تفكيك المركزيّات البطريركيّة: من ثنائيّة الذكورة والأنوثة إلى نِسْيَاقيّة فَصْمِ الذّات والتَّأويليّة المشاعيّة/ د. مازن أكثم سليمان
“المُثقَّف أوَّل من يُقاوِم، وآخِر من ينكسِر”
غسّان كنفاني.
يعرض كتابُ المُفكِّر الأستاذ جاد الكريم جباعي (فخّ المُساواة _ تأنيث الرجل.. تذكير المرأة) أنموذجاً متقدماً للحفر في الجذور العميقة للاستبداد التي يُرجِعها في طيّات هذا العمل إلى نسيان العلاقة الأصيلة بين جدلية “الفرد والنوع” من ناحية أولى, وجدلية “الذكورة والأنوثة” من ناحية ثانية, وذلك باعتبار “الفرد أو الشخص أنثى أو ذكراً، وأنثى وذكراً من جهة, وتعيُّناً للنوع الإنساني من جهة أخرى، بل هو النوع مُتعيِّناً”؛ إذ مثَّلَ الانزياح الزائف لهاتين الجدليتين حِجاباً مُركَّباً لصالح هيمنة مركزية تسلطية بطريركية لطالما مارست سطوتها وعياً ووجوداً على كامل طبقات البِنية الحياتية في سورية بما هي انعكاس لمركزية أوسع سادَتْ في الفكر والفعل العالميين نازعةً فعالية العلاقات الجدلية البناءة التي يُفترَض أن تحافظ على الاستقلال الذاتي للفرد ذكراً أو أنثى لا بوصف ذلك إعادة إنتاج لمركزية مقلوبة تحت شعار المُساواة؛ إنَّما بوصفه انفتاحاً على المُمكِن والمُختلِف والحُرّ في الوجود البشري في العالم.
يرى المُؤلِّف أنَّ سورية قد نالت استقلالها وغدت كياناً سياسياً لم يحقق صفة “الدولة” لعدم تشكُّل السوريين بوصفهم أمة وشعباً أو مجتمعاً مدنياً, إذ اختلط في اعتقاده “مفهوم الدولة بمفهوم السلطة أو الحكومة, ومفهوم السيادة بمفهوم السياسة”، حيث شكَّل الانتماء إلى ما يدعوه “المجتمع الحكومي” آليّة تغوُّل سلطوية كبَحَتْ إمكانيات التحول إلى “المجتمع المدني”, لتبتلع البِنية السلطوية الفضاء الاجتماعي عبرَ ميلها الطبيعي إلى التوسُّع والشمول والسيطرة, في مقابل ميل ذلك الفضاء الاجتماعي إلى عدم المقاومة والركود السلبي غالباً أمامَ خطابها “الوطني” و”التحرري”, أو بفعل الطموح إلى الارتقاء الاجتماعي الذي يحققه الالتحاق بها والاندماج في عالمها, أو بفعل الانكفاء المُكلَّل بالفقر والجهل والأُميّة لدى بعض تيارات المجتمع المهمشة, فضلاً عن الخوف من بطش السلطة وانتقامها في حالة مُواجَهة تمدُّدها على حساب الخصوصيات أو الرؤى المختلفة التي كان يمكن أن تقاومها إلى حد كبير .
إنَّ تجربة ما بعد الاستقلال السوري تحتاج إلى مراجعة جذرية شاملة لتفكيك العناصر المكونة للوعي السياسي السوري, ولا سيما في ضوء الإخفاق في بناء دولة حديثة معاصرة، والناجم بشكل أساسي عن انتكاس التحول الديمقراطي، والتحول بدَلاً من ذلكَ _وفي مرحلةٍ لاحِقة_ إلى استبداد السلطة الشمولية التي لطالما كشفَتْ عن فصام حاد بين الشعارات التي رفَعتها، وحركيّة الواقع وتجاربه طوال عقود ماضية, وهي المسألة التي حاولت هذه السلطة ترميمها أو لنقُل ترقيعها باستمرار عبر احتلال الفضاء السياسي العام بالمُطابَقة بينه وبين مفهوم السيادة للقبض على الشرعية المُفتَقدة, ولذلك كان لابد دائماً من إخصاء الاختلاف المجتمعي بتعميم عناوين عريضة ذات نزعة شعبوية مُتَّكِئة على شعارات عروبية وإسلامية تهدف من جانب أوّل إلى استقطاب الشارع العريض بدغدغة وعيه الأوّلي, ومن جانب ثانٍ إلى استقطاب المرجعيات المذهبية وحتَّى السياسية منعاً لإمكانية قيام أيَّة مُعارَضة فاعِلة ومُؤثِّرة, ولافتراس أيَّة فرصة لظهور الاختلاف المُخلْخِل لوَحدة (السلطة _ الدولة _ المجتمع) الشمولية المزعومة.
لعل تسييس العروبة وتسييس الدين كانا مدخلين حاسمين لمصادرة الفضاء الاجتماعي العام في سورية, وذلك بالاستفادة من الوعي التقليدي بما هي استفادة تتأسس على العلاقة الجدلية بين المعرفة والسلطة, والتي لم تحقق عملياً سوى إعادة إنتاج المجتمع البطريركي, الذي يعود في جذوره البشرية القديمة إلى استبدال “حكم الأب” بـِ “النظام الأمومي”, لتبقى دعوتا “الحداثة” و”العلمانية” مجرد قشرتيْن منفصلتيْن عن مُحتواهما المَفهومي والعمَلي، ولا سيما في ظلّ تغيب مفهوم “المُواطَنة” عبر الانقلاب على “دولة المجتمع”، وإحلال “مجتمع الدولة” محلها، والانقلاب على “دولة الشعب”، وإحلال “شعب الدولة” محلها أيضاً, لتكتسب صفتا “الحداثة والعلمانية طابعاً حكومياً استبدادياً في الواقع, وإيديولوجياً, في الأذهان, لا ينفصل عن أيديولوجية السلطة أو خطابها, وهو الأمر الذي حالَ “دون نمو المجتمع المدني وتشكل دولة وطنية حديثة, تحمل إمكانيّات التحول إلى دولة ديمقراطية. لقد تحولت الحداثة والعلمانية, عندنا، بالفعل, إلى علامتين حكوميتين موسومتين بالتسلط والاستبداد, فضلاً عن طابعها التلفيقي أو الهجين”, الذي نحَّى جانباً و نفى فكرة “المُواطَنة” بوصفها “الصيغة السياسية لحرية الفرد وحقوق الإنسان”؛ حيث حُذِفَتْ هذه الفكرة “إلى هامش الحياة السياسية والثقافة والقانونية, فحلَّت فكرة المُناضِل والمُناضِلة محلّ فكرة المُواطِن والمُواطِنة, وحلَّتِ الامتيازات محلّ الحقوق, فضمر الروح الإنساني, وتآكلت الحياة الإنسانية”.
إنَّ الوعي السياسي الذي سادَ بعد الاستقلال هيمن عليه تياران أساسيان: “تيار ثوري أو انقلابي, عقائدي, تتقاسمه أيديولوجيات قومية واشتراكية وإسلامية, ما فوق وطنية, وأحزاب عابرة للحدود ذات سيماء ريفية و أقلوية. وتيار تقليدي: شبه ليبرالي تخترقه عصبيات جهوية وعشائرية ومذهبية وأقوامية, يشمل القوى المحافظة التي كانت صاحبة النفوذ في المجالين: الاجتماعي _ الاقتصادي والسياسي. فلم تتجذر الوطنية السورية, التي تشكلت نواتها في مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال, والمرحلة الليبرالية القصيرة التالية, ولم تعترف النخبة السورية البازغة بشرعية الدولة الناشئة حديثاً, وظلت تعاني نوعاً من شعور بـِ (نقص الاكتفاء الكياني) بتعبير ياسين الحافظ. يُعبِّرُ عن ذلك وصف سورية بأنها (دولة قطرية) و(دولة ما تبقَّى), وكلتاهما صفتان تحقيريتان” تؤكدان أسباب تمدُّد الأحزاب العقائدية وتوسُّعها, في مجتمع حديث النشأة لم يُؤسِّس بعد مجتمعه المدني السوري, أو أمته الحديثة, وهو الأمر الذي مهَّدَ موضوعياً لحركة الثامن من آذار عام 1963، والتي أرسَتْ دعائم حكم الحزب الواحد بطبيعته الشعبوية, والتي تجذَّرَتْ عبرَ عملية تنسيق بِنى المجتمع في المُنظمات الشعبيّة المُصادِرة للفضاء العام, والقائمة على حركيّة إدماج المجتمع في مركزية سلطوية أحادية تُخفي أو تُموِّهُ الاختلاف, ولاسيما بعد الانتقال من حالة الحزب العقائديّ ذات الأبعاد المثالية في مرحلة سيادة المُناخ الليبرالي القصيرة, إلى حالة الحزب التسلطي المُتعالي الذي فرَضَ هيمنته على المجتمع عبر أيديولوجيا شمولية لم تفتأ أن تبتلع الحزب نفسه, وأنْ تُفرِّغه من مضمونه رويداً رويداً بعد انزياح مركز السلطة من التنظيم الحزبي إلى المؤسسة العسكرية _ الأمنية المُستفيدة والمُوظِّفة في آنٍ معاً لصِلاتها العميقة مع البِنية الريفية و الأقلوية, والتي مارست (أي هذه المُؤسَّسة) فعل الانقضاض على الفضاء العام أو “تأميم قوة عمل المجتمع” عبر أداء تسلطي يقوم على الإرهاب والأيديولوجيا والإعلام, ليُسدَلَ الستار على المشهد السياسي في العقود الأخيرة بوصفه انتقالاً من حكم “الحزب القائد” إلى حكم “الرئيس القائد”.
وفي هذا الإطار, يدعو المُؤلِّف إلى أن نبدأ في سورية “بنقد الثقافة الكولونيالية, وعلاقة المستعمِر بالمستعمَر, التي أعيد إنتاجها فصامياً في العقيدة القومية, والعقيدة الإسلامية للإسلام السياسي”, حيث التبسَ “مفهوم الذات الجمعية بمفهوم الهُوِيّة”, وغدت “العلاقات بين الأفراد والجماعات والأمم والشعوب علاقات هووية؛ أي علاقات بين هُوِيّات ثابتة مُفترَضة قَبْليّاً. ويتجلى ذلك في علاقات السيطرة الفظة والهيمنة الثقافية الناعمة, ومن أكثر أمثلتها بروزاً علاقة المستعمِر بالمستعمَر, التي أنتجت وعينا, هُوِيَّتين شرقية وغربية مشحونتين بالعنصرية, بالطريقة نفسها التي أنتجت الأعلى والأدنى, والمرأة والرّجُل”, ذلك أنَّ ” نمَطَي التمايُز، الجنسي والتمايز الثقافي، ليسا منفصلين أحدهما عن الآخَر في تمثيل الاختلاف, بل إن خطاب الجنسانية وخطاب العرق مُتواشِجان وظيفياً في جهاز السلطة المركزية”, ولهذا الفَهم جذره العميق الكائن في “علاقة المستعمِر الغربي بالمستعمَر الشرقي”, حيث “تكون المرأة هي الشرق, والشرق هو المرأة؛ فإذا كان الشرقي مؤنثاً, والمؤنث شرقياً, يمكننا أنْ ندعي أنَّ طبيعة الأنوثة وطبيعة الشرق يجري تصويرهما على أنهما الشيء نفسه, في هذه التمثيلات”، لتُطرَح “الذات الغربية بوصفها مذكرة: الثقافة الأُخرى هي دوماً مثل (الجنس الآخَر)”.
إنَّ “الثقافة البطريركية هي, في الأساس, ثقافة تأنيث الرعايا, مثلما ثقافة المستعمِر هي ثقافة تأنيث السكان الأصليين”, وهذه الثقافة تقوم على فكرة “العقل الكلي” الذي يصفه المُؤلِّف بأنه “تصور ساذج للكون, وأكبر كذبة فلسفية _ دينية, وأكبر خطيئة فلسفية و دينية, وأكبر إهانة للفرد الإنساني والروح الإنساني. و(العقل العربي) ومقابلُهُ (العقل الغربي) أسوأ مقولة (فكرية), لأنها إدلوجة تفاضلية لا تمتُّ إلى الفكر بأي صلة, لأن قوامها تنصيب الواحد المستبد عقلاً كلياً وتقديسه, والواحد هنا رمز للسلطة الكليانية المطلقة”. ولذلك يرى الأستاذ جاد الكريم أنَّ ” نقد المركزية الأوروبية والاستشراق كان صائباً وضرورياً, لكنه لم يفتح ملف الإثنية العربية المضادة, والمركزية الإثنية _ المذهبية العربية الإسلامية, ولم يعنَ بالمركزية الذكورية, والمركزية الأنثوية المضادة, سوى عدد قليل من المفكرين”, ولاسيما أن ما يُسمَّى بـِ (الاستغراب) لم يكن سوى فعلاً مقلوباً للاستشراق أنَّثَ بدوره الغرب بوصفه آخَراً للمركزية العربية الإسلامية, لذلك لا مناص عند نقد “المركزية الأوروبية” من نقد المركزية/المركزيات المضادة, واقتران تفكيك مفهوم “الغرب” بتفكيك مفاهيم “الشرق والعرب والمسلمين”؛ إذ إنه من الضروري أن نعمل على نقد جهاز استقبالنا للفكر الغربي, والكشف عن آثاره المباشرة وغير المباشرة في تشكل ذواتنا, ولاسيما إذا فهمنا أن مركزياتنا العربية المختلفة قد انبثقت في جانب أساسي منها عن سعي “ذاتنا الكلية” الجريحة إلى القيام “بعملية دفاع وهمية” اتكأت فيها على الماضي, مُعيدةً إنتاج “التمركز الغربي العنصري” بإلصاق صفات النقص للآخَر المُختلِف والغريب “الغرب”, حيث انقلَبَ “الشعور بالدونية إلى شعور بالاستعلاء, والرهبة التي تلازم التماهي بالغالِب إلى تبجُّح”, فَـ “الذات الجوهرية تجوهر الآخَر وتجعل منه نقيضها المطلق, وتجهل أنها تنكر ذاتها و ذاتيتها عندما تنكر ذات الآخَر, وذاتيته”. و”الخطاب الأحادي المؤسَّس على إنكار الآخَر انفعالياً خطابُ ذاتٍ خاوية متلاشية متهالكة إزاء الآخَر الذي تنكره وتستنكر وجوده, تحتاج إلى شيء من الماضي أو من الخارج يملأ فراغَها ويمنحها قواماً. تأمَّلوا فكرة (الذات العربية) أو (الإسلامية), التي لا قوامَ لها من دون (الماضي), أو من دون (التراث), وما يُسمَّى (التاريخ), ومن دون قداسة اللغة, ونقاء العرق؛ أي من دون ما يسميه القوميون والإسلاميون (ثوابت الأمة), التي هي نفسها (ثوابت الملّةَ)”, وهذا العقل الجوهراني الكلي بنظرته الاختزالية للآخَر لا ينمُّ إلا عن إعادة إنتاج “وهم العنصرية التأنيثية للاستعمار” بما هو مضمون الفكر البطريركي الأحادي, والذي لا يتوقَّفُ نفيه للآخَر عندَ ما يدَّعي اختلافه ثقافياً وعرقياً وقومياً ودينياً, إنّما يبدأ هذا الفكرُ فعلَ النفي أصلاً انطلاقاً من نفي المرأة نفسها.
لعلَّ هذا التحليل المُعمَّق للمُؤلِّف يفتتح جملة في المُساءلات والإشارات الضرورية والاقتراحات التي يمكن أن تُغني الرؤى السابقة كما أظن, ولاسيما أنه يتحدث في غير موضع عن أهمية التفريق بين (المنظومة الفكرية) بوصفها منظومة قابلة للمُراجَعة على الواقع والحاملة تاريخ تشكُّلها على أنَّهُ تاريخ أخطائها, والقادرة على مُواجَهة منظومات أخرى والتأثير فيها أو التأثر بها, و(الأيديولوجيا), بمعناها الشائع بما هيَ (منظومة باردة) مُنغلِقة على نفسها في صيغة مذهب أو عقيدة, وهذا التفريق يدفعني إلى الحديث بادئ ذي بدء عن أهمية إجراء مُراجَعة تفكيكية ضرورية للصلات الوثيقة بين سورية (الدولة _ الأمة) غير المُتحقِّقة, وسورية (العروبة _ الإسلام), لا بوصف الثنائية الثانية نقيضاً للثنائية الأولى؛ إنَّما بوصفها عاملاً مُهيمِناً لا يمكن الحسم في مدى القطع التام معه في تأسيس سورية (الدولة _ الأمة), ذلكَ أنَّ قضيتا تسييس العروبة وتسييس الإسلام بما هُما تجربتان أو تجارب (سياسة _ أيديولوجية) صارت جزءاً من التاريخ, وهذا يعني أن نتحاشى فكرة المُطابَقة بينهما وبين العروبة والإسلام بوصفهما جزءاً من الوعي والثقافة السائدة, ويجب ألّا نختزلهما أصلاً في تلك التجارب السياسية, بل ينبغي _كما أعتقد_ أن ننطلق من نقد تلك التجارب وتفكيكها أولاً _كما يفعل الأستاذ جاد الكريم في جانب من كتابه هذا_, وأن ننقل الحوار الوطني السوري في طموحه إلى تأسيس دولة وطنية ديمقراطية حديثة من حقل الأيديولوجيات الجوهرانية المغلقة إلى حقل الثقافة الواسع والمرن والمفتوح؛ إذ إنَّ مُجاوَزة أية تجربة مهما كانت مُخفِقة لا تكون بتوهُّم القطيعة أو الانفصال المطلق الوفي لمفهوم (الحتمية) الذي ينفيه المستوى الوقائعيّ لتجربة الوجود, بقدر ما تكون عبر التفاعل الخلاق و البناء المبدع على ما يُمكن البناء عليه, وهنا تأتي أهمية البحث في مسألة (الفضاءات الثقافية) التي تستطيع أن تتجاوز الثنائية المركزية البطريركية (شرق _ غرب) بأيديولوجياتها التأنيثية النافية للآخَر, وهو الأمر الذي يعني تلازم التفكيكات _كما يدعو المُؤلِّف_، ولاسيما أننا قد نجد أيضاً _كما أرى_ عند هذا “الآخَر الغربي” جرحاً نرجسياً قديماً ومسكوتاً عنه قد يعود في جذوره إلى قرون غابرة انطوَتْ على صدمته الحضارية إزاء تخلفه في تلكَ العُصور عن الحضارة العربية الإسلامية، وهوِ موضوع مُتراكِب ومُرتبِط بتجاهُل التَّيّار الأعمّ في الغرب لدور تلكَ الحضارة في تقدُّمه الهائل!
ويبدو أنه لا مناص أمام هذين التمركزين المُسَبَّقين من البحث عن أسس لقيام مُقارَنة حيوية تواصليّة وتفاعليّة يدعوها أنور عبد المالك: “الجدلية الأصلية للحضارات”. هذا من جانبٍ أوّل, ومن جانبٍ ثانٍ لابد أن يشمل هذا الفعل أيضاً تفكيكَ كافّة الوَحدات الإثنية والمذهبية والطائفية التي تُوَصف بـِ (الأقليات) بوصفها أنماطاً أصولية ليسَتْ مُتفاصِلة معَ الأصولية الكبرى السائدة, بقدر ما هيَ جزء أصيل من الفضاء الثقافي نفسه في اعتقادي، وذلكَ في إجراء ضروري لفَهم العلاقات الداخلية ضمنَ بِنية الثقافة العامّة، والتي تبدو مُتناقِضة أو مُتصارِعة في السَّطح البصَريّ الخارجيّ، ومُتجانِسة أو مُتحالِفة في السَّطح البصَريّ العميق، وهو الأمر اللازم لتحاشي فكرة “الهُوِيّة الكُلِّيّة”, فالثقافة انفتاح على بِناها الداخلية المُتراكِبة, وانفتاح على بِنى الثقافات الأُخرى التي تتشابَك معها في مَراحِلَ مُختلِفة وكيفيّاتٍ ليسَ من السَّهلِ تعيينُها.
وفضلاً عمّا سبَق, أعتقد أنَّهُ من الضروري أيضاً إعمالُ الحفر في الحقبة الليبرالية القصيرة التي عرفتها سورية بعد الاستقلال، لتحرِّي و دراسة بِنى المجتمعات “المدنية” التقليدية, والتي تمَّ تطويع معظمها لصالح المركزية السلطوية التي سادَت في العقود الأخيرة, وأحسَبُ أن دواعي هذا البحث راسخة في صلب تجربة السلطة المستبدة؛ إذ كيف يمكن أن نفسِّر مثلاً كيفية انقلاب الصراع على الفضاء المجتمعي العام بين سلطة حازت الدولة وصادرتها, وسلطات المجتمعات التقليدية المُغلَقة الحائزة لجماعاتها عقائدياً, والمُصادِرة لها كذلكَ, إلى تحالف موضوعي عميق الوشائج, وهو الأمر الذي تحقَّقَ بالتأكيد على حساب نبذ أيَّة إمكانية لانبثاق مجتمع مدني يحتفي بالتعدُّد والاختلاف.
ومن القضايا اللافتة في هذا المضمار أيضاً, ذلك التلاقي الموضوعي بين البِنى التقليدية نفسها _التي يُفترَض أنها مُتنافرة أو مُتناحرة أو مُختلفة عقائدياً فيما بينَها_ وذوبانها في مركزية السلطة العليا التي وحَّدت بينها, على الأقل حتى لحظة انفجار الثورة السورية عام 2011. وهنا لابد من الإشارة إلى أنَّ من أهم أساليب تجذير هيمنة البِنية السلطوية البطريركية في سورية تمَّتْ عبر اكتساب الشرعية بفعل المُماهاة بين مفهوم (الدولة) ومفهوم (السلطة), ليكون هذا التماهي مصدراً من مصادر القوة التي أسست عليها السلطة عملية تأنيث المجتمع ذكوراً وإناثاً، وهو الأمر الذي سنتوسع في مُقاربته في الصفحات الآتية.
إنَّ نقد المَظهر الزائف للحداثة والعلمانية في سورية، ينبغي ألّا ينفصل بحال من الأحوال عن نقد الحداثة الغربية نفسها، تلك الحداثة التي احتفت بسلطة الذات الغربية وقُدرَتِها على التحكُّم بالطبيعة بوصفها آليّة تُمثِّلُ تفوُّقَ مركزية الرجل الأبيض، وتُرسِّخُ نزعتَهُ المُتعالية والقائلة بأحقِّيته بأن يتحكَّمَ بالآخَر الأضعَف (التابع الذي ينبغي تأنيثه في كُلِّ خطاب مركزي)، فالفلسفة منذ عصر التنوير والثورة الصناعية كانت مُوظَّفة لصالح سيادة تقنية العلم بما هي سيطرة مطلقة على الطبيعة والعالم.
ويبدو لي أنَّ “تسارُع المعرفة والكشوف المدهشة للعلوم الحديثة والتقانة والأتمتة وثورات تكنولوجيا النانو وفتوحات البيولوجيا والكيمياء الحيوية” التي يتحدَّثُ عنها الأستاذ جاد الكريم، ليست سوى امتداداً يُرسِّخُ هذا الفكر التمركزي الجوهراني الكلي المُناقِض لحرية الفرد سواء أكان ذكراً أم أنثى, والذي هو باعتقادي تمركز شديد الوفاء لمفهوم (الأداتيّة) الذي ينظر لأيِّ آخَرٍ بوصفه موجوداً _تحت_ اليد يتمُّ تمثُّله وإخضاعُه والتحكُّم به, ولذلك أرى أنَّ تفكيك سُلطة الذات بوصفه تفكيكاً لمركزيات الحداثة في العالم, هو المدخل الأساسي للخروج من الفكر السُّلطوي البطريركيّ النّافي للتنوُّع والاختلاف والحرية, وقد قدَّمْتُ اقتراحاً عمَليّاً لمُجاوَزة مركزية سُلطة الذات الحداثيّة الجوهرانيّة في غير مكان، حيثُ دعوْتُ إلى ما اصطلحْتُ عليه بـِ (فَصْم الذّات) على مُستوى (نظرية الشعر)، وبتوسيع هذا المَفهوم، وإسقاطِهِ على نصّ الوجود، أسنطيع أنْ أُعرِّفُ الفَصْمَ أنَّهُ: آليّات وجوديّة إجرائيّة تنطوي على تقنيّات قصديّة مُكتسَبة بالدِّربة، ومُتحوِّلة معَ الزمن والتَّراكُم التَّجريبي وخبرة الوجود إلى قصديّات واعية وغير واعية، يُمارِسُها الإنسانُ المُعاصِرُ عبرَ فعلٍ تخارُجيٍّ جدَليٍّ بينَ مُسَبَّقات ذاتِهِ الوقائعيّة، الأنويّة والموضوعيّة والمَعرفيّة، وذاتِهِ الافتراضيّة المُتباعِدة، التي تطمَحُ إلى التَّملُّص من سُلطة المركزيّات القَبْليّة بما هيَ قَبْليّات تُصادِرُ الانفتاح الحُرّ على العالم والمُستقبَل والمَجهول.
ويُمثِّلُ هذا الاقتراح في زعمي مدخلاً أوَّليّاً للبَحث عن إمكانيّات عصريّة لتبلُغَ كُلُّ ذاتٍ إنسانيّة _ذكراً كانت أم أنثى_ كينونتَها الأصيلة بوصفِها مُجاوَزة للقيود الموروثة والمرجعيّات البالية التي أرى أنَّها قد أعادَتْ التَّوضُّعَ بأشكالٍ مُموَّهة ومُعقَّدة في عصر (العولمة/الليبراليّة الجديدة)، وهوَ الأمرُ الذي يهدفُ إلى خلخلة بِنية العولمة انطلاقاً من المُمارَسة الذاتيّة معَ نفسِها أوَّلاً، ومع مُختلَف الزُّمَر الاجتماعيّة والاقتصادية والسياسية، بما يترابَطُ في نهاية المَطاف، ويُؤثِّر ويتأثَّر بالمُؤسَّسات الكُبرى والسُّلطات المُهيمِنة وكيانات الدول، ويُؤدّي عبرَ مُمارَسة فعل الفَصْم الدَّؤوب إلى تفتيت المركزيّات الجوهرانيّة الطّاغية، وهوَ ما يُطلِقُ الحُرِّيّة من إطار المفهوم النظَريّ التَّجريديّ، أو المَفهوم المُستهلَك عالميّاً في هذه الحقبة، ليكونَ اختراقاً وقائعيّاً للتابوهات والمَحظورات، ومُواجَهةً مُباشَرة وشُجاعة معَ التَّنميط وآليّات التَّشيُّؤ الحالية، ولا سيما بما يخصُّ في قراءتنا هذه فعاليّة المرأة ودورَها الوجوديّ الحيويّ، وكينونتِها المُغيَّبة، وهيَ المسألة التي ترتبط كما أظنُّ بالانتقال من بِنية التحكُّم المركزية (الموجود _تحت_ اليد) إلى بِنية الانفتاح على الجديد والمُختلِف والشاذ والغريب والمُفاجِئ بوصفهم يندرجونَ تحت آليّة نزع أُلفة الوجود عبرَ قصديّة الفَصْم.
لم يأتِ خطاب “تحرير المرأة” والدعوة إلى منحها حقوقها و”مساواتها بالرجل” في ظل السلطة المستبدة والقمعية في سورية، إلا ليرسخ ذلك التحالف الموضوعي بين البِنى السلطوية التقليدية الإثنية والمذهبية, ومركزية السلطة العسكرية _ الأمنية, في حركة دورانية عبثية عمَّقت تزييف الحداثة والعلمانية المفرغتان من معناهما, إذ تمَّ “إدراج المرأة في رأس المال المادي والرمزي (الشركات والتحالفات) إمعاناً في تشييئها”، وهو أمر يسير جنباً إلى جنب مع خطاب تحريرها وخطاب المساواة. “فالمرأةُ المُسَلَّعة والصائرة وسيلة تبادل اجتماعي, والتي تُهيَّأ لذلك, هي التي تتظاهر, في الغالب, بأنها المرأة المُتمدِّنة والمُتحرِّرة والمُساوية للرجل”!
ويمكنُ إرجاع خطاب “تحرير المرأة” و “مساواتها بالرجل” في جذوره الأولية إلى سياسات الهُوِيّة الجنسية؛ ذلك أنَّ التحديد الذاتي للهُوِيّة الجنسية لطالما تأسس بدلالة المرأة, فـَ “طريق التعريف بالسلب أو بالليْس (مصدر الفعل ليسَ) من أبرز تجليات الثقافة الذكورية: الذكر ليسَ كُلّ ما تتصف به الأنثى, وصولاً إلى أنَّهُ ليسَ أنثى. الذكر إنسان, ولكنه ليسَ أنثى: الإنسان ليسَ أنثى, والأنثى ليست إنساناً. ذلكم هو أساس تجريد الأنثى من إنسانيتها, التجريد التي تتولد منه المركزية الذكورية, ويتحدَّد (الإنسان) اجتماعياً وثقافياً بكونه ذكراً”. والليسيّة في هذا الإطار بوصفها نفياً لكل ما يتصف به الآخَر المُختلِف تُولِّد النرجسية الذكورية ومركزية الذات _ الرَّجُل التي تُحدِّد الآخَر بأنه دالَّة , وتابعة منطقياً, مثله مثل المرأة, وفي الحاليْن: (نفي الآخَر المُختلِف _ ونفي المرأة) تكونُ الذاتُ ذكراً, والموضوعُ أنثى؛ أي يتمُّ تأنيثُ الآخَرِ رمزياً, بسبب اختلافه الجذري, وصولاً إلى تجريده من إنسانيته.
إنَّنا لا نستطيع فَهم سياسات الهُوِيّة الجنسية المُؤسَّسة بدلالة المرأة من دون فَهم علاقات القوة؛ حيث “لا ينكشف السحر, ولا يتحدد معنى القوة, إلّا إذا علمنا أن القوى الاجتماعية ليست سوى أشكال انتظام القوى الروحية؛ أي المعرفية والثقافية والأخلاقية لأفراد تُراهِنُ السلطات الاجتماعية على جهلهنَّ أو جهلهم. يتضمنُ الجهلُ, هنا, معنى التسليم بحقائق ثابتة”, وهذه الحقائق لا تعترف بأن “الهُوِيّة كينونة مؤنثة ومذكرة, ناتجة وصائرة, تنتج ذاتها, في بيئتها ومحيطها, وتختار حياتها ومصيرها, وتُحدِّد غاياتها بإرادتها الحرة”, وهذا “اللا_اعتراف” يقوم على “عملية صورنة و نمذجة”, وهيَ “ليست عملية تجريد وتعميم انطلاقاً من تفريد مَنسيّ, فقط, بل عملية اختزال وتقليص, تُخفي الفروق والتباينات في الحالات الواقعية, وهيَ حالات فردية أساساً, حتَّى عندما نتحدَّث عن مجموعات وجماعات تُعرِّف نفسها بصفة أو أكثر, أو تختصّ بوظيفة خاصة أو عامة, كالجماعات الإثنية والمذهبية, أو الجماعات المهنية وفِرَق العمل والنشاط وجماعات الضغط ومنظمات المجتمع المدني”, ولهذا يبدو أن لا مناصّ من “نقد العُمومية التي لا تتعيَّن في خصوصيات تحترمُها العموميةُ نفسها وتقرُّ باختلافها, ما يُرسي الدستور والقوانين العامة على مبدأ التشارك الحر لا على مبدأ الغلبة والقهر”.
