صفحات الناسعمر قدور

“تعفيش” سوريا/ عمر قدور

في بداية الثورة السورية، وعندما بدأت مخابرات النظام بمداهمة البيوت في الأحياء الثائرة، اشتُهرت طرفة عن عنصر في المخابرات في أثناء اعتقال أحد الناشطين، فالعنصر نظر إلى أثاث البيت وقال: “عندكن مايكروويف وبدكن حرية؟!”. الطرفة اشتُهرت لعدم وجود رابط بين المايكروويف والحرية سوى في ذهن العنصر الذي أبدى استنكاره، والذي يبدو لسبب ما يعلّق على فرن المايكروويف أهمية خاصة من بين قطع الأثاث الباقية، ويعتبره ترفاً كبيراً لا يليق معه أن يفكر المرء بترف آخر كأن ينتفض على النظام الذي سمح له بالترف الأول! البعض، ربما بحسن نية، استدل آنذاك من التساؤل”الطرفة” عن مدى سذاجة عنصر المخابرات وتعتيره اللذين دفعاه لإيلاء كل تلك الأهمية للمايكروويف. الطرفة التي تنتشر الآن في سوريا، أن امرأة من حي النزهة الحمصي الموالي تخشى على ابنها المجند في قوات النظام، وتوصيه إذا شارك في اقتحام المناطق التي يسيطر عليها “المسلحون” أن يختبئ في خزانة أول بيت يدخلونه. وهكذا عندما ينتهي زملاؤه من الاقتحام ويقومون بتعفيش البيوت، كما تقول الطرفة، فإنهم سيعيدونه مع الأثاث المسروق إلى النزهة سالماً.

التعفيش، كما بات واضحاً، هو سلب البيوت من محتوياتها كافة بغية بيعها في أسواق الأحياء الموالية فيما عُرف أولاً بظاهرة “أسواق السنّة” في أحياء حمص الموالية، ثم توارت التسمية قليلاً عن التداول بعد شيوع التعفيش في كافة المناطق التي تشهد اقتحامات لقوات النظام أو شبيحته. ظاهرة التعفيش ليست جديدة تماماً، فالسوريون منذ أكثر من ثلاثة عقود تداولوا نكات كثيرة عن أعمال تعفيش قام بها “الجنود البواسل” في أثناء مهمتهم “القومية” في الدفاع عن لبنان، بما فيها الطرائف التي تُروى عن دهشة بعضهم إزاء “الترف” الذي رأوه في البيوت والذي لم يكن متاحاً للسوريين حينها بحكم إغلاق الحدود أمام الكماليات، تماماً كدهشة ذلك العنصر أمام وجود المايكروويف في بيتٍ في داريّا.

على الصعيد المحلي أيضاً، قد يُفاجأ البعض إن عَلِم مثلاً أن مثقفاً سورياً يعيش في بيت هو في الأصل مملوك لمثقف سوري آخر، بعد أن استولى عليه النظام من مالكه الأول وقام بتأجيره للثاني. فمنذ ثمانينات القرن الماضي حجز النظام على أملاكٍ عائدة لمعارضين سوريين، جلّهم بتهمة الانتماء إلى الإخوان المسلمين، بعض البيوت المستولى عليها راحت لقادة أمنيين وبعضها الآخر تم تأجيره بأسعار بخسة جداً لأشخاص مقرّبين من النظام؛ أصحاب هذه البيوت إما قُتلوا ولا يتجرأ ورثتهم على المطالبة بها، أو أنهم منفيون وربما يحلمون بالعودة يوماً إلى بيوتهم التي يتنعم بها غرباء لا يعرفونهم، ولا يعرفون أن المفاتيح التي يحتفظون بها لم يعد لها سوى قيمة رمزية بعد انتهاك الغرباء لأماكن حنينهم. الجدير بالذكر أن النظام عمد أيضاً منذ أكثر من سنة إلى رفع قضايا ضد معارضين سوريين متهماً إياهم بالإرهاب، وصدرت قرارات “قضائية” بالحجز على أملاكهم ومصادرتها.

قبل أكثر من سنة من الآن كان بوسع من يريد شراء شاشة تلفزيونية مستعملة بسعر يعادل 50 دولاراً في الوقت الذي تبلغ فيه قيمة الجديدة منها حوالي 400 دولار، وكان وارداً جداً أن يحصل على هدية “متواضعة” مع الشاشة المستعملة من نوع “آيباد” مثلاً! البواسل الذين يعفشون البيوت لم يكونوا قد اكتسبوا الخبرة ليعرفوا ما هو الآيباد، وليعرفوا أن سعر هذا الجهاز الصغير يفوق سعر الشاشة الكبيرة، ثم إن الحجم الكبير للسلع المنهوبة والتعطش لبيعها كان يدفع السارق إلى عرض أسعار مغرية جداً، فأحدهم على سبيل المثال عرض للبيع 17 طابعة كومبيوتر بسعر يعادل المائة دولار فقط، وللأمانة لم يغفل مصدر السرقة الذي كان مدينة حمص. بالطبع عندما يجري الحديث عن عدد كبير من الطابعات فهذا يعني أن السطو راح يطاول المستودعات الصناعية والتجارية لا البيوت فقط، وعلى نطاق أضخم ثمة معامل تم الاستيلاء على معداتها وتفكيكها بالكامل ثم بيعها داخل سوريا أو خارجها؛ ثمة “اقتصاد” نشأ على ظاهرة التعفيش وهو الذي يساهم بتمويل استمرار الحرب التي يخوضها النظام.

في الواقع أصبح التعفيش جزءاً أساسياً من المكاسب التي يسعى إليها شبيحة النظام من وراء كل معركة يخوضونها ضد المناطق الثائرة، فالنظام لا يدفع لهم رواتب مجزية مقابل المخاطر التي يلاقونها، ويترك لهم في المقابل حرية نهب ما يصادفونه من ممتلكات بعد إنجاز الاقتحام، أي أن التعفيش لم يعد سلوكاً فردياً يتعلق بالسوية الأخلاقية لأحد منهم؛ السوية الأخلاقية غير المنتظرة أصلاً من قتلة. هناك صفقة باتت واضحة جداً منذ البداية تنص على أن يأخذ رؤوس النظام المكاسب الأمنية والاقتصادية الكبرى، وأن يتركوا لأولئك الشبيحة الصغار استباحة المناطق المنكوبة جزاءً على تفانيهم في المعارك. هكذا لم تعد السرقة فعلاً شائناً تجري مداراته، بل باتت تجارة الأثاث المستعمل هي الأكثر رواجاً في المناطق الآمنة، وانتشرت بضاعتها وأماكن بيعها على نحو مكشوف وغير مسبوق، بخاصة بعد أن تراجع تصنيع أو استيراد الكثير من السلع إما لنهب المصانع وسرقتها أو لأن التجار أحجموا عن الاستيراد بعد تعرض مستودعاتهم للنهب، وبعد أن أصبح مرور بضاعتهم من الحواجز الأمنية يكلفهم الكثير.

نظرياً، ينعم أولئك المكلّفون بالحواجز الأمنية بأمن أفضل من زملائهم المكلفين بالاقتحامات، حيث يقتصر عملهم على التدقيق الممل في الوثائق الشخصية والسلع العابرة، ومقابل هذا الأمان لا يحصلون على المكاسب التي يحظى بها المقاتلون. بل إن هناك قصصاً يرويها بعض النشطاء برومانسية على صفحات التواصل الاجتماعي عن ذلك المجند الذي سئم التعرض للناس والتدقيق في ثبوتياتهم مع علمه بمدى الإزعاج الذي يتسبب به؛ ربما كان ذلك المجند موجوداً حقاً، وربما كان مستاء فعلاً ويرى أن وجوده هذا أهون شراً من وجوده في المعركة، لكن لزملائه رأي مختلف كما تظهر الوقائع، فمرور شاحنات البضائع بين المدن والأحياء صار يتطلب إفراغها والعبث بمحتوياتها ما يؤدي في كثير من الأحيان إلى تخريبها، الحل الأسهل لمصلحة الأطراف جميعاً هو السماح بمرور الشاحنة بلا تفتيش بعد قبض “عمولة” المرور، أما تغطية العمولة فتأتي على حساب المستهلك الذي يبقى سعيداً بالحصول على السلع بثمن مرتفع فذلك أفضل من انقطاعها، بخاصة السلع الغذائية.

التعفيش و”عمولة” المرور على الحواجز هما عماد ما يقدّمه النظام لشبيحته الصغار، ولولا هذه السرقات لما استمر الكثيرون منهم في الحرب، أو لما انخرطوا فيها أصلاً. ولكي نقارب المسألة في إطارها الاقتصادي تكفي الإشارة إلى أن التقديرات تشير إلى تدمير حوالي أربعة ملايين بيت سوري، وإذا افترضنا أن هذا العدد يطابق عدد البيوت التي جرى تعفيشها، وإذا افترضنا أن الحد الأدنى لقيمة ممتلكات البيوت لا يقل عن ثلاثة آلاف دولار، فإن الحصيلة تكون حوالي 12 بليون دولار من الممتلكات الشخصية المسروقة وحدها، من دون حساب للممتلكات الصناعية والتجارية. الحساب هنا لا يشمل تدمير الممتلكات غير المناسبة للسرقة والبيع بسهولة، فالشبيحة في كثير من الأحيان يعمدون إلى حرق البيوت بعد تعفيشها، أو إلى إطلاق الرصاص على الأشياء الثابتة التي لا يريدون انتزاعها مثل خزانات المياه.

في الواقع لم يكن ذلك العنصر ساذجاً عندما تساءل مستنكراً “عندكن ميكروويف وبدكن حرية؟!”؛ لقد كنا نحن السذّج إذ ظنناها طرفة وتداولناها بوصفها كذلك، أما هو فمن المرجح أنه لا يزال يكرر أسئلة متشابهة على مسمع المعتقلين بقناعة أكبر بعد كل تعفيش، ومن المرجح أنه أيضاً بات يفهم أن الآيباد ليس تلفزيوناً صغيراً تافهاً.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى