صفحات سوريةياسين الحاج صالح

تطور لا متكافئ للأوضاع السورية/ ياسين الحاج صالح

 

الوجه الآخر لتمزق سوريا إلى جزر يتعذرالتحرك والتواصل بينها هو انفتاح بعض هذه الجزر على دول مجاورة على نحو غير مألوف في علاقات الدول.

مئات الحواجز التي ينصبها النظام في شوارع دمشق اليوم هي تفعيل لبرنامج مستبطن سبق أن مورس في حلب وحماه وغيرهما من المدن، وبين المدن، أثناء صراع مطلع الثمانينات: برنامج تقطيع الأوصال ومراقبة التحركات البشرية والتحكم بها، وهو مقتبس من إسرائيل على الأرجح. هذا البرنامج مطبق اليوم على نطاق واسع في البلد ككل. التواصل متعذر بين مناطق درعا الخارجة عن سيطرة النظام والغوطة الشرقية قرب دمشق، وبين هذه وبين مناطق في القلمون كانت ولا يزال بعضها خارج سيطرة النظام. والتحرك بين الأخيرة وبين مناطق مماثلة شرق حمص وحماه بالغ الصعوبة بالقدر نفسه. في مناطق الشمال الأمر أقل عسرا، لكن كان لداعش تأثير حاجز مماثل لتأثير سياسة تقطيع الأوصال الأسدية، الإسرائيلية قبله، والاستعمارية عموما. وهذ سياسة تصدر عن افتراض أساسي: إن المجتمع المحكوم هو مجتمع أعداء، ينبغي العمل على تفريقهم بكل السبل.

وبفعل العزل الفعال لا نستطيع قول شيء مفيد عن الأوضاع في درعا استنادا إلى أوضاع الغوطة الشرقية، أو عن أوضاع ‘حلب الشرقية’ استنادا إلى أوضاع حمص المحاصرة، أوعن أحوال دير الزور بناء على ما نعرفه من أحوال الرقة تحت سلطة داعش، أو عن المناطق الذي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني بالمقارنة مع أوضاع مناطق حماه مثلا.

هناك تطور غير متكافئ على المستوى الجغرافي، يشكل استمرارا مغايرا لنزعة تجزؤ محلي أقدم، ثبّتتها الدولة البعثية تحت غطاء من المركزية الشديدة التي تربط كل منطقة عموديا مع المركز، هذا فوق ما رعته في العهد الأسدي من جفاء بين الجماعات الدينية والمذهبية والإثنية.

في الوقت نفسه هناك رواق ممهد طويل، مفتوح بين إيران ولبنان مروا بالعراق وسوريا، ما يعني امحاء قسم من الحدود الشرقية للبلد وقسم من حدوده الغربية، بينما ترتفع أسوار حدودية عالية داخل سوريا.

ايضا تنمحي أكثر الحدود الشمالية لصالح مجموعات عسكرية غير موحدة، يفترض أنها محاربة للنظام.

لكن شرط التطور غير المتكافئ أكثر حضورا بعد على المستوى البنيوي. هنا ثمة حركية للمستوى السياسي من طرف مقاومة النظام لا علاقة لها بحركية المستوى العسكري، مع انقسام في مكونات كل من المستويين. هذا يعرفه الجميع، وبسببه لا ينال ‘ائتلاف قوى الثورة والمعارضة في سوريا’ دعما دوليا كان يتوقعه، وتفضل قوى إقلمية ودولية التواصل من وراء ظهره مع مجموعات مسلحة على الأرض. هناك أيضا انقطاع بنيوي بين المستويين العسكري والسياسي من جهة والمستوى الاقتصادي من جهة ثانية، فلا تسيطر المجموعات المسلحة ولا التشكيلات السياسية السورية على مواردها، ولا هي في موقع قوة كاف بحيث تُحيِّد مفعول تلقّيها الدعم الخارجي، أو تحُدّ منه. ولا يتفلت المستوى الديني من إطار التقييد الرسمي السابق فقط، بل هو يتفجر اليوم في اتجاهات مختلفة، يجمع بينها ميل إلى التشدد يبلغ حد الشر المحض، لكن تسير معه مقاومات للتدين، لا يبعد أن تشكل موجة خروج من الدين في وقت غير بعيد.

هذا فوق ما يبدو من أن الاعتقادات الموروثة المختلفة تبدو المواطن الذي تقرّ فيها العداوات الأعمق، وتستمد منها التسويغات الأكثر جذرية للحرب.

وتسير وقائع الشتات السوري في مدارات خاصة بدورها، مشكلة عالما بأكمله من الوقائع القصوى التي لا يتحكم بها أحد.

وغير شرط اللاتكافؤ العام هذا، هناك بلقنة زمانية تضاف إلى البلقنة الجغرافية والبنيوية. هناك اليوم تقطع كبير في أزمنة من يعيشون في الشتات أو المهجرين من منازلهم ولو في داخل البلد، وطبعا المعتقلين جميعا، والمجموع ربما يتجاوز 10 ملايين، أكثر من 40′ من السوريين. وليس بالأمر التلقائي أن يزامن اللاجئون أزمنة بلدان الاستقبال، تحول دون ذلك حواجز قانونية ولغوية واقتصادية متنوعة، وهم في الوقت نفسه ينفلتون من زمنية ‘وطنية’، تحولت إلى حطام على كل حال. ومع تفلت الواقع من التحكم العام والخاص، لم يعد أكثر المقيمين في البلد قادرين على توقع الغد والتخطيط لحياتهم واستباق ما قد يحدث غدا. هذا الانقطاع بين الواقع والمتوقع مصدر للعناء والمشقة، يدفع من يستطيعون سبيلا إلى الخروج من البلد، نحو واقع قد يمكن تقدير تحولاته والتحسّب لها. ثم إنه بينما يحارب النظام لترميم الحاضر المؤبد الذي كان يسد دروب المستقبل أمام السوريين، تعرض مجموعات إسلامية إرادة استيراد ماض ميت وفرضه بالقوة على حاضر الأحياء الذين تتحكم بهم. ومقابل الأبديين والماضويين، هناك مشهد مشتت لتطعات التحول والسير نحو المستقبل.

هذا فوق تباعد سيكولوجي متعدد التسويات بدوره بين سوريين مختلفين، لا يرتد إلى البعد الطائفي وحده. على مستوى الطيف السياسي النشط من الخصومات والعداوات ما يصمد للمقارنة مع الضغائن الأهلية، ومثل ذلك على مستوى الثقافة أيضا.

وفوق ذلك كله، فإن الديناميات المسببة لهذا التطور اللامتكافئ متعدد المستويات، جغرافيا وبنيويا وزمنيا وسيكولوجيا، مستمرة في التأثير، وما يلوح أمامنا هو المزيد من التفلت والتباعد واللاتكافؤ. هذه حال من الهيولى وانعدام الشكل لا يذكر بغير حال سوريا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وهي تخرج من أحشاء الامبراطورية العثمانية.

وما يطرحه هذا الشرط على السوريين لا يقل عن إعادة اختراع بلدهم، وأنفسهم. لكن ما من بداية ممكنة لاختراع سوريا الجديدة دون التخلص من شكلها القديم ‘سورية الأسد’. الجماعة قالوا صراحة: الأسد أو لا أحد! أي هذا الشكل المميت أو لا شكل على الإطلاق. وقد أظهروا عزما ثابتا على تطبيق هذا البرنامج العدمي.

‘سوريا الأسد’ لا يمكن أن تكون سوريا السوريين أكثر مما يمكن للجمهورية أن تكون مملكة وراثية، وللابن الوارث أن يكون ‘الرئيس المنتخب’، وللنظام الواحد أن يكون بدستورين اثنين، وللعنزة أن تطير، وللدائرة أن تتربع. المسألة منطقية، وليس هناك ‘حلول سياسية’ لما هو ممتنع منطقيا.

بالتخلص من الشكل الأسدي، نتخلص من المضخة الأقوى للتطور غير المتكافئ وانعدام الشكل. وهوما يفتح الباب لتعطيل مضخات الخراب الأخرى.

‘كاتب سوري

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى