تفاهم دولي على خروج الاسد واقاربه وبقاء النظام
راغدة درغام
اختصر أحد المشاركين في اجتماع جنيف الجمعة الماضي حول مصير الوضع في سورية ما حدث بأنه سجّل نقطة تحول بين مرحلة «اللاعمل واللاقرار» ومرحلة الإنذار عبر «إعطاء الفرصة الأخيرة». وقال: «إنها مرحلة بناء جسر العبور». هذا المصدر الرفيع المستوى وصف الاجتماع الذي ضم وزراء خارجية الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن ووزراء خارجية العراق والكويت وقطر وتركيا والأمين العام للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إلى جانب المبعوث الأممي والعربي كوفي أنان بأنه كان اجتماعاً صعباً ومهماً في آن. وقال: «أجزم أنه حصل تفاهم روسي أميركي على معالجة الأزمة السورية من دون مواجهة وإنما من خلال التعاون. واتفق الطرفان على مبدأ عدم عسكرة الصراع».
مشارك آخر في اجتماعات جنيف وصف الأجواء بالعكس تماماً. وقال إن كل طرف تشبث برأيه وإن وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف كان عنيفاًَ في مواقفه وفي اللهجة التي خاطب بها الآخرين لا سيما نائب رئيس الوزراء وزير خارجية قطر الشيخ حمد بن جاسم ووزير خارجية تركيا. وبحسب هذا المصدر، لم يسفر اجتماع جنيف عن جديد وإنما كشف أكثر فأكثر اعتزام روسيا على شرعنة حقها بتزويد النظام السوري بالسلاح تنفيذاً لصفقات أُبرِمَت بين الحكومتين وإصرارها في الوقت ذاته على عدم شرعية تسليح المعارضة من قِبَل الدول التي تدعمها.
الرأيان المتناقضان يعكسان الواقع الروسي في محاولته إتمام «الصفقة الكبرى» Grand Bargain بما فيها ضمان تميّزه دولياً كلاعب يتساوى مع الدولة العظمى الوحيدة، الولايات المتحدة الأميركية، يعلو على اللاعبين الإقليميين. يعكسان أيضاً فنّاً في التفاوض لا يأبه بالصورة التي يتركها الدب الروسي لدى الرأي العام بقدر ما يدرك أن التمادي بالارتباط دموياً بمجازر وقمع سيرتد عليه. يعكسان مزيجاً من القوة والضعف في المواقف الروسية يترك آثاره في ذلك النمط من إنصاف الخطوات.
الخلافات الحادة التي برزت في اجتماعات جنيف كانت ثنائية حيناً وكانت ذات نزعة فوقية من جهة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن. فلقد نقلت المصادر أن هذه الدول اتفقت على صيانة تميزها وتفوقها ودعمت الدول الغربية روسيا والصين عندما تعالتا على قطر وتركيا وخاطبتاهما بفوقية على أساس أنه لا يحق لهذه الدول أن «تتدخل» في شؤون وإجراءات مجلس الأمن لتطالب بفصل سابع أو لترفض تعديلات روسية وصينية.
إنما الفكرة الأساسية وراء توجيه الدعوة إلى رؤساء مجموعات إقليمية، مثل وزير خارجية العراق هوشيار زيباري بصفته رئيس الدورة الحالية لجامعة الدول العربية، كانت من أجل العمل على إيجاد لغة توفيقية وتفادي الصدامات. وبحسب المصادر، وصل النقاش مرحلة حرجة بين الدول الخمس، وبين روسيا والصين من جهة وقطر وتركيا من جهة أخرى. وأوشك الوفدان الروسي والصيني على المغادرة مهددين بأنه إذا لم تؤخذ تعديلاتهما في الحساب فإنهما على استعداد لمقاطعة الاجتماع. وقالت المصادر إن الروس بالذات استاؤوا جداً من تركيا وقطر على أساس أنه «لا يحق» لهما التدخل في نص لمشروع قرار يخص مجلس الأمن وأن عليهما ألا يتصرفا وكأنهما عضوان في المجلس.
لكن الخلافات الأساسية كانت بالقدر نفسه من الحدة لا سيما عندما أدخلت روسيا عنصراً جديداً على إحدى النقاط الست في خطة كوفي أنان التي تطالب بسحب القوات العسكرية الحكومية والآليات المسلحة التابعة لها من المدن. فلقد وضع الوزير الروسي أكثر من دولاب في العجلة على نسق تساؤله: مَن يضمن جانب المعارضة في المعادلة وهي تحتل مدناً كاملة؟ ومن يقوم بتنسيق الانسحاب المتزامن؟
وكان هناك جدال طويل حول الحكومة الانتقالية في سورية ومَن سيكون المفوّض حكومياً للحوار، وهو أمر أوضح ممن سيكون مفوّض المعارضة المشتتة للحوار. فالمحاور الحكومي أسهل إيجاده من محاور المعارضة.
المصادر قالت إن الكلام في جنيف لم يتطرق صراحة إلى بقاء أو ذهاب الرئيس السوري بشار الأسد إنما الانطباع كان جليّاً لدى الجميع بأنه لن يشارك في الحوار الذي ستبدأ به الحكومة الانتقالية وإنما سيفوّض المهمة إلى الشخص المناسب. وكان هناك خلاف حول تشكيلة الطرفين ومَن يخضع لموافقة مَن وتم التفاهم على التوافق الثنائي المتبادل بالتراضي.
كان هناك أيضاً خلاف جذري حول استصدار قرار عن مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من الميثاق يضع تنفيذ خطة كوفي أنان في مرتبة الالتزام ومحاسبة مَن لا ينفذ بنودها. ما تم التوصل إليه في جنيف كان خطوة حل وسط انتقالية اتكأت إلى صدور بيان متفق عليه يلقيه وزير خارجية بريطانيا وليام هيغ باسم الدول الخمس الدائمة العضوية يعلن فيه التمسك بخطة أنان واعتزام مجلس الأمن النظر في ضمانات تنفيذها. وفي حال فشلت الجهود الجارية خارج المجلس، تتم العودة إلى مجلس الأمن نحو الفصل السابع.
خلاصة ما خرج به المشارك العربي الرفيع المستوى هو أنه «للمرة الأولى، لمست في جنيف تفاهماً روسياً وأميركياً تعدى الخطوات المتراكمة حتى قمة العشرين التي جمعت الرئيسين باراك أوباما وفلاديمير بوتين وتعدى زيارة وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون إلى موسكو وزيارة بوتين إلى إسرائيل».
وأضاف المصدر: «قد لا يكون الاتفاق واضحاً بحذافيره، إنما هناك تفاهم على أن يخرج الرئيس السوري وأقاربه من سورية، إنما الدولة تبقى. أي تبقى قيادات علوية لتتحكم بالأمور على نسق النموذج المصري» في إشارة إلى دور المجلس العسكري في الحفاظ على الدولة بعد تفكيك العائلة والنظام.
الحذافير مهمة، والشيطان في التفاصيل. وحتى الآن، ما زال الحسم والجزم في قنوات المقايضات والشكوك المتبادلة.
أحد السياسيين المخضرمين في منصب عالٍ في حكومة عربية قال: ما هو الذي تريده روسيا ولم تحصل عليه بعد؟ هذا سؤال في محله لأنه طالما الوضوح بعيد المنال، هذا يعني أن هناك شيئاً ما تريده روسيا من طرف أو أطراف ما، ولم تحصل عليه بعد.
المعارضة السورية تبدو وكأنها لا تستوعب معادلة المواقف الدولية والترابط بين الاستراتيجيات والمصالح العالمية للدول الكبرى. إنها مشتتة وضائعة أحياناً وهي ذات فكر سياسي ينصّب على مسائل محددة مثل إقامة مناطق حظر وممرات آمنة ووعود طيران وحماية بالقوة. واقع الأمر أن أميركا لا تريد هذه الإجراءات وهي وافقت روسيا على ضرورة عدم عسكرة النزاع. هذا لا يعني أن واشنطن تريد بقاء الرئيس أو النظام. إن أسلوبها يعتمد أكثر على الحث الدؤوب على انشقاقات في صفوف الجيش وعلى التفاهم مع روسيا على رعايتها العملية الانتقالية السياسية في سورية ضمن تفاهمات أكبر.
ما حدث في اجتماعات المعارضة في القاهرة يدل على تقصير في الوعي السياسي لدى أطراف في المعارضة. مبدأ المقاطعة لاجتماعات كالتي استضافتها جامعة الدول العربية في القاهرة يدل على قصر النظر. ومعارضة الداخل تحتاج وعياً أكثر لكيفية قراءة مواقف الدول الكبرى. أخطاء على نسق حرق الأعلام الروسية كما حدث سابقاً يجب ألاّ تُرتكب. مقاطعة اجتماع للم شمل المعارضة يجب ألا تحدث.
روسيا لديها مصالح كبرى بغض النظر عن قصورها أخلاقياً تجاه الشعب السوري وإخضاع تطورات سورية لمعادلات المصالح الروسية. الروس خائفون على مصالحهم وخائفون من التطرف الإسلامي وخائفون من الإرهاب وخائفون من الانتفاضات العربية وخائفون من تدخل الأمم المتحدة في قضايا داخلية قد تؤدي إلى تدخلها في الشيشان. الروس ثاروا ضد إهانة استبعادهم عن رسم النظام الإقليمي الجديد واعترضوا على قرارات غربية انفرادية. إنما هذا لا يعني أن روسيا في وضع تُحسد عليه. إنها في موقع يستحيل عليها الاستمرار به، ولذلك إنها تستعد للمقايضات الكبرى.
الاتفاق في جنيف على تشكيل حكومة انتقالية في سورية لم تلوث يدها خطوة مهمة لروسيا قابلة للتطوير. المشكلة الأكبر قد لا تنحصر في العلاقة الروسية – الأميركية وماذا تحصل عليه موسكو من واشنطن. لعل أحد أهم جوانب المشكلة أو العثرة هو في علاقة روسيا مع تركيا ومع دول مجلس التعاون الخليجي. وفي صلب هذا الخلاف أو الاختلاف سورية وكذلك إيران، استراتيجياً كما نفطياً كما في مجال العقود الثنائية التجارية والسياسية.
فالحظر النفطي الأوروبي على إيران يرافقه رفع الإنتاج النفطي السعودي. رفع الإنتاج حفاظاً على انخفاض الأسعار يغضب موسكو ليس فقط من ناحية الضرر بإيران وإنما أيضاً من ناحية الضرر الاقتصادي لروسيا. ثم انه لا يوجد تبادل تجاري أو استثمارات بين روسيا ودول مجلس التعاون الخليجي. هناك تحالف خليجي – غربي (ومصري أيضاً اليوم) ليس من مصلحة روسيا أن تكون خارجه. موسكو تعترض على هذا الواقع في مجلس الأمن وفي سورية عبر سياسة «التعطيل» المعهودة في العصر السوفياتي.
أحد المخضرمين وصف الفارق بين الصين وروسيا بقوله إن معارضة الصين صامتة ومعارضة روسيا صاخبة. المواقف بين دول الخليج وروسيا متباعدة جذرياً في ناحيتي سورية وإيران، إنما هناك حاجة الآن إلى البدء بإصلاح العلاقة مع ابتداء موسكو بالموافقة على حكومة سورية جديدة «ومن خارج النادي» بحسب قول مراقب. فموسكو بدأت إجراءات لها دلالة على الآتي إلى سورية، من ضمنها استضافة أطراف المعارضة السورية لإجراء حوار.
العراق قرأ هذه العناوين كما بدا واضحاً من خلال خطاب وزير الخارجية هوشيار زيباري في اجتماع المعارضة السورية في القاهرة الذي تحدث بلغة «التصدي لأنظمة القمع الشمولية» وأوضح «الالتباس» بأن العراق «لم يكن محايداً» و «لم نكن مع النظام ضد المعارضة والثورة السورية».
هذه مواقف تعكس قراءة لافتة للعراق قرر على ضوئها أنه يجب أن يحسب حساب المستقبل الآتي إلى جيرته. وبحسب مسؤول عراقي اشترط عدم ذكر اسمه «استنتجنا، من خلال اتصالاتنا الدولية ومراقبة الأوضاع ميدانياً، أن الوضع الميداني يتغير لغير مصلحة النظام. محافظات كاملة خرجت عن سيطرة السلطة وباتت الحكومة حكومة شبيحة وعسكرية. روسيا تحاور المعارضة وحتى إيران تفتح قنوات للتحاور مع المعارضة. كل هذا أدى بنا إلى اتخاذ مواقف أوضح وأقوى».
متى الحسم؟ لا أحد يملك الجواب القاطع. إنما الأكثرية تقول إن الحل السياسي آتٍ قبل نهاية السنة. هذا إذا لم تنسفه تطورات تفرض العسكرة.
الحياة