صفحات الرأي

تغيير النظام وتغيير المجتمع/ حازم صاغية

 

أثار الشاعر السوريّ – اللبنانيّ أدونيس زوبعة في وسائط التواصل الاجتماعيّ، ثمّ إلى حدّ ما في الصحافة المطبوعة، حين قال ما معناه إنّ المهمّ تغيير المجتمع، لا تغيير السلطة السياسيّة.

والحال أنّ هذه العبارة التي اكتسبت وزنها من وزن أدونيس، تنطوي على قدر من الصحّة لا يفوقه إلاّ قدر الخطأ الذي تنطوي عليه.

فصحيحٌ أنّ الثورات تُقاس، في آخر المطاف، بمدى تغييرها للمجتمعات ولثقافاتها وقيمها، وبالتالي لا تقتصر محاكمتها على إطاحتها الأنظمة السياسيّة. لكنْ ما الذي يعنيه بالضبط تغيير المجتمعات؟

فقد رأينا من قبل محاولات كثيرة، شيوعيّة وفاشيّة وبين بين، تذرّعت بتغيير المجتمعات لكي تجتثّ روح المجتمعات إيّاها، واعدةً بتوليد “إنسان جديد” هو إنسان مسخ بلا ملامح خاصّة به، أشبه بالكوريّ الشماليّ الذي سهرت سلالة كيم إيل سونغ على إنتاجه. فمنذ ما قبل ستالين إلى ما بعد تشاوتشيسكو هناك محاولات تندرج في هذه الخانة لم يتأدّ عنها إلاّ سحق الشعوب وتشويهها قبل سقوط المحاولات القسريّة المذكورة وتفسّخها.

أمّا القول الشائع بأنّنا شهدنا الكثير من أعمال تغيير الأنظمة السياسيّة لكنّ شيئاً لم يتغيّر في المجتمعات وثقافتها، فهذا بدوره قول ينطوي على كثير من التبسيط والإنشائيّة الخطابيّة. ذاك أنّ تغيير الأنظمة إنّما طال التراكيب الاقتصاديّة للمجتمعات، فضيّق طبقات ووسّع طبقات، وأثّر عميق الأثر في التعليم وفي الأخلاق العامّة. حتّى الدين نفسه تمّ تأميمه من خلال المصادرة الرسميّة له ومن ثمّ إخضاعه لأغراض السلطة والحاكم العسكريّ الفرد.

إذاً، من غير الدقّة طرح هذه المسألة من ضمن الثنائيّة القاطعة: نظام في مقابل مجتمع. لكنّ ما يبقى صحيحاً أنّ تغيير المجتمع الذي يستحقّ هذه التسمية إنّما هو الإسهام في نقله من حال الكبت والاستبعاد إلى ممارسة الحرّيّة، أي إلى القدرة على الاعتراض والشكّ والمقارنة. وهذا ما لا يتحقّق عبر الوعظ الأخلاقيّ بقدر ما يتحقّق في الحياة الفعليّة والانخراط في تجاربها والقياس على إخفاقاتها، أي في معمعة الانتاج الماديّ والجهد الثقافيّ والممارسة السياسيّة إلخ… فهنا، وعبر قياس خياراتنا على ثمارها وعوائدها، وعبر الاكتشاف اليوميّ لعجز الدوغما عن مواكبة الطموحات، تتحوّل المجتمعات وترسو على نماذج ومثالات أفضل ممّا هو قائم. وإذا كانت الأنظمة الديمقراطيّة الليبراليّة هي المرجع في هذا، لا الأنظمة التوتاليتاريّة، اتّضح أنّ تغيير المجتمعات هو بالضبط توفير الحرّيّة لها من أجل أن تعترض وتشكّ وتقارن، ومن ثمّ تصحّح.

في هذا المعنى، لا يمكن العبور إلى هذه السويّة من دون تغيير النظام القمعيّ الذي يمثّل تعطيله لتلك الحرّيّة وظيفته المركزيّة الأولى، إن لم يكن علّة وجوده. فإذا طبّقنا ذلك على سوريّا مثلاً، حيث الدولة ضالعة في كلّ شيء، ممسكة بخناق كلّ مستويات الوجود الاجتماعيّ، من الاقتصاد إلى التعليم إلى الحياة “السياسيّة”، وحيث هي عديمة الحياديّة حيال أيّ شيء، تأكّد أنّ لا تغيير للمجتمع بتاتاً من دون تغيير سلطة كهذه.

صحيح أنّ الفصل ربّما جاز حيث الدولة على درجة ما من الحياد حيال العمليّات الاجتماعيّة، تراقبها ولا تتدخّل إلاّ قليلاً، وحيث توجد وسائط اجتماعيّة بين الفرد والدولة على شكل طبقات ومؤسّسات وأفكار. أمّا هنا، فدولةٌ كالدولة السوريّة لا تعدو كونها، في آخر المطاف، مجرّد سلطة كابحة وجائرة.

وتأسيساً على ذلك يصير ممكناً أن يظهر بعض سيّئي الظنّ، أو سيّئي النوايا، فيقولون إنّ المقصود بالعبارة أعلاه إنّما هو: سحق المجتمع باسم تغييره لصالح السلطة التي من المهمّ ألاّ تتغيّر!

موقع 24

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى