تعميم الأسدية وتبعاتها/ عمر قدور
بعيداً عن الحماس والإنشاء، لم يعد معنى اليوم للحديث عن سوريا سوى الإشارة إلى حيز جغرافي امتلك هذه التسمية في ما سبق. الحديث عن الوطن السوري، لا الدولة المُجهز عليها أصلاً، لم يعد وارداً مع وقوع ما يزيد عن نصف السكان تحت التهجير القسري، ووقوع نسبة كبيرة متبقية منهم تحت مختلف أنواع الاحتلالات.
التعاطي الخارجي مع سوريا لم يعد تعاطياً مع بلد ما، إنه تعاطٍ مع قطع متفرقة هنا وهناك، مع بؤر نفوذ يتم يتمسك ببعضها، وبؤر أخرى تخضع للمقايضة. العامل الحاسم في هذا هي مصلحة الجهات الخارجية في تقطيع “الكعكة”، وتدوير بعض القطع أحياناً ضمن تغير أولوياتها القوى على الأرض. ثمة جشع غير واقعي من طرف حلفاء النظام لاستعادة السيطرة على البلد كله، تقابله قدرة أطراف أخرى على فرملتهم حيناً، ومواجهتهم أو مفاوضتهم بحسب ما تقتضيه كل لحظة. الجشع لا يعبّر عن استراتيجية باستثناء السيطرة بالقوة، وفي المقابل لا وجود لاستراتيجية متكاملة لدى الأطراف المقابلة، مع الأخذ في الحسبان تبايناتها وصراعاتها هي الأخرى.
نستطيع القول بأن المرحلة المستجدة من الصراع أصبحت مجردة عن الأقنعة الداخلية، فمخططات القوى الخارجية وأماكن نفوذها لم تعد تقتضي توفر الحد الأدنى من التلطي خلف أهداف داخلية، ولم يعد يُسمح إطلاقاً لأي فصيل بالانزياح عن الخطوط التي تضعها له الجهة الممولة والوصيّة عليه. وإذا لم يكن متوقعاً إلا أن تعمل القوى الخارجية لمصالحها فالمستجد هو توافقها على إسقاط عبارات الإنشاء السابقة حول التغيير في سوريا وطبيعته، والانهماك في وضع أسس مرحلة انتقالية لا تُعرف أبعادها ونهاياتها من قبل بعض المنهمكين فيها. حتى الحديث عن التسوية الذي طالما كان تسويفاً تراجع لصالح الحديث بين الفينة والأخرى عن تهدئة بين القوى الخارجية، والتهدئة لم تعد تُطرح اليوم من بوابة منح فرصة للسوريين كي يلتقطوا أنفاسهم بين جولتين من القتال، أو لأسباب إنسانية لم يعد أحد يدّعي الاكتراث بها.
ليست المسألة فحسب فيما تكرر قوله سابقاً عن غياب أو تغييبهم السوريين عن التأثير في مستقبلهم، بل أيضاً في ذلك التوافق الخارجي على الانتهاء من القضية السورية باعتبارها قضية واحدة متماسكة، بصرف النظر عما إذا كانت قضية رابحة أو خاسرة. ولا يخفى أن قوى خارجية وإقليمية غيّرت من نبرتها إزاء تنظيم الأسد، وباتت مستعدة للقبول ببقائه طالما كان ذلك ضمن تقاسم أوسع للنفوذ إقليمياً. ما يُحكى مثلاً اليوم عن أولوية السيطرة على الحدود مع العراق يعني تغلب مواجهة طهران على أي اعتبار محلي آخر، كذلك هو الحال فيما يُحكى عن منطقة على حدود الأردن منزوعة من الميليشيات الشيعية، وقد يصح من قبل على تسليم مدينة حلب للنظام ضمن صفقة تمنع الأكراد من السيطرة على الشمال السوري.
