تصدير الأزمة: لبنان في حسابات النظام السوري
عبد الوهاب بدرخان
يُستدل من خط سير الأزمة السورية أن لبنان سيكون الأكثر تأثرًا بتداعياتها، وستزداد المخاطر عليه كلما طالت الأزمة. وإذا كانت النهاية المرجحة بل المؤكدة أن النظام السوري سيسقط في نهاية المطاف، فإن سيناريو هذه النهاية وشكلها سيتحكمان بالاحتمالات المتصوّرة لانعكاساتها في لبنان وعليه.
الحلقة الأضعف
لا شك أن الدول الخمس المحاذية لسوريا استشعرت سخونة المواجهة الدائرة فيها، وربما تصلها، باستثناء إسرائيل، شرارات أخرى في المراحل المقبلة، سواء من الحجم المتعاظم للنازحين أو الاحتكاكات الحدودية وسيطرة الثوار على المعابر. لكن الخطر الكردي الذي تعمّدت دمشق أخيرًا تفعيله لن يؤدي إلى زعزعة الدولة القوية في تركيا، أما بالنسبة إلى العراق فإن الصيغة الهشّة للتعايش الحالي بين المكونات معرّضة للاهتزاز بفعل تأجيج المشاعر الطائفية والمذهبية، وقد يتأثر الأردن أقل أو أكثر نظرًا إلى تفاعل أزمته الداخلية مع الحدث الإقليمي إلا أن أمنه سيبقى خطًّا أحمر متمتعًا بضمان أميركي-إسرائيلي.
لذلك يبقى لبنان الحلقة الأضعف، وساحةً مستباحةً للنظامين السوري والإيراني اللذين يستخدمانه لأهداف شتى، مستغلَّيْن:
أولاً: ضعف دولته وانحلالها جرّاء عقود من الهيمنة والوصاية السوريتين، وخروج غير سليم ومنسَّق من الحرب الأهلية، وكذلك بسبب الحالة المعقّدة التي ترتّبت على سلاح “حزب الله” منذ انتهائه عام 2000 من تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي.
ثانيًا: يستغل النظامان السوري والإيراني انقسامًا بين الأطراف اللبنانية، وهو انقسام كانا ساهما في بلورته وتعميقه بعد العام 2005 سواء لاحتواء تداعيات انسحاب الجيش السوري من لبنان، أو لتأمين شبكة أمان داخلية لـ “حزب الله” وسلاحه، وأيضًا لفرض دور ووظيفة على لبنان بمعزل عن الإجماع الوطني.
ثالثًا: يشمل استغلال النظامين السوري والإيراني لهذا الانقسام إضعاف الجيش اللبناني وتهميشه، واختراق الأجهزة الأمنية، والضغط على الوسط السياسي بتعزيز نفوذ الجهات الموالية لهما وعقاب المناوئين. وكانت تبعات اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، من تحقيق دولي واتهامات أولية للنظام السوري لم تتبدد كليًا، ثم اتهامات “موثّقة” وجهتها المحكمة الدولية لعناصر من “حزب الله”، قد زادت الانقسام حدّةً ودفعت بلبنان إلى حافة اقتتال أهلي. ويصب في هذا الاتجاه الاتهامات الموجهة لوزير لبناني سابق، ميشال سماحة، بإشرافه على مخطط لاغتيال عدد من السياسيين، وجميعهم من فريق سياسي واحد.
رابعًا: نجح استغلال النظامين السوري والإيراني لهذا الانقسام في تمكين حلفائهما من سيطرة كاملة على الحكومة الحالية، وأيضًا في إحداث تغييرات في طبيعة النظام اللبناني ومصادرة مقوّمات الاستقلال والسيادة، وبالتالي إحباط البحث التقليدي عن توافقات داخلية يفرضها التعايش الوطني عبر ما يسمى “الحوار الوطني”. فعلى سبيل المثال، يمكن للبنان في مراحل سابقة أن يواجه أي اعتداءات إسرائيلية بالاشتكاء إلى مجلس الأمن الدولي، أو بحثّ الجامعة العربية على نصرته، لكنه في الوضع الراهن مع تزايد الانتهاكات السورية وسقوط ضحايا مدنيين لا يُسمح لحكومته بالاحتجاج أو بتحذير دمشق ولا بمجرد التفكير باللجوء الى المحافل العربية أو الدولية.
منذ اندلاع الثورة في سوريا أُضيف محور جديد إلى محاور الانقسام بين اللبنانيين؛ فالفريق المعروف باسم 14 آذار يشمل السُّنة عمومًا إلى جانب طيف واسع ومتنوع من الطوائف الأخرى، وهو متضرر رئيسي من الهيمنة السورية-الإيرانية، فبعد أن خاض انتفاضة عام 2005 تحت شعار الخلاص من الوصاية واستعادة الاستقلال وجد نفسه تلقائيًا إلى جانب الثورة السورية ومدافعًا عن أهدافها. أما الفريق الآخر المعروف باسم 8 آذار، الذي يضم الشيعة أساسًا إلى جانب فريق مهم من المسيحيين الموارنة، فيناوئ الثورة ويسخِّف أهدافها ويرى مصلحته مع النظام السوري على المديين القريب والبعيد، كما يسانده في حربه ضد ما يعتبره “مؤامرة” عليه.
النأي بالنفس
في ظل هذا الانقسام استندت الحكومة اللبنانية الحالية إلى كونها موالية للنظام السوري أو قريبة منه، من أجل أن يُسمح لها بأن ترسم مسافة علنية لكن وهمية بينها وبينه، وهو ما عُرِف بـ “سياسة النأي بالنفس” التي سهّلت على لبنان إما التحفظ على القرارات التي تتخذ ضد النظام السوري في المحافل الدولية والعربية، وإما التهرب من التصويت معها أو ضدها. ورغم الاعتراضات المبدئية، تشكّل نوع من التوافق على هذه السياسة باعتبار أنها تساعد على إبقاء الاستقرار الضروري للاقتصاد الضعيف.
ولعل دوافع ثلاثة ساهمت في إقناع نظام دمشق بقبول هذه السياسة:
أولها: أن الموقف اللبناني الرسمي بقي مفهومًا عمومًا بأنه نأيٌ لمصلحة النظام السوري.
والثاني: أن الاستقرار المنشود يدعمه ويوفر على حليفه الرئيسي “حزب الله” أعباءً لا يريدها لأنها تشغله وتضعف موقفه في المواجهة المستمرة مع العدو الإسرائيلي.
والثالث: أن هذ الاستقرار يُبقي لبنان رئة ومتنفسًا لسوريا بعد تراكم العقوبات الأميركية والأوروبية المركَّزة على النظام وأشخاصه وأعوانه وأجهزته.
لكن استمرار الأزمة أكثر مما كان متوقعًا لها، وبدء ظهور النتائج المؤلمة للعقوبات، وتفاقم الصعوبات أمام النظام بسبب عدم قدرته على الحسم، واحتدام الصراع الدولي للتضييق عليه، جعلت النظام يعيد النظر في أولوية الاستقرار وفي شروط قبوله صيغة “النأي بالنفس”؛ فمن جهة زاد مطالبه من الحكومة والأجهزة والجيش لمكافحة تهريب الأسلحة ومطاردة المعارضين واعتقالهم وتسليمهم والتضييق على النازحين، ولاحقًا صار الرعايا العرب ولاسيما الخليجيين مستهدفين للخطف والاستجواب ما أدّى إلى تخريب الموسم السياحي الذي تعوّل عليه شريحة كبيرة من اللبنانيين. ومن جهة أخرى دفعه توسع رقعة القتال في الداخل وازدياد الانشقاقات العسكرية والسياسية وارتسام احتمالات الانهيار وتراجع حظوظ الحل السياسي، إلى تفعيل سيناريوهات تصدير الأزمة، وحتى التفكير في ما بعد هذه السيناريوهات إذا لم تفلح، ولن تفلح، في تبديدها.
لاشك أن الخط الأسهل، المفتوح والمتاح، لتصدير الأزمة يبدأ من لبنان، لكنه يصطدم بالضرورة بواقع أن البلد ليس دولة معادية، وبواقع أنه إذا أراد التأزيم باللعب على التناقضات الطائفية فإنه يمكن أن يثير فتنة سنية-شيعية، فيربك بالتالي حليفًا مثل “حزب الله” لا يزال يعيش التداعيات السلبية لـ “غزوة بيروت” في السابع من مايو/أيار 2008. لذلك بدت طرابلس بؤرةً مناسبة، إذ تعيش فيها أقلية علوية موالية للنظام إلى جانب غالبية سنّية متفاعلة مع الغالبية السنية السورية الثائرة على النظام، ثم إن موقعها الجغرافي القريب من سوريا قد يتيح للنظام التدخل عسكريًا لسحق السنّة ولو بذريعة حماية العلويين. بالطبع ثمة بؤر أخرى يمكن للنظام أن يشعلها، خصوصًا أن لديه أدوات محلية، إلا أنها لا توفّر مواصفات طرابلس إما لأن السنّة فيها ليسوا مسلحين في وضعية قتالية أو لأن القتال فيها لابد أن ينقلب فتنة سنّية-شيعية لا يريدها “حزب الله” حتى لو أرادها النظام السوري.
لا يعني ذلك تناقضًا بين الحليفين السوري والإيراني بل خلافًا في التكتيك؛ فإيران و”حزب الله” ملتزمان بدعم النظام السوري بكل الوسائل والأساليب، وفي المقابل لا يريان أن إنقاذه ممكن حتى بإشعال فتنة سنّية-شيعية في لبنان، أو بالأحرى لا يريان أنها ضرورية -الآن على الأقل- إذ إنها ستفتح نوافذ لتدخلات خارجية، وربما تشكّل خلفية تستغلها إسرائيل لشن حرب على “حزب الله” مستفيدة من انشغاله باضطراب الداخل اللبناني. ومعروف أن الموقف الإسرائيلي محسوم، فالسؤال عند تل أبيب ليس “هل” تشن حربًا كهذه؟ وإنما “متى” تشنّها؟
لكن ما يؤرّق “حزب الله” يتعلق بما يترتّب عليه حين يبدأ الانهيار الفعلي للنظام السوري، والسؤال المطروح: ما العمل داخل لبنان؟ ما العمل مع “فلول” النظام؟
يصعب القول بأن لدى الحزب خططًا نهائية جاهزة للتنفيذ، إلا أن المتداول أنه قد يعمد إلى انتشار أمني، وأنه ربما يقدم على ما يشبه انقلابًا سياسيًا-أمنيًا لاستباق أي ردود فعل تطرح نزع سلاحه، وأنه سيستعين بـ “الفلول” اللبنانية لفرض سيطرته. لكن كل الخطط المتصوّرة لا تستطيع أن تصمد أكثر من ساعات أو أيام، ولكي يكون لها مغزى لابد من ارتباطها بمشروع أكبر.
سيناريو الدويلة
هنا يثار السيناريو الذي برز بعض معالمه من خلال خطوط التماس القتالية وخريطة الأرض المحروقة التي رسمها ويرسمها النظام السوري بغارات التدمير المنهجي والمجازر المبرمجة لاقتلاع السكان وتهجيرهم من مناطق معيّنة. فالهدف كما تمكن قراءته على الخريطة هو رسم حدود “الدويلة العلوية” لتبدأ من دمشق وتمتد إلى حمص فمنطقة الساحل الغربي حيث تتركّز الأقلية العلوية وبعض الأقليات المسيحية.
ما علاقة ذلك بلبنان؟
إذا أُتيح للنظام أن يفرض مساومة دولية لإقامة هذه الدويلة، وفقًا للخريطة التي يتخيّلها، بمساندة روسية-إيرانية، فإن المدى الحيوي البرّي لها سيكون لبنان، خصوصًا في المناطق الشرقية الشمالية كحدود لابد تكون آمنة وموثوقًا بمن يسيطر عليها أي بالشيعة و”حزب الله”، وكذلك مناطق الشمال الأقرب إلى الدويلة المتخيّلة.
قد يبدو هذا السيناريو غير واقعي، لكن أحد أكثر الأسئلة التي تتردد في اللقاءات الدولية، هو: كيف يمكن حماية العلويين وسائر الأقليات بعد سقوط النظام أو إسقاطه. والأكيد أن النظام ينتظر أي مساومة كي يطرح هذه الورقة، فإذا نجحت فإن سيطرة “حزب الله” على لبنان ستكون شرطًا لازمًا وضروريًا، ولا يُعرف عندئذ إذا كان سيستمر عنصر تهديد لإسرائيل.
عبد الوهاب بدرخان – كاتب ومحلل سياسي