تفكيك الكيماوي.. ونظامه/ أحمد جابر
ما حلَّ بسوريا خالف التوقعات، كان ذلك منذ الكتابة الاحتجاجية الجدارية الأولى، وما زال متوالياً حتى الآن. الاستباق الحدثي نظرياً، يجد ترجمته في اختلاط المواقف وتفسيرها سياسياً، وما يصح، أو لعله الأقرب، هو التدرج في التحليل، بما يتلاءم مع حركة الأحداث الميدانية، المتدرجة هي الأخرى.
العودة إلى منطلقات المواقف المختلفة من سوريا، تساعد في تفسير سياق السياسات الحالية، لقد تسرّع المتدخلون في الشأن الكلامي السوري، عندما أعلنوا قرب حسم الوضع الداخلي. من انحاز “لحركة الشعب السوري”، قرأ تدخلاً غربياً وشيكاً، يضع حداً لسلطة النظام، ومن تمسك بالسلطة القائمة أفصح عن دعم خارجي، يعزز هذه السلطة، وينقذها من الانهيار. في المطرحين، غابت قراءة عناصر القوة والضعف، التي تلازم طرفي المواجهة الدائرة حول سوريا ومستقبل خياراتها.
بين الخارجَين المتدخلين، برز بوضوح عزم ومبادرة “قوى الممانعة”، فتدخلت ميدانياً، وعلى عجل. أفادت هذه القوى من قراءة سياسية متأنية، لواقع “الغرب”، واحتمالات حركته الراهنة. ولم تخطئ القراءة كثيراً، فالغرب، المعني بمنظومته “الأخلاقية”، تصرف بهدوء في ضوء رؤيته لمعنى مصالحه السياسية، لذلك تحرك متريثاً، لا متردداً كما يشاع، واعتمد التدرج المتصاعد سياسة، فكانت الخطوة الأولى إعطاء إشارة السماح بالحرب الأهلية في سوريا، وحدَّد أولياً، الخطوط العامة التي يجب ألا تتخطاها هذه الحرب.
جوهر القرار بالسماح بالحرب فوق الأرض السورية، وجد ترجمته في إجازة التدخل لمن شاء، بالعدة والعتاد، وبالسياسة وبالأمن وبالاقتصاد، وعليه، احتفظ الراعي الدولي لنفسه بدور الحكم، الذي لم يحسن دائماً الحدّ من أخطاء اللاعبين. لكن الحدود المرسومة لم تكن صلبة، ومرونتها سمحت بتحريكها. كان استخدام السلاح الكيماوي التحريك التجاوزي الأهم، الذي اقتضى تدخلاً أعلى حرارة، من أجل ضبط آليات الصراع ضمن الحدود المرسومة لها، بعناية أو بانتقائية، لا فرق.
لقد تعددت قراءات السياسة “ما بعد الكيماوية”، لكن الراجح منها، وفي ضوء الرؤية الأولى “للسياسة العليا الغربية”، ما زال إنهاك النظام على طريق إنهائه، ربطا بما تقدم، يصير مناسباً القول أن إذن الدخول الغربي، إلى الملعب السوري، كان من أهدافه الإلغاء المتوالي، لمقومات الوضع السوري القديم، بما تضمنه من تبادل مصالح، ومن حدود دور النظام الموروث، ومن البدل المادي والسياسي الذي كان يتقاضاه النظام كبدل عن خدماته. في هذا السياق، كان شكل الإلغاء، أو أحد أشكاله الأكثر فتكاً، اعتماد الحل العسكري من الجانبين، إذ في اعتماد العنف يمكن انفجار البنية الداخلية، المجمّعة قسرياُ، والمضبوطة بالقمع الدموي المزمن، والملقاة على هامش السياسة، أو خارج ردهاتها.
عليه، يمكن القول أن “الغرب”، لم يكن مسكوناً بهاجس الانتقال السلمي في سوريا، وتريثه، وليس تردده، ألغى هذه الإمكانية من أساسها. في هذا المضمار، لا تقف سوريا وحيدة، فجارها العراق يدار وفق سياسة تفجيرية طويلة النفس، وبلاد العرب تهتز تباعاً، دون أن يكون في الأمر مصدر هلع، للراعي الأميركي أو لسائر أقطاب “الديمقراطية العالمية”، أما المبادرة في هذه المحطة السياسية أو تلك، فتقتصر على سياسة حصر التداعيات.
كخلاصة، لا بأس من القول، أن المعادلة الرائجة “غربيا”، هي: إدارة ومراقبة الصراعات، وضبط تداعياتها. ما الذي يرافق ذلك؟ ليس أكثر من نشاط صوب المساومات العامة، التي ترتدي اللباس المؤقت، طالما أن كل شيء مؤقتاً، في الميدان السوري، وعلى مستوى المنطقة برمتها!، وما ينجم عن المؤقت مؤقت هو الآخر، سواء كان اتفاقاً أم اختلافاً، أم تعايشاً في “منزلة بين المنزلتين”!
ضمن المؤقت هذا، تقع كل السياسة الكيماوية، فهذه، على الأرجح، ليست ضخ حياة في عروق النظام السوري، إلاّ إلى أمد التخلص من سلاحه. ما يبعث على هذا الاعتقاد، هو كل العصف الذي أصاب سوريا. فالحاكم لم يعد حاكماً لهذا البلد، على معنى الحاكمية والتحكم، والوطن كفَّ عن أن يكون هو الوطن، على الوجه الذي تكون عليه الأوطان، واستطراداً، يحيط التساؤل بمدى مواطنية المواطنين السوريين حالياً، بعد أن دمِّر نصاب اجتماعهم. من ذلك، يمكن الاستنتاج، أن بقاء الأسد، لهذه الفترة أو تلك، لم يعد بقاء لرئاسته على الجمهورية، بل بقاء في جغرافيا بعض من مساحتها، وبهذا المعنى، فإن خسارة الكيماوي هي واحدة من خسارات القوة الرسمية العامة، التي يشكل التنازل عنها، خطوة إضافية نحو الخروج من المعادلة، بقرار ذاتي، أم بقوة القرارات الخارجية.
إذن، ليس للمراقب أن ينظر إلى ما بعد الكيماوي نظرة أحادية، وليس له أن يقرأ قراءة تآمرية على “المعارضات السورية”، بقدر ما عليه أن ينتبه جيداً إلى احتمال التآمر على الكينونة السورية… وإلى ذلك الحين، قد يجوز للمتابع أن يعتقد أن ما بدا من دعم ظاهر للنظام، بعد الكيماوي، لا يتعدى “دعم الحبل لرقبة المشنوق”، على ما قال ذو بصيرة، ذات يوم.