تصفية تركة الرجل المريض/ محمد صبرا
أسفرت الحرب العالمية الأولى عن هزيمة دول المحور، وكانت من أهم نتائجها تقاسم تركة رجل أوروبا المريض (الامبراطورية العثمانية، كما كانت تسمى حينذاك). أجبرت الدولة العثمانية على القبول بمعاهدة سيفر عام 1920، والتي كانت تلزم تركيا بالتخلي عن جزء من الأراضي التي تعتبرها ضمن حدود التراب الوطني.
وقد شكلت هذه المعاهدة المذلة للأتراك سبباً رئيساً لاستفزاز الشعور القومي الذي استفاد منه كمال أتاتورك، في استنهاض الأمة التركية، وبداية نضال الحركة القومية التركية ضد التدخل الأجنبي والسلطة العثمانية في آن واحد.
وكان نجاح أتاتورك في استرداد إقليم إزمير في 1922 أساساً لإعلان جمهورية الأمة التركية، وإلغاء الخلافة الإسلامية، بشكل نهائي، الأمر الذي مكّنه من رفض تطبيق كل بنود معاهدة سيفر، والحد من خسائر تركيا، عبر معاهدة لوزان لعام 1923 التي أعادت أجزاء من الأراضي التي كان الأتراك يطالبون بها، لكن الأمة التركية الناهضة على بقايا امبراطورية كبيرة واجهت تحديات في تحديد الجغرافيا الوطنية، وما زالت، سواء في جهة الشمال (أرمينية) أو الغرب (اليونان) أو الجنوب الشرقي (كردستان).
وعلى الرغم من هذه التحديات، استطاعت الدولة التركية القومية، في السنوات التي تلت إعلان الجمهورية، تثبيت موقعها، وإبقاء الصراع مع دول الجوار في حدوده المعقولة التي تخللتها لحظاتٌ، كادت أن تؤدي إلى انفجارات كبرى.
وقد شكل مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا فرصة للتحول من الدولة القومية إلى دولة الأمة، بمفهومها الحديث القائم على المواطنة، ما تجلى ببداية التفاهم مع الأقليات القومية في تركيا، ولاسيما الكرد وبداية التصالح مع التاريخ الامبراطوري العثماني.
لقد استفاد حزب العدالة والتنمية من الانفراج الذي أشاعه في الداخل التركي، سواء بالاعتراف ببعض حقوق الكرد اللغوية، أو بداية إعادة النظر بما حدث في الصراع مع الأرمن، بإعادة توصيف لدور تركيا في الإقليم لاعباً رئيسياً وراسماً للسياسات، ما أدى إلى خروج النفوذ التركي من حدود الكيان إلى فضاء الولايات العثمانية السابقة، والتي شكل الربيع العربي وبروز الإسلام السياسي المتفاهم مع حكومة العدالة والتنمية نقطة انطلاق مغرية لسياسيي حزب العدالة والتنمية، داعبت أحلامهم بالعودة لقيادة العالم الإسلامي بكامله.
واصطدم هذا الحلم بالاشتباك على النفوذ مع إيران، الدولة الطامحة، أيضاً، للعب الدور نفسه، واصطدم، أيضاً، بالخوف السعودي على مكانة الرياض في قيادة العالم الإسلامي (بنسخته السنية معادلاً للنفوذ الإيراني)، واصطدم كذلك بعدم موافقة الغرب على العمل الجاد لإسقاط نظام بشار الأسد الذي راهنت السياسة التركية على إسقاطه، بحيث حشرت نفسها في زاوية الخيار الاستراتيجي الأحادي.
لقد شكل تراجع حركة الإسلام السياسي في دول الربيع العربي، ولا سيما ما يحدث في مصر، وجزئياً في ليبيا، بداية الانحسار للنفوذ التركي في الإقليم، ولم يبق لتركيا سوى محاولة التأثير، بشكل أساسي، على ما يحدث في سورية.
وقد كانت الثورة السورية، منذ بداياتها، التحدي الأكبر للسياسة التركية، بسبب جملة من العوامل المتداخلة التي يمتزج فيها التاريخي مع البشري والسياسي والاقتصادي، ويختلط فيها، إلى حد كبير، الاستراتيجي مع التكتيكي اليومي.
لقد تداخل مصير الدولة التركية واستقرارها والحفاظ على مستوى نموها المطرد مع ما يحدث على حدودها الجنوبية. لقد دخلت السياسة التركية مأزقاً حقيقياً في مواجهة التحديات المحيطة عبر صراع مباشر مع النفوذين، الإيراني والسعودي، ومن زاويتين مختلفتين، إحداهما مؤيدة لنظام بشار(إيران) والأخرى معادية له (السعودية)، لكنها تريد إسقاطه، وفقاً لما يحقق مصالحها. وقد تحولت الثورة السورية من حركة شعبٍ ينشد الحرية ضد نظام مستبد إلى صراعٍ على إعادة التموضع الإقليمي للقوى الإقليمية الكبرى، وسيحدد هذا الصراع مستقبل الدول الثلاث (إيران وتركيا والسعودية).
ولعل ظهور تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) وتمدده يشكل جزءاً من هذا الصراع الذي أخذ حده الأعظم، ولا بد من بداية حسم له، بإعادة توصيف حجم كل من هذه الدول ودورها في الإقليم، والذي يبدو، منذ الآن، أن الأمور لا تسير فيه باتجاه المصالح التركية أو السعودية، بل، على العكس، تتجه كل الدلائل إلى حسم هذا الصراع لمصلحة اللاعب الإقليمي الثالث (إيران)، بالسماح لها بالتمدد في اليمن، وتثبيت نفوذها في العراق، ما يعني تطويق المملكة السعودية من الجنوب والشمال.
وسيجد المتابع لحركة السياسة الأميركية، بشكل هادئ ومتأنٍ، أن سياستها تتناقض مع مصالح حليفين استراتيجيين لها، هما السعودية وتركيا، وتتوافق مع مصالح عدو استراتيجي، كما يصفه الإعلام هو إيران، وربما كان التناقض السعودي التركي وعدم قدرة الدولتين على صياغة تفاهم استراتيجي بينهما عاملاً مهماً، سمح للولايات المتحدة بتجاوز مصالحهما معاً، وتهديد مكانتهما في الإقليم. وقد تركت داعش تنمو من فصيل صغير يمكن سحقه في المهد إلى تنظيمٍ، تم تضخيم قوته إلى أن قام بهز الثوابت الإقليمية التي ورثناها عن الحرب العالمية الأولى، وذلك بإلغاء خط الحدود الدولية بين العراق وسورية، وفتحت جغرافية الدولتين على مصراعيهما، ما يسمح باحتمالات كثيرة، لإعادة رسم خريطة الإقليم كاملةً.
لكن، حسم القلق التاريخي في الإقليم لا يكون إلا بحسم القضية الكردية، وإيجاد الحلول لها. من هنا، كان الضغط الكبير على تركيا للدخول بقوات برية لمنع تقدم داعش في عين العرب (كوباني)، الأمر الذي يعني انخراط تركيا، بشكل مباشر، في حرب لا تعرف مآلاتها، حتى الآن، بسبب غموض السياسة الأميركية وتناقضها.
وسيفتح الدخول التركي، أيضاً، خريطة تركيا على احتمالات إعادة النظر، بسبب العامل الكردي المهم في الوضع الداخلي التركي، ما سيعيدنا، بالضرورة، إلى معاهدة سيفر، والبنود التي رفضت القومية التركية تطبيقها من هذه المعاهدة.
وقد أدركت الدبلوماسية التركية، منذ البداية، أن السياسة الأميركية تريد جرها إلى المنزلق الخطر، ومطالبة تركيا بضمانات تتعلق بإنشاء منطقة عازلة وضمان إسقاط نظام بشار الأسد ووجود غطاء قانوني دولي، يسمح لتركيا بالانخراط بحرب برية. وذلك كله لتجنب تداعيات التدخل التركي على الوضع الداخلي، ولا سيما المتعلق بالشأن الكردي.
ويشكل رفض الولايات المتحدة، وبشكل غير مفهوم، المنطقة العازلة، ورفض تقديم أي ضمانة حقيقية بحسم مصير نظام الأسد، نقطة الغموض الكبرى التي تخشاها تركيا، فهل ستكون نتائج حرب التحالف الدولي على الإرهاب تصفية الذيول المتبقية لقسمة تركة (الرجل المريض) التي تمت في أعقاب الحرب العالمية الأولى؟ هذا السؤال ستجيب عليه التطورات، في الأسابيع المقبلة، مع ملاحظة أن السوريين هم الخاسر الأكبر مما يحدث، الآن، وهم الغائبون كلياً عن هذا المشهد، ومن ورائهم ستكون الخسارة الاستراتيجية الثانية للسعودية خلال عقدين.
العربي الجديد