صفحات الثقافة

تعليم الكتابة الإبداعية.. اللغة العربية تحرّر لا تقمع/إيمان حميدان

 

 

في عام 2008 بادر «البرنامج العالمي للكتابة» في جامعة أيوا في الولايات المتحدة الأميركية إلى إطلاق «ما بين السطور» وهو برنامج صيفي لتعليم الكتابة الإبداعية باللغة العربية. منذ انطلاقة هذا النشاط شاركت وما أزال في تعليم كتابة الرواية والقصة القصيرة إلى جانب كتابة المقالة. البرنامج العالمي للكتابة الذي بدأ نشاطه منذ بداية الستينيات من القرن الماضي خرّج عدداً كبيراً من الأدباء الأميركيين الذين حصلوا خلال حياتهم الإبداعية على الكثير من الجوائز الأدبية، واستقبل أدباء عالميين ضمن نشاط «كاتب مقيم» أصبحوا فيما بعد من حائزي جائزة نوبل.

بدأت برامج تعليم الكتابة الإبداعية في الولايات المتحدة الأميركية منذ أكثر من نصف قرن وقد يكون «البرنامج العالمي للكتابة» في جامعة أيوا من أقدم تلك البرامج. ولم يصل تعليم الكتابة الإبداعية إلى أوروبا إلا في السنوات الأخيرة. قبل وأثناء ذلك قام جدل كبير في الجامعات والمؤسسات التعليمية الأوروبية حول إمكانية «تعليم» الكتابة الإبداعية وفيما إذا هذا النوع من التعليم يساعد فعلا في صقل المواهب الإبداعية. تأخرت أوروبا في اللحاق بركاب عولمة التعليم هذا، وكانت الإذاعات الأوروبية عام 2005 ما زالت تناقش الموضوع بين أخذ ورد، إلى جانب الجمعيات والنوادي الثقافية. العالم العربي اللاهي بأموره السياسية لم يدخل كثيراً في جدال مشابه، ثم اخذ الأمر وقتاً قبل ان نسمع ببدء صفوف الكتابة الإبداعية في الجامعات الخاصة في البلدان العربية. بدأت المبادرات أولا في العالم العربي بجهود شخصية أولا من دون إطار أكاديمي يذكر وقد تأطر بعض تلك المبادرات ضمن أقسام الآداب في الجامعات الخاصة. وبقيت مبادرات شخصية عدة خارج الإطار الأكاديمي أو حتى المدرسي حتى اليوم.

قد يكون أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور اسعد خيرالله هو أول المبادرين مشكوراً إلى تعليم الكتابة الإبداعية بالعربية. وظهرت منذ البداية حاجة ماسة لوجود مراجع بالعربية تتعلق بوسائل تعليم الكتابة الإبداعية وطرائقها. معظم الأدبيات المتعلقة بهذا النوع من التعليم صادرة بالانكليزية مع غياب تام للكتب الأكاديمية المتخصصة بالموضوع والمنشورة أصلا باللغة العربية. وما نجده في الأسواق هو عبارة عن ترجمات مبسّطة عن الانكليزية.

غياب الترجمات

غياب المراجع التعليمية لطرق تدريس وتعليم الكتابة الإبداعية قد يكون عائقاً مشتركاً بين الجامعات في العالم العربي. هذا العائق واجهتُه أنا أيضاً في بداية عهدي بتعليم الكتابة الإبداعية في جامعة ايوا اذ انني رغم تعليمي الآداب باللغة العربية كان علي الاعتماد على مراجع تعليمية أميركية أي صادرة باللغة الانكليزية.

منذ عام 2008 وجدتُ انه من الضروري العمل على سلسلة كتب تناقش مسألة الكتابة الإبداعية يشارك فيها الأدباء عبر نقل تجاربهم الإبداعية للآخرين من الشباب. هكذا وُلد كتاب «كتابة الكتابة ـ نصوص في الإبداع» الذي صدر عن دار الراوي عام 2010 والذي شارك فيه عدد من الأدباء اللبنانيين وأصبح فيما بعد مرجعاً في جامعة أيوا الأميركية لتعليم الكتابة الإبداعية بالعربية. الكتابُ مدخل إلى الكتابة الإبداعية حيث قدم من خلاله كل كاتب كيفية فعل الكتابة لديه، كيف يكتب، كيف يبني نصه. لكن هذا الكتاب التجربة والنموذج ليس كافياً، وما نشر حتى الآن بالعربية كمراجع أكاديمية وغير أكاديمية، وبعد سنوات من تبني المشروع، ضئيل جداً، كذلك عدد الأدباء العرب الذين يعلّمون الكتابة الإبداعية في العالم.

المشكلة التي واجهتُها في تعليم الكتابة الإبداعية في أميركا لم تكن في غياب مراجع تقنيات التدريس باللغة العربية فحسب، ولكن أيضاً في غياب الترجمات للنصوص الأدبية التي أختار، خاصة ابتداءً من عام 2011 وبعد انضمام طلاب أميركيين إلى صفوف الكتابة الإبداعية في إطار «ما بين السطور» . صار علي حينها ان اعلِّم الكتابة الإبداعية باللغتين العربية والانكليزية، إذ أقدِّم في ساعات التدريس الصباحية نصوص الأدب والشعر العربيين مترجمة إلى الانكليزية بينما أكرّس ساعات بعد الظهر لتقديم نصوص وقصائد بلغتها الأصلية أي العربية. لا بد من الذكر هنا ان هذا العام (2014) انضم أيضاً إلى صفوفي في الكتابة الإبداعية طلاب من روسيا! إذا كان علينا ان نجد أيضا ترجمة روسية للنصوص العربية التي أخترت تقديمها إلى الطلاب. لكن رغم هذه الصعوبات وجدت العمل ممتعاً خاصة حين أستمع إلى الآراء المختلفة التي يبديها الطلاب الآتون من بلدان ولغات عدة.

اعتمدت في بادئ الأمر على اختيار نصوص من روايات اعلم مسبقاً انها ترجمت إلى الانكليزية. لكن أحسست بعد وقت بنوع من اللاعدالة إزاء روايات عربية جيدة قرأتها وأحببت تقديمها إلى طلابي، كذلك قصائد جميلة ومؤثرة إلا انها لم تجد طريقها إلى الترجمة بعد. صحيح ان «البرنامج العالمي للكتابة» في الجامعة يرصد جزءاً من ميزانيته لتكاليف ترجمة بعض النصوص من العربية إلى الانكليزية لكن هذا الجهد يبقى متواضعاً ازاء عدد الروايات التي كنت أختارها كمادة تعليمية.

مجلة بانيبال

بدأت بمتابعة مجلة بانيبال منذ صدورها وذلك عام 1997 والتي أصدرت مؤخراً العدد 50. ومعلوم ان بانيبال تصدر باللغة الانكليزية في لندن وتعنى بالأدب العربي وتقوم بترجمة النصوص العربية لأول مرة وتقدمها إلى القارئ والناشر الغربيين. ومنذ بدء ممارستي تعليم الكتابة الإبداعية كانت هذه المجلة مرجعاً لي لترجمات قصائد ونصوص من روايات لم تجد طريقها بعد إلى دور نشر غربية. لعبت المجلة دوراً في ملء فراغ أدبي وثقافي مهمَين. وقد تكون من أولى المجلات العالمية، ان لم تكن الوحيدة التي لعبت هذا الدور ونقلت الأدب العربي إلى العالم الانغلوفوني. وهكذا تسنى لي الاستعانة بعشرات النصوص من الروايات والقصائد العربية لتقديمها إلى طلابي والتي نشرتها بانيبال لأول مرة مترجمة إلى الانكليزية.

مشكلة مهمة واجهتها وأواجهها كل مرة أقوم بتدريس الكتابة الإبداعية في جامعة أيوا ولا تقل أهمية عن غياب المراجع وغياب الترجمات، ألا وهي عزوف الشباب العرب عن الكتابة باللغة العربية واستخدامها كلغة أساسية في التعبير شفهياً أو كتابة عما يفكرون ويشعرون. في جميع الدورات التي علَّمت كانت الساعات الأولى من الدروس هي لإثبات ان في إمكان اللغة العربية ان ترد على حاجات كل طالب من حيث قدرة مفرداتها على التعبير الشخصي الحر. لم يعد اكتشافاً بالنسبة لي وأنا استمع إلى آراء الطلاب في لغتهم الأم، قولهم انهم لا يستطيعون ان يكتبوا بنفس الحرية التي يشعرون بها أثناء الكتابة باللغة الانكليزية. لم يدر في خلد احد منهم ان يتساءل عن السبب الحقيقي، وكان لديهم اعتقاد شائع ان اللغة نفسها قاصر. اخذ الأمر وقتا كي يكتشفوا ان المسؤولية لا تقع على عاتق لغتنا الجميلة والغنية بل على عاتق من علّمهم تلك اللغة إن في المدرسة أو في الجامعة. إذ للأسف قلما نجد في العالم العربي أساتذة أدب عربي يفصلون بين تعليم اللغة وإسقاط القيم الاجتماعية والتابوهات. أما في لبنان فقد يكون الوضع مختلفاً، أضف إليه مسألة تعدد اللغات. ثمة علاقة بين اللغة العربية وبين رقابة لامرئية كنت اشعر بها في الساعات الأولى ومع كل طالب في صفي. كأن اللغة محجوزة في مكان ما في لاوعيهم ولا يستطيعون الوصول اليها بالسهولة نفسها التي يتعاملون بها مع اللغة الانكليزية. وتعليم الكتابة الإبداعية قد يساهم أيضاً وللأسف في تأكيد تلك العلاقة القامعة مع اللغة ان لم يكن الأستاذ الذي يقوم بالتدريس واعياً لتلك المسألة. موضوع علاقة اللغة بالرقابة والقمع شائك ومعقد، ولا شك أنه يستأهل نقاشاً عميقاً.

ما أستطيع قوله هنا إن الكاتب، عربياً كان ام غير عربي، قد يقع أثناء تعليم الكتابة الإبداعية في ارتباك كبير يؤدي به إلى اعتماد طرائق الكتابة الخاصة به وبكتابته كمرجعية في التعليم. الحقيقة ان المهمة الأولى لأستاذ الكتابة الإبداعية عكس ذلك تماماً. الاقتراب من قدرات الطالب وموهبته وفهمها ومحاولة دفعه لإيجاد صوته الخاص، وليس إسقاط نموذج واحد شخصي وخاص يعتقد معه الأديب الأستاذ انه «هكذا يُكتب الأدب». إذ ليس من وصفة جاهزة لكتابة الأدب، أضف إلى ذلك احترام أسلوب وطرائق التعبير عند التلميذ والعمل على تطوير قدراته الخاصة به. هذه أهم الشروط الأساسية لتعليم الكتابة الإبداعية ولولادة أصوات «جديدة» ومبدعة في عالم الأدب. خلافاً لذلك يغدو تعليم الكتابة الإبداعية وللأسف «تفصيل وخياطة» أدب جاهز وأفكار جاهزة إن لم نقل رقابة جديدة بثوب حداثي وعصري. هذا أيضاً ينطبق على تعليم اللغة العربية والأدب عموماً في صفوف التعليم المدرسي في مرحلتيه المتوسطة والثانوية.

(باريس)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى