تغريباتنا من فلسطين إلى إدلب/ سميرة المسالمة
ضمن رؤيته للواقع العربي المتردّي والمهزوم أمام أنظمته الاستبدادية، وقيمه الوطنية الجمعية، وأمام الضغوط والتدخلات الخارجية، كان من السهل على الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وفريق إدارته، تمرير قراره الكارثي بخصوص القدس التي تعتبر من أكثر القضايا حساسية في العالم الإسلامي.
وعلى الرغم من الضجّة الشعبية التي واجهت قرار ترامب، نقل السفارة الأميركية إلى القدس، وما رافق ذلك من استياءات دولية، شملت دولاً غربية، تدرك حجم الآثار الخطيرة المحيطة بقرار محوري، من شأنه تقويض العملية السياسية الخاصة بالقضية الفلسطينية، ومعها الانتصار المعنوي ـ الدبلوماسي في الجمعية العامة للأمم المتحدة في الجلسة الاستثنائية التي عقدت في 21 يناير/ كانون أول 2017، وقبلها في مجلس الأمن الدولي (على الرغم من الفيتو الأميركي)، على الرغم من ذلك كله، كان ترامب يراهن، في قراره، على عودة الصمت إلى الشارع العربي، المهموم بتردّي أوضاعه الذاتية، وبأنظمته السياسية، وبحالة التصدّع المجتمعي السائدة، إذا كانت هذه المؤثرات محسوبةً لدى صانع القرار الأميركي، سواء بشأن القدس، أو غيره؛ بما يتعلق بالمنطقة العربية، ومنها واقع الصراع في سورية.
على ذلك، ليس مستغرباً أن تجرّنا الأحداث الجارية في فلسطين المحتلة أو في سورية، إلى إحداث مقارناتٍ بين مسعيي حكومتي دمشق وتل أبيب إلى ضرب مصداقية (وجدّية) الوساطات الدولية التي تدعمانهما أساساً، على اختلاف من يمثلها، سواء الجانب الأميركي في التسوية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، أو الجانب الروسي الذي يطرح نفسه وسيطاً في تسويةٍ مشبوهةٍ بين النظام السوري والمعارضة. هكذا فإن قرار ترامب أبعد أي توهماتٍ يعيشها الجانب الفلسطيني في إمكانية الوصول إلى اتفاق سلامٍ يحقق للفلسطينيين دولتهم، وللاجئين عودتهم، وللعرب قدسهم الشرقية على أقل تقدير، مقابل السلام في المنطقة، ومن بينها إسرائيل دولة الاحتلال. وأيضاً في الجانب الآخر، حيث تشن روسيا حرباً شرسة في سورية إلى جانب النظام، بينما تقدّم نفسها للسوريين، موالاة ومعارضة، راعية للتسوية، بينما توزّع نيرانها الموت في أكثر من مكان في إدلب وريف دمشق وحماة.
“التهجير القسري في مقدمة المشكلات الناجمة عن ممارسة أقصى أنواع القوة في وجه الرافضين للاحتلال من جانب، والهيمنة الأمنية والسياسية من جانب آخر”
وإذا كان مؤسفاً المقارنة، اليوم، وفق الأحداث الجارية بين شدة العنف ونتائجه في مكانين، أحدهما تحت حكم الاحتلال، والآخر تحت حكم سلطة “وطنية”، وكلاهما أنتج واقعاً مأساوياً لشعبي البلدين، فإن مسألة التهجير القسري في مقدمة تلك المشكلات الناجمة عن ممارسة أقصى أنواع القوة في وجه الرافضين للاحتلال من جانب، والهيمنة الأمنية والسياسية من جانب آخر. إذ تفيد إحصائيات أسبوع من القصف الوحشي لروسيا المساندة للنظام وإيران في حربهما على إدلب فقط، إلى تهجير ونزوح نحو مائة وخمسين ألفاً من السوريين نساء ورجالاً وأطفالاً، أي نحو ست وعشرين ألف عائلة، في وقت يمكن الحديث فيه عمّا يزيد عن عشرة ملايين سوري نزحوا أو هجروا منذ اندلاع صيحات الحرية في سورية بوجه النظام في العام 2011، نتيجة العنف وتدمير المدن والمناطق وتوسيع دائرة الاعتقالات بين السوريين، وهو ما يوازي ضعف ما قامت إسرائيل (الدولة المحتلة) من تهجير الفلسطينيين، بالنظر إلى النسبة والتناسب، وهذا من دون أن يفهم من ذلك وجود جريمةٍ تغطي على أخرى، أو تقلل من آلامها، فالجريمة مهما كان حجمها تعتبر جريمة.
على ذلك، جاء القرار الأميركي ضمن سياقات طبيعية لرئيسٍ لم يخف جدول أعماله خلال حملته الانتخابية، ومنه موضوع القدس، أي أن لا أحد من المسؤولين العرب، المعنيين بالقضية الفلسطينية، يستطيع ادعاء مفاجأته بقرار ترامب الذي صرّح إنه أجرى اتصالات بشأن ذلك قبيل الإعلان، ناهيك عن أن القرار ليس بدعةً منه، وإنما هو موجود ضمن أدراج الرئاسات الأميركية منذ عام 1993، لكن اللافت، أن هذا الرئيس ذاته، المعادي للعرب والمسلمين واللاجئين عموماً، لم يؤخذ بجريرة تصريحاته على مستوى علاقاته العربية، ما يسهّل له الطريق للمضي في تنفيذ ما تبقى من وعود انتخابية، ليست أصعب من قراره الكارثي بشأن القدس.
ولعل ذلك يستدعي السؤال عن موقف ترامب من قضية الصراع في سورية، وعن تصريحاته في حملاته الانتخابية، وتحديداً ما يتعلق بقضية اللاجئين السوريين، ومنعهم من دخول الولايات المتحدة، ما يستدعي على دولة عظمى، كأميركا، أن تمنح لهؤلاء البديل عن اللجوء، بإنهاء المسببات له في بلادهم، على غرار وعوده التي مضى في تنفيذها للكرد، عندما أعلن أنه من أنصارهم، وأنه سيمضي في شراكته معهم في الحرب على “داعش”، وهي الوعود التي ينظر من خلالها كرد سورية إلى أنها ستفضي إلى جلوسهم إلى طاولة المفاوضات في أي عملية سياسية جادة.
هنا يأتي السؤال لقيادات المعارضة، إذا كانت فهمت الدرس من مضي ترامب بتنفيذ قراراته بما يتعلق بأكثر القضايا حساسية لكل العرب والمسلمين، وهو بهذا القرار يقف في مواجهتهم جميعاً، فما هي فرص أن يتجاوز وعوده، على الرغم من رعونتها في أحيان كثيرة، في ما يتعلق بلا مبالاته بتقسيم سورية إذا كان ذلك مطلباً لشعوبها. وهنا، هل يقصد ترامب كل الشعوب، أم يخص من يشاركهم فقط؟
في المقابل، يأتي السؤال عن الجهة التي تحمي سورية والسوريين من رعونة القرارات، أو حتى من صمت ترامب وإدارته على قرارات موسكو المحابية للنظام؟ وما هي انعكاسات تجاهل المعارضة البحث الجاد والاستباقي بشأن الوصول إلى تفاهماتٍ مع كرد سورية بعيداً عن الأجندات الإقليمية، منعاً لرعونة مفاجآت تم الإعلان عنها سابقاً، كموضوع قرار إعلان
“لعل رهان ترامب على الصمت والعجز العربي، سواء في موضوع القدس، أو في توزيع الأدوار في الصراع على سورية”
القدس عاصمة لإسرائيل، ليس فقط أميركياً، وإنما روسياً أيضاً؟
لعل التشابه، اليوم، يكمن أيضاً في فقدان مصداقية من قبلت بهم الأطراف المتضرّرة كرعاة لمسار السلام، أي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا، في كل من فلسطين وسورية، أي السلطة الفلسطينية والمعارضة السورية، ما يضع هذين الطرفين أمام مسؤولياتهما عن قبولهم بمسارات جانبية، وبرعاة غير حياديين، هدفهم النيْل من القرارات الأممية، واستبدالها بتسوياتٍ غير عادلة، لحساب كل من إسرائيل والنظام، وفق خياراتهما المعلنة والمتراكمة، والتي لا يكمن ادعاء حياديتها، بل وعداوتها سواء لحقوق الفلسطينيين، أو لحق السوريين في إقامة دولتهم المتأسسة على المواطنة والديمقراطية.
لعل رهان ترامب على الصمت والعجز العربي، سواء في موضوع القدس، أو في توزيع الأدوار في الصراع على سورية، هو ما يفقد الأمل بحلول قريبة، ما لم تلجأ الجهات المتضرّرة إلى البحث بجرأة وموضوعية عن حلولٍ لا تكرّر خيباتهم السابقة، ولا تجعل من قضايانا معبراً لمصالح المستفيدين وتجار الدم والمستهترين، فهذا الصمت العربي الذي أنتج التغريبة الفلسطينية في آلامها وتحدياتها هو نفسه الصمت الذي يُجهز على ما تبقى من القضية برمتها، لو لم يكن للشعب الفلسطيني انتفاضته بطرقها العديدة، ومنها عهد التميمي، وهو الصمت نفسه الذي يلوح بفقداننا بوصلة أهداف الثورة في إنهاء نظام استبدادي وإقامة البديل الديمقراطي الذي يهدد الأنظمة الشمولية، على اختلاف مواقع حكمها الجغرافي.
العربي الجديد