لكن ما نراه اليوم من توجه للقبول بالأسدية لا يقتصر على سوريا، ولن تقتصر آثاره المستقبلية عليها. إذ يجوز القول بأن الأسدية نموذج متكامل، بحاضره وتداعياته المستقبلية، ويجوز لنا بأثر رجعي الاستدلال بالصدّامية كنموذج توأم. العبرة في أن هذا النموذج يهدد مستقبل بلده بالتفتت والدمار، بعد أن ينتهك نسيجها الاجتماعي، ثم يفيض على الجوار ليهدده بمصير مشابه. حربا الخليج على سبيل المثال لم تقتصر آثارهما على العراق، بل أدتا إلى إعادة توزيع النفوذ في المنطقة ككل، وما رافقه من أيضاً من تغيير في موازين القوى في بعض الدول. في لبنان مثلاً دُفعت للوصاية السورية المسنودة إيرانياً فاتورة الانضمام إلى التحالف الدولي ضد صدام آنذاك، وهذا الاستفراد السوري بلبنان أدى إلى ما أدى إليه لاحقاً من هيمنة إيرانية تسعى إلى الهيمنة المطلقة عليه.
أيضاً في سوريا؛ من الخطأ الاعتقاد بأن الصراع الحالي لن يتسبب بهزات عميقة للمنطقة ككل، وتخطئ القوى الإقليمية التي تعتقد أن بقاء الأسدية، بما يعنيه من منع التغيير، سوف يعيد الاستقرار إلى المنطقة. هذا يخص أولاً القوى التي ناصبت النظام العداء، ولو لأسبابها الخاصة، ثم عادت لتقبل النظام علناً أو ضمناً. ومن الضروري التفريق بينها وبين قوى دولية تسلك المسلك ذاته، لأن تلك القوى محصنة داخلياً وبمنأى إلى حد كبير عن غليان المنطقة.
إن نظرة متمهلة متروية قليلاً إلى حال بعض الشركاء في الصراع السوري تكشف عن التغيرات الداخلية في بلدانهم، وهي تغيرات تشي عموماً بتراجع منسوب الديموقراطية أو المشاركة في الحكم، ومن المهم ملاحظة تزامنها مع ميل للقبول بالأسدية في سوريا. هذا التزامن لا يحدث بمحض المصادفة، وإنما يبدو من طبيعة النموذج الأسدي نفسه وعدواه، ومن طبيعة النموذج أيضاً أن ينخر على مدى أبعد في النسيج الاجتماعي الداخلي لتلك الدول وأن يهدد مستقبلها، ومن الوهم الظن بامتلاكها نسيجاً اجتماعياً أمتن مما كان عليه السوري قبل الأسدية، أو الظن بامتلاك قياداتها قدرات ضبط وتحكم تفوق تلك التي كانت لتنظيم الأسد.
إسقاط سوريا بدلاً من إسقاط الأسد سيكون هو النموذج الذي تقدمه قيادات إقليمية لبلدانها وهي تقبل ببقائه، أو ربما بمقاسمته النفوذ على السوريين، وتفتيت سوريا كما يحدث حالياً قد يكون المرآة لأحداث لاحقة في المنطقة تطاول ما يُعتقد أنها بلدان قوية راسخة. هذه الخلاصة ليست من باب المبالغة أو التهويل؛ على العكس من مصلحة السوريين أن يعمل الآخرون على أسباب الاستقرار في بلدانهم بدل تأجيج قوى الغضب والنقمة فيها كما حدث لهم من قبل.
في الأصل يعلم الجميع أن عداء العديد من القوى الإقليمية لتنظيم بشار لم يكن حباً في الديموقراطية، لكنه كان يتجمل بالحد الأدنى من الحمولة الأخلاقية، على نحو ما كان يفعله ادعاء العداء لإسرائيل. الخبر الجيد أن هذه الادعاءات لم تعد تنطلي على الشعوب، والخبر السيء أن ثمن هذه المعرفة سيكون باهظاً جداً.
المدن