تظاهـرة دمشـق
ساطع نور الدين
لم تكن تظاهرتهم حاشدة، لكن هتافهم كان مدوياً، ومكان تجمعهم كان مؤثراً: في قلب دمشق، خرجوا الى الشارع للإعلان عن انتمائهم الى انتفاضة شعبية تتعرض لقمع قاس وظلم فادح. مثقفون ومثقفات، فنانون وفنانات، يمثلون وجهاً سورياً مشرقاً يكاد يغيب خلف معظم وجوه النظام الكالحة وبعض وجوه المعارضة المكفهرة، ويوفرون لسوريا فرصة تغيير جدي لا تعوض.
كانت تظاهرتهم بالأمس في حي الميدان في دمشق نقطة تحول في الانتفاضة الشعبية، وكان ضربهم واعتقالهم من قبل أجهزة الأمن علامة فارقة في سلوك النظام. وبعدما كان الصراع داخل الوسط الفني والثقافي السوري يدور في الخفاء وتستخدم فيه أبشع الأساليب، ها هو يحسم او يتجه نحو الحسم بطريقة مثيرة: منذ اليوم الأول لاندلاع الانتفاضة السورية في ١٥ آذار الماضي، تلقت وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت سيلاً من البيانات ولوائح العار المتبادلة بين المثقفين والفنانين الذين انقسموا مناصفة تقريباً، بعكس الانشقاق الثقافي والفني الذي شهدته مصر او تونس في عز ثورتهما، حيث كانت الغالبية قد اختارت الابتعاد عن النظام والالتحاق بصفوف الثوار، بل وحتى المزايدة عليهم. وبدا ان صوت مؤيدي النظام، او على الأقل المؤمنين برغبته وقدرته على التغيير، أقوى وأبعد أثرا في سوريا.
الخروج الى الشارع امس ينهي هذا الالتباس الثقافي والفني الذي زاد غموضاً جراء انضمام عدد من المثقفين والفنانين الى مهزلة اللقاء التشاوري الأخير في «الصحارى»، حيث قيل كلام في حزب البعث، وعودته المظفرة والوشيكة الى العراق، لا يقبله اي عقل، وحيث جرى نقاش يسيء الى قيم سوريا الثقافية والفنية قبل السياسية، وصدر بيان ختامي يمثل إهانة لكل من حضر واستفزازاً لكل من غاب. وكانت لبعض المثقفين والمثقفات مداخلات في ذلك اللقاء عن النظام وإصلاحه لا تستند الى اي ثقافة ولا تستقيم مع اي منطق.
تظاهرة حي الميدان لم تكن مجرد رد على ذلك اللقاء، هي اقرب ما تكون الى خطوة جريئة برفع التحدي مع النظام الى مستوى عال جداً. كان المتظاهرون يدركون سلفاً انهم سيتعرضون للضرب والإهانة والتوقيف، لكنهم اصروا على تقديم أنفسهم شهوداً لمن يرفض من زملائهم وزميلاتهم الاقتناع بأن الأزمة لم تعد تحل بالذهاب الى تشاور او حوار مع حكم مغلق لا يملك من خيار سوى الأمن، ولا يعرف عن الشارع المعارض سوى ان فيه إسلاميين متشددين او متآمرين أتوا من الخارج فقط لتعطيل مسيرة الاصلاح.
اما اختيارهم قلب دمشق بالذات، للتعبير عن احتجاجهم، فهو بحد ذاته الحدث الاستثنائي في سياق انتفاضة شعب يدفع الثمن مضاعفاً، مرة عندما يتعرض للبطش من اجهزة الأمن، ومرة عندما يتعرض للطعن في الظهر من رموز إسلامية مشينة، تزعم انها تقود التغيير في سوريا وتصادر الجيل الشاب الذي يقدم كل يوم نموذجاً خاصاً يمكن ان يتخطى النماذج المدنية والليبرالية التي قدمتها تونس ومصر، ويبدد مزاعم النظام عن ان بديله هو حكم إسلامي أو حرب اهلية.
السفير