تصحيح صورة الأكراد السوريين
علي جازو *
ثمّة الكثير مما يروَّج له في الأسابيع القليلة الماضية، ويساهم الإعلام المتسرّع، غير الموثوق بصدقيته، في إحلال الترويج المزيّف محلَّ وقائع فعلية وميول أكيدة، عن استعداد أكراد سورية لإدارة مناطقهم «ذاتياً» بمعزل عن السلطة المركزية في دمشق التي لم تعد قادرة على حكم وإدارة أريافها. يترافق ذلك مع قراءة مغلوطة عن ميول كردية خفية، وفق ما يشاع بكثرة، إلى الانفصال عن سورية، أو تكوين فيديرالية كردية شبيهة بحال كردستان العراق.
لا الانفصال وارد، عدا كونه مستحيل التحقيق، ولا الفيديرالية ممكنة، فالشعارات تتبخّر فيما السلوك الفعلي يستمرّ في منحى آخر.
يضاف إلى الترويج الإعلامي، «المغرض» والمستفزّ، احتمال فرصة أن يطرح شخص حماسي أحمق ومتهور شعارات ومرامي شعبوية، غائمة وفضفاضة، لبعض الأكراد السوريين، ومثل هذا قلة قليلة بالفعل. هكذا، يتم تناسي أو إغفال استحالة تحققها، عدا عما تجرّه من تشويه سيئ للصورة السياسية الحقيقية لدى الغالبية الكردية السورية، وما تتضمنه هذه الصورة من حسّ وطني وتمايز قومي منسجمَين. بعض أسباب هذا التناقض بين الوجه الإعلامي عن حال الكرد السوريين وما يجري على الأرض مردّه إلى الأداءُ السياسي المترهل والمشتت والمتخاصم بين السياسيين الكرد أنفسهم من جهة، وبينهم وبين حزب العمال الكردستاني من جهة أخرى.
وتكشف وقائع كثيرة عن فشل الطبقة السياسية الكردية في أمرين متلازمين وملحّين: الأول افتقارها إلى تنظيم حيوي جامع ومنسجم يعطي الصورة الحقيقية عن مشاعر غالبية الكرد إزاء إخوانهم السوريين وحول مستقبل الدولة السورية ومسارات الثورة المعقدة، وبذلك تُقدم المساهمة الكردية المهمة والضرورية في تحصين الداخل السوري الاجتماعي والأهلي.
والأمر الثاني تحوّل المجلس الوطني الكردي، بعد مضي حوالى السنة على تأسيسه، إلى طرف صراع عقيم، انحطّ أكثر من مرة إلى درك شنيع ومجابهات مسعورة، مع عناصر حزب العمال الكردستاني الذين غدوا بين ليلة وضحاها أصحاب حكم فعلي في المناطق الكردية، عوض أن يكون المجلس المذكور الرافعة السياسية الأساسية والناطقة باسم مرجعية كردية سورية تحول دون تمزق أكراد سورية في صراعات كردية – كردية بائسة، أو كردية – عربية محتملة، وتضفي بالتالي على الحضور الكردي السوري الصفات الحقيقية والمميزة لعموم أكراد سورية.
ولا يخفى أن الظهور المسلح غزا المناطق الكردية السورية منذ أن «سلّمت» السلطة، ظاهرياً على الأقل، الكثير من مرافقها إلى حزب العمال الكردستاني، ونتيجة تدخل الحزب في كثير من مفاصل الحياة اليومية، كاحتكار توزيع الوقود والغاز وسواها، وميله إلى فرض سطوته وسيطرته بكل الطرق، ومن بينها استعمال السلاح علانية، والسيطرة على منافع وشبكات التهريب.
وقد حدثت مشاحنات وخصومات «ومعارك» هنا وهناك، وتكاثر وفود السلاح إلى المناطق الكردية، عدا عن اغتيالات وتصفيات لأعضاء «مختارين» من أحــزاب منضوية في المجلس الوطني الكردي السوري بدأت باغتــيال الفقـــيد مـشعل التـــمو منذ قرابة السنة، ولم يزل فــاعلوها «أشــباحاً» مجهولين.
والحال حقيقة أن غالبية الكرد السوريين غير ميالة للعنف واستخدام السلاح، إلا إذا فرض عليها استعماله دفاعاً عن النفس.
ومما يجدر التنويه به والحفاظ عليه، أنه طوال عقود ثقيلة من الاضطهاد العرقي الصرف والتضييق على الكرد السوريين، في شتى مجالات الحياة، مع ما رافق ذلك من عمليات قتل واعتقال مديد وإفقار قسريّ جهنميّ، لم يتم جرّ الأكراد إلى نقطة اللاعودة. هذه سمة مميزة وتكشف عن طباع عامة تميل إلى مسلك السلمية والمهادنة والتحلّي بالصبر وقوة التحمل.
والمؤسف والمحير في الحالة الكردية السورية «الحديثة»، وهذا ما لم يكن توقعه ممكناً منذ بدايات الثورة السورية، أن الأحزاب ومعظم الناشطين الميدانيين لا يعكسون طموح الغالبية الكردية السورية التي تجد نفسها في حيرة إزاء من يمثلها ويدعي النطق باسمها، وما يجره هذا التمثيل «المفترض والجاهز والمشتت» من مصاعب وما يراكمه من تشويه لصورة الكردي السوري لدى الرأي العام الكردي والسوري في آن.
على العكس، لقد غدت الأحزاب هذه، نتيجة مخاصماتها الدنيئة وغير المفهومة، بعد تكشف اهتراء المجلس الوطني الكردي من الداخل، عبئاً وسبباً لانقسامات مناطقية أهلية وعائلية كردية – كردية. هكذا، كشفت الثورة السورية، من ضمن ما نجحت في رفع الغطاء عنه، عن البؤس الفكري والتنظيمي للحركات السياسية السورية القديمة، عربية كانت أم كردية، التي فاجأتها الثورة، ولم تجد السبيل الفكري السديد والسياسي القويم لفهم وقائعها المتسارعة والرهيبة.
إن الشعب متقدم كثيراً على الناطقين باسمه، وعلى الأخيرين المباردة الشجاعة إلى جلسات اعتراف عن عدم أحقيتهم بتمثيل أناس لم يفوضوهم التمثيل أصلاً، ولا تتلاقى خططهم الاعتباطية وتصوراتهم الانفعالية مع أبسط وأعمق ما يطمح إليه عموم كرد سورية وغالبية السوريين.
من جهة أخرى، وفي المقابل من هذا وذاك، لا ينبغي إغفال تكون مناخ نفسي ومادي «يفصل المناطق الكردية» عن العموم السوري.
وقد ساهم تحجر المجلس الوطني السوري وغيره من هيئات المعارضة، وعدم تفهمهم الحساسية الكردية في تعقيد الأمر. فآلاف اللاجئين الأكراد والعرب هربوا إلى كردستان العراق، ويقدم الإقليم الكردي مساعدات طبية وغذائية للمناطق الكردية (تم توزيعها على نازحين من حمص ودير الزور) التي أصبحت ملاذاً آمناً لآلاف العائلات الهاربة من حلب وحمص ودمشق ودير الزور. ويتحمل الكرد السوريون ضغوطاً معيشية هائلة لتوفير ملاذ آمن للنازحين وتقديم العون.
ومجموع هذه العوامل، المتنافرة والمتشابكة، يقدم صورة عامة عن الحال الكردية السورية التي غدت في الأيام الأخيرة محل توتر داخلي وخارجي متفاقم، لا سيما بعد وصول عمليات التفجير إلى القامشلي وحدوث تبادل لإطلاق النار على الحدود الكردية – السورية – التركية.
إن الامتحان الجدي والصعب بدأ، وعلى أكراد سورية وفاعليهم السياسيين الذين يتحملون مسؤوليات شديدة الخطورة والحساسية، بذل جهود جبارة لتقديم الصورة الحقيقية عن أنفسهم، والارتقاء بأدائهم، من أجل تصحيح أوصاف خاطئة يسبغها «آخرون» عليهم من دون وجه حق أو معرفة حيادية نزيهة بالوقائع المركبة وملابساتها المختلطة.
* كاتب كردي سوري
الحياة