءنا اللبنانيين أنذل الأعداء. فهم الفلسطينيون ذلك قبلنا«.
«أنذل أعداء السوريين» من اللبنانيين، يعرفون بيقين أن المليونيّ سوري تقريباً الموجودين في لبنان، هم هاربون من النظام السوري تحديداً. يدركون أن الذي هجّرهم من بلادهم هو جيش الأسد المدعوم من مقاتلين لبنانيين من صنف «الأنذال» إياهم. ولهذا السبب بالذات، ما ينزل بالسوريين من عقاب عنصري ممنهج داخل لبنان، هو امتداد لحرب الاستئصال التي تطالهم داخل سوريا. إذ إن النظام السوري وصلت به الحقارة إلى حد أنه لم يتنكب عناء ولو مجرد بيان احتجاجي دفاعاً عن كرامة «مواطنيه»، فهؤلاء ليسوا من رعايا «سوريا المفيدة»، على ما تفتقت به إحدى النظريات السياسية. والنظام السوري نفسه فائق العنصرية تجاه رعاياه، وحكم طوال أكثر من أربعين عاماً بنظام تمييزي، شديد العنصرية. لولا ذلك ما كانت له هذه القدرة الوحشية في القتل، وهذه الشهية على المجازر. فقط نظام عنصري أصيل هو الذي يستطيع إخراج ملايين السوريين من خانة البشر، فيستسهل رشهم بالمبيدات الكيماوية ورميهم بأطنان البراميل المتفجرة. وها هم حلفاؤه من اللبنانيين يلاقونه تنكيلاً وإيذاء ومهانة بالهاربين من بطش الفاشية الطائفية «البعثية»، والواقعين الآن تحت بطش الفاشية الطائفية اللبنانية.
ما يحدث الآن، هو «تربية» عداوة مقصودة، وتنميتها بسرعة بين اللبنانيين والسوريين. يتم اختراع أحقاد وضغائن، ويسقط ضحايا في الأثناء، ويتلاقى إرهابيو «داعش» و»النصرة» مع إرهابيي النظام السوري و»حزب الله» في توريط لبنان الرسمي وجيشه وأجهزته، بحرب قذرة على النازحين السوريين، إن استمرت ستكون أفدح بما لا يقاس، بنتائجها الكارثية، من خطيئة المنظمات الفلسطينية وأحزاب «الحركة الوطنية اللبنانية» و»الجبهة اللبنانية» عندما جروا الفلسطينيين واللبنانيين إلى مذبحة أكل فيها النظام السوري وإسرائيل لحمنا حتى العظم.
المستقبل