تفخيخ الكتب/ خيري منصور
بين الفخ البدائي الذي كان الإنسان يستدرج ضحاياه إليه، وبين هذا الفخ الذي سخّرت منجزات التكنولوجيا لتحديثه وتطويره، زمن سادت فيه دول وبادت أخرى، ورغم تحديث الأسلحة، بحيث أصبحت إبادية، إلا أن نوازع استخدامها لم تتغيّر سواء كانت عدوانا يستهدف التمدد أو دفاعا، لكن الطارئ البشري في عصرنا هو تفخيخ كل ما يمكن أن تصل إليه اليد، وشهوة الانتقام، بدءا من جسد الإنسان والحيوان حتى الهواتف والسيارات وليس انتهاء بباقات الورد أو بطاقات التهنئة، فراجيف غاندي كان الفخ الذي تم اصطياده فيه باقة ورد.. وأنيس صايغ كان الفخ الذي استهدف قلمه رسالة وفي غياب سعاة البريد يصبح المرسل إليه هدفا سهلا بحيث لا يحتاج الفخ إلى طُعم!
لكن كل هذه الأنماط من التفخيخ يبقى في نطاق ما هو مادي وقابل لأن يلمس باليد والعين المجرّدتين، وهناك تفخيخ آخر يحتاج إلى قدر من التجريد للتعامل معه، هو الكتب، وإن كان الفضاء المدجج بالقنوات قد بدأ ينافس الكتب على التفخيخ.
وما أعنيه بدءا بتفخيخ الكتب ليس وضع ديناميت بين صفحاتها كما حدث للصايغ، بل تهريب أفكار وتمريرها، بحيث يذاب السمّ في سياقات بلاغية عذبة، وأول ما لفت انتباهي إلى هذا التفخيخ كُتُب الأطفال بالعبرية، فهي محشوة بالحلوى السّامة، لكن بمهارة فائقة، وذلك من خلال تقديم صورة العربي المهزوم والمراوغ والأفاق، تماما كما قدم الاستشراق الكولونيالي هذه الصورة، وكان الراحل إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» قد اكتشف تفخيخ بعض الكتب التي قدمت العربي خؤونا وكاذبا وغادرا، وحين كتب جورح باتاي عن العقل العربي كانت خلفيته الثقافية في بُعدها الاستشراقي تملي عليه ما يكتب، وهذا بالضبط ما فعله آخرون من طراز طومسون وبرنارد لويس وبقية السلالة!
لكن هناك كتبا تطوي بين صفحاتها ما هو أقل مباشرة من ذلك، وأحيانا يكون كتاب كامل فخا لعبارة أو بضعة سطور، ومنها للمثال فقط كتاب كوفمان عن الاغتراب، فهو كرّس أطروحته لدراسة وتقصّي ظاهرة الاغتراب في الثقافة المعاصرة، لكنه استثنى بلدا واحدا من هذا السياق، وقال إنه حين يزور إسرائيل ويذهب إلى تل ابيب لمشاهدة أنشطة ثقافية يدرك على الفور أن الاغتراب قد توقف عند ضواحيها بسبب التطابق بين الحلم والواقع، ودحض هذه الأطروحة يعفينا منه كتّاب يهود هم الأدرى بشعاب الاغتراب في إسرائيل، نذكر منهم للمثال فقط شلومو رايخ وإسرائيل شاحاك وبورغ وشلومو ساند وآخرين، إضافة إلى المؤرخين الجدد بدءا من ذلك الشاب اليهودي الذي اكتشف مذبحة الطنطورة، وهناك كتاب لروزنتال وهو من المراجع الاستشراقية اكتفى فيه بفقرة واحدة قال من خلالها إن كلمة حرية لا جذر لها في اللغة العربية، وهي على الأرجح ذات جذر عبري، ودليله إلى ذلك أن العرب لم يعرفوا في تاريخهم الحرية لأن الحرّ هو الإنسان في درجة الصفر، أو هو مجرد «غير عبد»!
* * *
بمقدور كاتب عربي يعنى برصد مثل هذه الظواهر أن يضيف إلى كتاب «من الذي يدفع للزمار» الذي ألفته سوندرز عن أحوال الثقافة خلال الحرب الباردة، كتابا آخر بعنوان من يدفع للطبال أيضا! وسيجد لديه من الأمثلة ما لا يحصى بدءا من مؤسسة فرانكلين التي اكتشفت فن التفخيخ مبكرا وليس انتهاء بمجلة «انكاونتر»، وما انتهى اليه الراحل توفيق صايغ من مصير تراجيدي بعد أن اكتشف أنه بلع الطعم المسمّم!
خلال الحرب الباردة كانت للثقافة تسعيرة سياسية لأن العالم كان ثنائي القطب، ولو استعرنا من دانتي مصطلح اللمبو وهو المساحة أو الهامش بين الجنة والنار، لرأينا أن هناك ثقافة عاشت في هذا الهامش بين الرأسمالية والاشتراكية، لكن ما آلت اليه تلك الحرب وهو تحوّل العالم إلى أحادي القطب حذف هذا الهامش ولم تعد هناك تسعيرة مادية أو سياسية لمن يقيمون في اللمبو، فمن كان يحتاج إلى مثقف لاختراق نظام أصبح يعين وزراء ثقافة وإعلام وأحيانا رؤساء جمهوريات!
* * *
في حمى نقد تجربة القطاع العام الذي شمل الثقافة في مصر في خمسينات القرن الماضي كان للسينما إسهامها في هذه الموجة، وهناك فيلم بعنوان «وراء الشمس» يفتضح اضطهاد المثقف والأكاديمي لصالح الأمي تبعا لمعيار يقدم الولاء على الكفاءة، يقول الأكاديمي الذي يعذّب في السجن لجلاده: أنتم سلالة لا تنتهي، لكننا أيضا سلالة خالدة، وكان يختصر جدلية التاريخ، وثنائيات الخير والشر والصدق والكذب والإبداع والادعاء، ولم يكن ذلك الفيلم هو الوحيد الذي انفرد بهذه الرؤية، فقد ظهرت في أوروبا بالتحديد أفلام ناقدة لنظم توتاليتارية، ولما أفرزته الفاشية والنازية من مفاهيم مضادة للبشر، بل هي أشبه بمبيدات بشرية على غرار المبيدات الحشرية، وإذا كان غوبلز أمثولة الرقيب الذي يتحسس مسدسه إذا سمع مثقفا يتحدث عن الحرية، فإن آلاف المثقفين أيضا يتحسسون أقلامهم للدفاع عن الحرية.
* * *
قد تكون كتب المذكرات والسير الذاتية مجالا خصبا للتفخيخ، لأنها تتناول موتى لم يعودوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم، وقد عرفنا عددا من هذه الكتب في الفترة الحرجة بين الحرب العالمية الثانية واحتلال فلسطين، وبين نهاية التسعينات، ومنها ما أذاب اقراصا سامة في العصير وستكون خطورة التفخيخ فيها أشد بالنسبة لجيل قادم لم يشهد أحداث هذه الفترة وليس لديه من القرائن ما يتيح له ترجيح واقعة على أخرى.
كاتب أردني
القدس العربي