وهكذا يبدو أنه “من البديهي أن يكون ثمة تواشجاً بين الميل إلى السيطرة على الآخَر, أو استعباده, وتأنيثه رمزياً. ومن ثمَّ فإنَّ خطابَ السلطةِ خطابٌ مُجَنْسَنٌ، في أعماقه، والجنسانيّة هيَ قاعه أو عمقه اللاوعي أو اللاشعوري. كما أن تمثيل الآخَر المُختلِف الغريب أو العدو, (وهو مُذكَّر لفظاً), هو تمثيل مُجَنْسَن, ينطوي على تمييز جنسي غير واع وغير ملحوظ, فما بالكم بتمثيل المرأة المؤنثة معنىً ومبنىً, وهيَ من تتشكَّل ذاتية الرجل وهُوِيَّته بسلب خصائصها أو نفيها”. ويبدو لي أنَّ فعل تفكيك علاقات القوة التي ينطوي عليها هذا الخطاب المُجَنْسَن قد تغتني كثيراً باعتماد أدوات (نقديّة ثقافيّة) تهتمُّ بتفكيك النسق الظاهري المركزي عبر كشف النسق المُضمَر والمَنسيّ بما هو نسق ينمُّ عن نسيان الوجود الفردي الأصيل للذكور والإناث على حدٍّ سواء.
لا يستطيع المجتمع الحكومي أن يكونَ مجتمعَ ذكورٍ صرفاً, لأنه يحتاج إلى ما يُعرِّف به ذاته ويثبت ذكوريته السلطانية, ابتداءً من الذكور الأدنى منزلة, وانتهاءً بالإناث, حيثُ كان لابد من تبني شعار “تحرير المرأة” وشعار “المُساواة” وفقاً لمصلحته التي تهدف أولاً وأخيراً إلى السيطرة على جميع القوى الاجتماعية, لهذا احتبست الحركة النسوية السورية في تنظيمات حكومية أو شبه حكومية, وفي أحزاب مُعارِضة ليست أحسن حالاً, لتكون مُشارِكاً ضرورياً في العطالة الاجتماعية عبر عقود, خاسِرَةً _هيَ والذكور على حد سواء_ خصوصيّة الاختلاف في ظل عدم الاعتراف بالخبرات المعرفية والعلمية والفكرية والعمَلية الخاصة بالكائن الفرد. وهنا بدا تسييس النساء قائماً عبر عملية تذكيرهنَّ بوصفهنَّ تابعات لبِنية ذكورية مركزية وتسلطية تدَّعي التقدمية, لكنها لا تعمل إلا على إدماج المرأة “المُذكَّرة” في حركة النضال اللفظي لا لتحقيق حريتها واستقلالها؛ إنَّما لتكون وفية لشعارات السلطة والمعارضة في آنٍ معاً, وليغدو المجتمع السوري أمام أنموذجين للمرأة هُما: الأنموذج التقليدي , والأنموذج المُحدَث سلطوياً بوصفه انحرافاً عن المجتمع التقليدي من جهةٍ أُولى, وعن المجتمع المدني الحديث من جهةٍ ثانية؛ وبمعنى آخر: بوصفها ديكوراً تجميليّاً _إذا صحَّ تعبيري_ مَوَّهَ الخروج من المجتمع التقليدي بالدخول في المجتمع الحكومي لا المدني.
وهكذا, استُتبِعَت المرأة عبر شعارات تحريرها ومساواتها بالرجل بالبنية التسلطية الذكورية من جديد، وأعادت من حيث لا تدري ولا تريد إنتاج المركزية الذكورية , هذه المركزية التي لم تعمل إلا على الوفاء لمفهوم “العصبية الخلدونيّ” انطلاقاً من توضُّع جديد للمرأة “المُذكَّرة” لا يختلف في حقيقته عما كانت محكومة به من العصبيات العائلية والعشائرية والإثنية والدينية والطائفية, فهي لم تتحرر من هذه العصبيات إلا شكلياً, مُلتحِقةً _بوصفها حسَب اصطلاح المُؤلِّف “بنت الحكومة”_ بعصبية سياسية مُحدَثة نواتها سلطة مركزية مَجْنوسة تقوم على تأنيث المحكومين, وتأنيث المعارضة, ذلكَ أن هذه السلطة لا تقدم عبر مجتمعها الحكومي سوى مجتمع اللامُساواة القائم على مبدأ “حقّ الأقوى” الذي يُترجَم عمَلياً إلى احتكار واستبداد وزبانة سياسية وامتيازات, وهذه العصبية المركزية السلطانية بوصفها من أهمّ العقبات المُمانِعة للتحول الديمقراطي, قد أحيَتْ في حركيَّتها الاحتوائية للمجتمع العصبيات العائلية والعشائرية والإثنية والدينية والمذهبية والجهوية التي كان يُفترَضُ أنها كانت في المرحلة الليبرالية القصيرة في سورية في طريقها إلى التفكك والتفسخ باتجاه تشكُّل مجتمع مدني ما.
وبهذه الصورة تمَّ توظيف حضور المرأة في الفضاء العام _الذي ابتلعه المجتمع الحكومي_ ليكون أشبه بقناعٍ يُخفي غياب المجتمع المدني؛ ذلك أن هناك فرقاً نوعياً عميقاً بين “الأنا الطبيعية” التي حافظت عليها ورسَّختها بعمق السلطة المركزية, و”الأنا المدنية” التي لطالما كانت مُطارَدةً لكونها تمثل “قطيعة واعية مع الأنا الطبيعية” التي هي أنا “أنانيّة” ضد “الغيريّة”, تعمل على إذابة الفرد في الجماعة, و تُماهِي التّابِع والتّابِعة بالمَتبوع، والعبد والعبدة بالسَّيِّد، وتُماهِي المحكوم بالحاكم, وتُجذِّر التفاصُل الهُوِيّاتي, وتُعمِّق العصبيات الأوَّلية العائلية والعشائرية والدينية…إلخ, على العكس من “الأنا المدنية” التي تنهَضُ على “غيرية تبادلية مُعتدِلة” تحتفي بالاختلاف والتَّواصُل, وتُؤسِّس للسلم الأهلي والتَّشارُك الحُرّ.
إنَّ لهذا التضاد القائم بين “الأنا الطبيعية” و”الأنا المدنية” صلة وثيقة بالفرق النوعي أيضاً “بينَ الوعي الذاتي على خلفية (المجتمع) وأعرافه وعاداته وتقاليده و(ثقافته) و(تاريخه) و(تراثه), والوعي الذاتي على خلفية الوجود الإنساني”, وهو الأمر الذي يُعيِّن الفرق بين التبعيّة والاستقلال الذاتي, ذلكَ أنَّ “استقلال الفرد أو يقظة الروح الإنساني الحر, يعني أو تعني رفض أي تبعية أو خضوع, ولاسيما خضوع الضمير لجماعة أو مجتمع أو مذهب كلي أو مبدأ مفارق. امتياز شخصية المرأة واستقلالها الروحي معيار امتياز شخصية الرجل واستقلاله. الاستقلال الذاتي مُرادِف للفردية والفرادة أو التفرد”. ولهذا يكون “تحقيق الذات هو نفي اغتراب الإنسان عن ذاته واستعادة شخصيته الذائبة جزئياً أو كلياً من سديم الجماعة. وهو نقيض العزلة والتجنُّب, وشرط للفاعلية أو التأثير الإيجابي, والانفعال أو التأثر الإيجابي, الواعي والهادئ”, وهي المسألة التي تُفسِّر مدى انهمام السلطة المركزية البطريركية بطرد “الفردية” بوصفها اختلافاً يُؤصِّل “الحرية” بما هيَ علة الاختلاف التي لا تظهر إلا في معلولها؛ فَـ ” الاختلاف هو الشكل الواقعي الذي تتجلى فيه الحرية مادياً وروحياً وفكرياً”, ومن هذه البؤرة ينشأ إحساس السلطة الاستبدادية بالخطر, وتبدأ حربها مع كُلِّ مُختلِف لمحوه و تدجينه واستتباعه.
وفي هذا المنحى، قامَتِ السلطة الاستبدادية البطريركية التي سيطرت على مقاليد الحكم في العقود الأخيرة بفعلين متزامنين ومتماهيين في آنٍ معاً تجاه المجتمع ذكوراً وإناثاً؛ كان الأول منهما يكمن في “تأنيث الرجل” بما هو فعل استتباع أبوي بطريركي يقترن دوماً بعملية “تأنيث” رمزي, أو إخصاء رمزي للتابع بوصفه موضوعاً هامداً أو مطاوعاً للسلطة, ذلك أن نقطة البدء في هذا التوجه تظهر عبر العلاقة بالوجيه أو الزعيم أو المسؤول (المعلم بالمألوف السوري), فيتجلى هذا التأنيث بحركتين متكاملتين ترتبطان بخضوع التابع وامّحائه الذاتي أمام المَتبوع, وبإخضاع المُتحكِّم (المَتبوع) للتابعين ممن هم أقل منه سطوة وسلطة وموقعاً، ليكون هذا التأنيث السلطوي بما هو تأنيث للموضوع فعل تحقير, وجذوره تتعدى هرمية السلطة نفسها, ليشتمل على تأنيث المعارضة من ناحية, ويرتبط أيديولوجياً بتأنيث الآخَر/الغرب المُعادي من ناحية ثانية.
والفعل الثاني المُلازم لتأنيث الرجل والذي مارسته السلطة الاستبدادية البطريركية يكمن في “تذكير المرأة”, وذلك لترسيخ حضورها بوصفها مُساوِية لنموذج الرجل الهامد المؤنث؛ أو بمعنىً أدق: “أدنى درجات السُّلَّم الاجتماعي في الثقافة الذكورية, والنموذج النقي للتبعية, وأول موضوع للسلطة الذكورية, بحكم أول تقسيم للعمل, وأول عملية إنتاج اجتماعي للهُوِيّة الجنسية”, ويبدو أن الجذور السيكولوجية لهذه المسألة ترتبط بخوف الرجل من المرأة, لهذا “عمد إلى إنكار إنسانيتها وخفض مكانتها, لإخضاعها إلى إرادته ورغبته, ثم انتهى به الأمر إلى تذكيرها رمزياً, بالمساواة الصورية أمام القانون, ومنحها حقوقاً لا تمسُّ امتيازاته ولا تحدُّ من سيادته, ولا سيما حق العمل وحق التعلُّم. ولا يخلو أن يمارس الرجل (العصري) عندنا هاتين العمليتين في آنٍ معاً: التذكير الخطابي, وتحت عنوان المساواة, والتنكُّر العمَلي, باعتبار المرأة موضوعاً للسلطة وموضوعاً للرغبة”.
من الجلي للمُتمعِّن أن المساواة القانونية بما هي مساواة في الحقوق المدنية والسياسية بين “أشخاص قانونيين” تقوم على تجريد الشخص الطبيعي تحت عنوان “المُواطَنة” من جميع صفاته وخصائصه الفردية، ومن جميع مَحمولاته باستثناء بَيانات الهُوِيّة الشخصية, وهو الأمر الذي يعني أن القانون “لا ينظر إلى المرأة بصفتها امرأة, أو إلى الرجل بصفته رجلاً, بل ينظر إلى كل منهما على أنه شخص قانوني يتمتع بالأهلية القانونية”, لكنَّ أصل الإشكالية تكمن في ذلك الفصام القائم بين نظرة القانون إلى المرأة وموقفه منها, ونظرة المجتمع إليها وموقفه منها, لتبدو المسألة كأنَّ القانون مُتحيِّز إلى الذكور عملياً في تجريد المرأة من خصائصها الأنثوية وطمس اختلافها؛ إذ إنَّ ” الحقوق الصورية التي يمنحها القانون للمرأة ينتزعها منها المجتمع بكل بساطة, كحرمانها من الإرث كلياً أو جزئياً, على سبيل المثال, أو فرض قوامة الرجل وسلطته عليها, كما ينتزعها المُشرِّع نفسه, بقوانين الأحوال الشخصية, وقانون الجنسية وقوانين الإرث وغيرها من القوانين المدنية، والقوانين المُتعلِّقة بما يُسمَّى جرائم الشَّرَف”.
وهكذا, يتأسسُ فخُّ المساواة في الحقل القانوني ليُموِّه انعدام التكافؤ واستتباع المرأة في المساحات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, وتأتي مقولة “المساواة” لتكون حِجاباً على حساب الاختلاف بينهما, ذلك أنَّ “المساواة لا تكون إلا بين شيئين أو شخصين متشابهين ومتشابهتين تشابهاً تاماً, أو بين قيمتين مجردتين (1=1, 2=2, ب=ج…وهكذا)”, لتكون أطروحة “مساواة المرأة بالرجل” أطروحة ذكورية مطلقة تنفي خصائص المرأة وتتنكَّر لاختلافها, حتَّى لو كانت المرأة نفسها تتبنّاها, وهذا من أبرز مظاهر تذكير المرأة. ويبدو أنَّ لفكرة المساواة جذراً تصوُّرياً أيديولوجياً في “النشاط الذهني _ النفسي الذي يكشف عن التشابه والتماثل في قلب الاختلاف, وعن الوَحدة في قلب التعدد؛ أي عن عملية التعقُّل التي هيَ سلسلة من العمليات الإدراكية والتخييلية تنتهي بالتجريد, وصولاً إلى الكلي, المثالي, الذي تربع على عرش الفكر, فتجوهر, وغدا الأفراد مجرد أعراض (جمع عَرَض) لجوهريته”.
لهذا يبدو أنه لا مناص من إعادة تأسيس فكرة “المساواة” والخروج من فخّها الحالي بنقد الكُّلِّيّة الجوهرية, أو الماهوية, ونقد الصيغ المذهبية التي آلت إليها, ولهذا أستكمِلُ اقتراحي السّابق حول فكرة تفكيك المركزيّات الجوهرانيّة وفقَ آليّات (فَصْم الذّات) بالدعوة إلى اتِّكاء هذا الفَصْم على ما أصطلِحُ عليه بـِ (تحريك الماهيّة)، بوصفِ هذا التَّحريك الأُسّ (الجدَليّ _ التَّراكُبيّ) لفعل الفَصْم الوجودي الذي يُمارِسُهُ الموجود البشري في العالم بما هوَ انقلابٌ قصديّ تجريبيّ على الثنائيتين الميتافيزيقيتين (الجوهر _ الأعراض) و(الشكل _ المضمون) عبر تبادل مُزدوج ومُستمرّ في مواقع أطراف الثنائيات, وذلكَ في ضوء حركية جدلية تمحو الفصل الحدي بين تلكَ الحدود، ذلكَ أنَّ الجهد النَّوعيّ لتحريك الماهية ليسَ سوى دِربة ارتماء وجوديّ في فَجوات الانفتاح المُستمرّ _نحوَ_ المجهول، وبوصفها في هذا السياق الذي نحنُ بصدده فكرةً قابلةً أيضاً للتوظيف في حُقول معرفيّة مُختلِفة، ولا سيما إذا أشرْتُ إلى أنَّ فَصْمَ الذّات بانطوائِهِ على هذا التَّحريك يهدفُ في مُستوىً من مُستوياتِهِ إلى فَهْم الوجود وتفسيرِهِ وتأويلِهِ لا بالنَّظَر إليه على أنَّهُ وجودٌ جوهرانيّ مُتعالٍ وثابت ومُغلَق؛ إنَّما بالنَّظَر إليه على أنَّهُ أساليب وجود حركيّة مُتنوِّعة ومُتغايِرة ومَفتوحة على التَّحوُّل والتَّباعُد المُستمرّ _نحوَ_ المَجهول.
لعلَّ عمَلانيّة فكرة فَصْم الذّات بتحريك الماهيّة تعضدُ طروحات الأستاذ جاد الكريم في كتابه الذي نحنُ بصدده هُنا، والتي هيَ طروحات تدعو إلى مُجاوَزة “جوهرية المعيار” التي مثلت خلفية الصيغة الإطلاقية للمساواة بوصفها “يوتوبيا” في مجتمعات كمجتمعنا لم تعش تجربة الدولة الحديثة وحكم القانون، ذلك أن المساواة في هذه المجتمعات المنتمية إلى “ما قبل الدولة الحديثة” تحوَّلَتْ إلى “شعار أو أدلوجة, مقطوعة عن جذورها الوجودية والعقلية والأخلاقية”؛ والنص عليها في الدساتير والقوانين يجعل الناس يعيشون وهم المساواة على أنه واقع، مع استمرار سيادة وعي سلطوي ذكوري يُحرِّر المرأة خطاباً, ويُبقيها فعلياً تابعة للرجل الذي هو النموذج والمعيار, ويبدو أن التصدي الحثيث الذي قامَ به إنسانويُّو عصر النهضة الغربية لميتافيزيقا اللامساواة التي تعود جذورها إلى أرسطو الذي يضع الأنثى في منزلة أدنى لكون “وظيفتها الرئيسة هي الإنجاب, وعلة الإنجاب هي الرجل, والعلة أفضل وأسمى وأكثر قداسة من المادة التي تعمل فيها”, قد أدَّى إلى بزوغ حركة إنسية مُساواتية أفضت في نهاية المطاف إلى تماهي المرأة بالرجل بما يمحو الاختلاف, ويترك المرأة تابعة أو سجينة في مُعتقل المركزية السلطوية البطريركية التي تنطلق _عن قصد أو عن غير قصد_ في تبنِّيها لشعار المساواة من عقد الخوف من المُختلِف والمُختلِفة رجلاً وامرأة, وهو في جذوره ليس سوى خوف من الحرية, وركون عميق إلى الشعور العارم بالدونية, لا يجد (الرجل _ السلطة _ المركز) حلّاً لمواجهته إلا بإخصاء المرأة رمزياً بعد تذكيرها, وممارسة الهيمنة عليها عبر قوى رمزية ناعمة لا تنفصل انفصالاً تاماً في بعض مراحل التاريخ عن ممارسة العنف والقوة العارية, وقد اهتم “الفكر النظري ( الذكوري)” بالسلطة عناية فائقة, فوضَعَ لها مبادِئَ وقواعِدَ ومُسوِّغاتٍ عقلية، ونظَريّاتٍ، تحوَّلتْ إلى مَذاهِبَ, وأنتجَتْ مَذاهِبَ.. ولكنَّهُ لم يعنَ بـِ “المُقاوَمة”, وكان حريصاً على طمسها وإخفائها والتنكُّر لها, أو تأنيثها وتكفيرها وتخوينها.. ما يُشير إلى الطابع الأنثوي العميق للمُقاوَمة, فقضية حرية المرأة واستقلالها كما يرى المُؤلِّف ينبغي أن تتوضَّع في جدلية السلطة والمُقاوَمة, أو في فكر المُقاوَمة مُقابِلَ عِلْم السلطة وفكر السلطة.
إنَّ “النظام الاجتماعي, بصفته معرفة موضوعية وحرية موضوعية وأخلاقاً موضوعية, تكاد أن تختفي فيها الذوات الفردية”, و”العلاقة الجدلية المركبة بين الفرد والنوع, أو بين مظهري الطبيعة الإنسانية: الفردي والنوعي, للفرد نفسها أو نفسه, والتي تنطوي على جدل الأنوثة والذكورة في الفرد نفسها أو نفسه, هي جوهر العلاقات المتبادلة بين الأفراد, التي ينتج منها المجتمع المدني والمجتمع السياسي, ويتحدد سير التاريخ على إيقاعها. وهيَ في واقعها الفعلي, نتاج معرفة شخصية/معارف شخصية, مستقلة, و مَجْنوسة, يتعاشق فيها الإيروس واللوغوس, الذاتي والموضوعي, فيحدِّدُ كُلٌّ منها الآخَر, ويتحدَّدُ به”. وقد اقترحْتُ في غير دراسة فَهْمَ الوجود الإنساني بوصفه (لوغوس حيوي) ينطوي على الإيروس واللوغوس معاً، و يتجذَّر في مُصطلحي (ليبيدو المصالح) الذي يُدرَسُ عبر مبدأين اصطلحْتُ عليهما بـِ: مبدأ (جدَليّة فَهْمِ المصالح) ومبدأ (المُهيمِنة الحيوية)، وهو الأمر الذي يعضدُ باعتقادي فكرة الباحث هُنا القائلة إنَّ “التركيب الناتج من التعارض الجدلي بين الذكورة والأنوثة في الفرد الواحد, هو الإنسان الفعلي, لا الاسم ولا الصفة ولا المثال ولا المفهوم. فالجدل أو الديالكتيك هو منطق الواقع، قبل أن يكون منطق الفكر. التعارُض المُقيم، بين الذكورة والأنوثة, وجدلهما الذي لا يمكن تجاهله, ولا يمكن حذف أحد طرفيه، هو ما يُعيِّن مدى توازن الفرد والمجتمع وقدرتهما على التحسُّن والتقدُّم”, ومُجاوَزة علاقات “الأطر المُغلَقة كالعائلة والعشيرة والجماعة الإثنية والمذهبية، والحزب العقائدي أيضاً, علاقات بين مَحمولات ثابتة بقوة السلطات الخارجية, التي تغرسها، وتحرسها وتسهر على حمايتها, لأنَّ وجودَها قائمٌ عليها, واستمرارها مرهونٌ بها, وكلها ذات طابع قسري، مفروض من الخارج, يتظاهر في صورة واجبات أخلاقية, هيَ أخلاق الطاعة والامتثال, والاحترام من جانبٍ واحد”؛ إذ إنَّها بهذا المعنى ليست سوى “أخلاق التبعية أو أخلاق العبيد, لأنها تأسست على مبدأ القوة والغلبة, وجدلية الغالب والمغلوب”, وأدارت ظهرها لـِ “العلاقات الناتجة من اتحاد مظهري الطبيعة الإنسانية: الفردي والنوعي, والتي هي ينابيع الخلق والإبداع, فهي علاقات بين ذوات حرة مستقلة, تملك كل منها زمام نفسها وتختار نفسها, وتوجه حياتها الخاصة بإراداتها, وتفكر وتتصرف بمُقتضى طبيعتها، ومُقتضى هذا الاتحاد الطوعي القائم على حرية الإرادة, (…)، مما يؤسس منظومة أخلاقية جديدة, مُختلِفة عن المنظومة السائدة ومُناقِضة لها، يمكن أن نسميها أخلاق الحرية، أو الأخلاق المدنية والقيم الإنسانية”.
ويبدو لي أنَّ هذه الرؤية لا تخلو أوَّلاً من نزعة وجودية عميقة, وتطمَحُ ثانياً _بالتأكيد_ إلى مُجاوَزة الفكر الجوهراني المركزي, وتفكيكه عبر إعادة الاعتبار لوجود الموجود البشري في العالم بغضّ النظر عن تيارات الصراع الفكريّ حول أسبقية الوجود أم الماهية, فالمهم في هذا السياق هو تقييد السلطة المُطلَقة للذات المركزية المُسَبَّقة؛ حيثُ إنَّ مُجاوَزة هذه السلطة المُسَبَّقة، عبرَ آليّات (فَصْمِ الذّات) النّاهِضة قصديّاً على (تحريك الماهيّة)، يُمكِنُ أنْ تستنِدَ فعلاً ومُمارَسةً على ما أصطلِحُ عليه بجدلية (تمويه مُماهاة القَبْليّات)؛ أي التمويه بمُطابَقتها عبرَ مُعايَرَتها, و(ترويض القَبْليّات)؛ أي السَّعي إلى مُجاوَزتها، ليصُبَّ هذا الفَصْمُ الجدَليُّ القصديّ في سياق إعادة الاعتبار لجدلية “الفرد والنوع”, وما يتصل بها من جدلية “الذكورة والأنوثة”، وليُعزِّزَ إمكانيات الانفتاح الإنسانيّ الحُرّ _نحوَ_ المَجهول, وهو ما يدعوه الأستاذ جاد الكريم بـِ “الهُوِية التواصلية” التي تنقضُ المركزيات المختلفة نحوَ فكرٍ “يُفضي إلى اللامركزية، ويُعيد تنظيم الفضاء الاجتماعي والثقافي وفق إحداثيات جديدة كالحرية والمساواة والعدالة, قوامها جدل المعرفة والسلطة؛ أي جدل الفرد والمجتمع, وجدل الفرد والدولة، أو جدل الحياة الشخصية للفرد وحياتها أو حياته النوعية. وهي الجدليات التي تتجلى فيها “أهمية حرية الفرد وحقوق الإنسان والمُواطِن, وأهمية المعرفة الشخصية المُستقلّة”، لـِ “تستعيد (قضية المرأة) مَضامينها الاجتماعية والثقافية والسياسية” , فـَ “الفرق النوعي بين العلاقات المُتبادَلة في الجماعات المغلقة والعلاقات المُتبادَلة في المجالات التواصلية والتفاعلية التي يتشكَّل منها المجتمع المفتوح أو التواصلي، الفرق النوعي بين هذه وتلك أنَّ الأُولى علاقات ثابتة بين مَحمولات ثابتة, والثانية علاقات مُتغيِّرة بين ذوات حرة وخلّاقة تُنتِجُ مَحمولاتها وتتجاوَزها”.
إنَّ نزع أُلفة أساليب وجود الموجود البشري في العالم بوصفِها حركيّة فَصْمٍ قصديٍّ تفاعُليّ لفَهْمِ الوجود وتأويلِهِ بما يُحرِّرُهُ من سُلطة المركزيّات الماهويّة والجوهرانيّة المُسَبَّقة، ليسَتْ سوى أفعال التحاق مُتوالِدة بلا هوادة بما أصطلِحُ عليهِ بـِ (التَّأويليّة المشاعيّة) التي هيَ بسط لقصديّة الفَصْم الذي عرَّفْتُهُ من قَبْل بوصفِهِ مُمارَسة آليّات وجوديّة إجرائيّة تنطوي على تقنيّات قصديّة مُكتسَبة بالدِّربة، ومُتحوِّلة معَ الزمن والتَّراكُم التَّجريبيّ وخبرة الوجود إلى قصديّات واعية وغير واعية، ينغمِسُ بها الإنسانُ المُعاصِرُ عبرَ فعلٍ تخارُجيٍّ جدَليٍّ بينَ مُسَبَّقات ذاتِهِ الوقائعيّة، الأنويّة والموضوعيّة والمَعرفيّة، وذاتِهِ الافتراضيّة المُتباعِدة، التي تطمَحُ إلى التَّملُّص من سُلطة المركزيّات القَبْليّة بما هيَ قَبْليّات تُصادِرُ الانفتاح التَّأويليّ الحُرّ على العالم والمُستقبَل والمَجهول، وتكبَحُ قدرة الذات الإنسانيّة على تفكيك الأنساق الظاهرية المركزية بغيةَ كشف الأنساق المُضمَرة المنسية أو المسكوت عنها أو غير المُفكَّر بها, ولذلك يبدو أن تعقُّب تحوُّلات أساليب الوجود الحيويّة وكينوناتها المُتوالِدة باستمرار يمثل مُحاوَلة فعلية لخَلْق ذات فردية حرة وحاملة المسؤولية الوجودية بوصفها مسؤوليّة تأخُذُ على عاتقها أنْ تكونَ دائماً في مُواجَهة دؤوبة معَ المركزيات البطريركية المُختلِفة, وتسعى إلى تعرية ثُمَّ تحييد “فخّ المساواة”, والخروج من سديمه الخطير بما هو فخّ تجريد المرأة من أنوثتها عبرَ تذكيرها, والذي مرَّ أوَّلاً _وبطبيعة الحال_ بفخّ “تأنيث السلطة البطريركية للرجل نفسه”.
أعتقدُ أن توظيفَ (التّأويليّة المشاعيّة) _بوصفِها آليّة مُتاحةً لكُلّ فرد ذكراً كانَ أم أنثى_ في إطار تفكيك سلطة المركزيات المُختلِفة تُمكِّنُ إلى حد ما من تحقيق التوازن بين القبض على معنىً آنيّ, واللعب الحر للعلامات، من دون النكوص إلى مركزيات جديدة مؤدلجة، وهذا مرتبط كما أرى بحركية الجدل بين (تمويه مُماهاة القَبْليّات) و(ترويض القَبْليّات) مادامَ التعارُضُ والصِّدامُ أصيلاً معَ الذات المركزية بما هي ذات سلطوية ذكورية رمزياً أو واقعياً؛ ذلكَ أنها ذات متسلطة ناهِضة على احتكار المعنى والحقيقة بفعل طبيعتها الشموليّة المُؤسَّسة على المُسَبَّقات التي تُروِّج لها وتعمِّمها بوصفها تمثل “الحقيقة”, وهو الأمر الذي يتطلب موقفاً نقدياً مُعارِضاً أو مُقاوِماً “ضد الحقيقة” كما يقول الأستاذ جاد الكريم, فتفكيك الحقيقة بما هو تفكيك للمركزيات, هو انحياز مفتوح إلى “اللامركزية” يُفضي بالضرورة “إلى إنتاج فضاء عام من الحرية أو حياة نوعية تتعدَّى مجالات (المجتمعات الصغيرة), والجماعات المغلقة, بفعل الحقيقة ذاتها؛ أي بفعل الإرادات الحرة المتساوية للأفراد, والتي وحدها تستطيع تفكيك النظام البطريركي, وتفكيك السلطة المركزية, وفق توزُّع نقاطها في الجسم الاجتماعي, وتفسح في المجال لحرية المقاومة الملازمة لهذه النقاط”, والدَّعوة إلى الاستعانة بالتأويلية الشبكية (ذات المَنحى الجدَليّ) تأخذ في حسبانها بعمق فكرة استحالة حذف السلطة أو الاستغناء عنها, لكنها تُلاقي اقتراحات المُؤلِّف الهادِفة إلى مُجاوَزة المركزيات, كما تنهَلُ من التيارات الفكرية الحديثة والمعاصرة التي عَمِلَتْ على ذلك في العالم, ولاسيما أنَّ أسّ المُجاوَزة يكمن في تخطِّي مركزية الذات التقليدية التي تُعرَّفُ بأنها ما يقوم بنفسه؛ أي الجوهر الذي يقابله العَرَض, فالذات كانت تُطلَق على الماهية, ويُراد بها حقيقة الشيء, ويُقابِلها الوجود, في مَحْوٍ ميتافيزيقيٍّ فادحٍ للاختلاف, واتكاءٍ ثابتٍ على منطق الوعي الأحادي المُؤسَّس على الثنائيات التقابلية الميتافيزيقية.
إنَّ الوفاء لميتافيزيقا الحُضور في الفكر الإنساني كان في اعتقادي وفاءً لمركزية الذات الذكورية البطريركية على حساب نفي الذات الأنثوية بوصفها نقيضاً أو مُحتوىً دونياً؛ إذ احتفظ هذا الوعي دائماً بصفة الفاعلية للذات الذكورية, وبصفة المفعولية للذات الأنثوية, وذلك بما يتأسس أصلاً على فكرة “الحقيقة” بما هي مُطابَقة التعيُّن الذكوري الجوهراني, في مُقابِل “اللاحقيقة” بما هي تمزُّق المعنى الثابت و تشظِّيه وتشتُّته وتباعُده لكونه أعراضاً أنثوية موضوعية يتمُّ التحكُّمُ بها عبرَ مركزية الذات الذكورية الشمولية، وإدماجها (أي للأعراض الأنثوية) في استقرار المعنى وانغلاقه و سكونيته اليقينيّة المُتعالية. ولتحليلي هذا جذران أساسيان في الفكر العالمي أشار إليهما الأستاذ جاد الكريم, أوَّلهما يكمن في الكوجيتو الديكارتي: “أنا أفكر، إذن أنا موجود”, والذي يُمثِّلُ إحدى أهم حلقات ميتافيزيقا الحضور الحديثة والقائمة على سلطة الذات المنطقية العارِفة والمُتحكِّمة بموضوعها بما يحقق التمركُز الآمِن للذكر ليس فقط على حساب شتات الأنثى؛ إنَّما أيضاً على حساب كُلّ آخَر وكُلّ مُختلِف يُهدِّد الوَحدة والمُطابَقة والتعالي بما هي مفاهيم لطالما كانت تحرس السحر الميتافيزيقي لجميع الشموليات.
والجذر الثاني لهذا التفكير المركزي يتصل بالجدل أو الديالكتيك الهيغلي نفسه, فهذا الجدل نظَرَ إلى الآخَرية بوصفها عنواناً للوجود المُتعيِّن والمُتناهي (الموضوع)؛ أي عرَضاً مُتغيِّراً أو مَظهراً من مَظاهِر العقل الكلي اللامتناهي (الذات), ولهذا كان لابد من حماية المركز الجدلي لدى هيغل من خطر تفكُّك الوَحدة الميتافيزيقية المركزية بمَحْوِ التناقض, وإدماجه أو إلحاقه بوَحدة (الأنا والآخَر) الجدلية بما هيَ وَحدة اللامُتناهي الذي لا يقبل الاختلاف, ومن هُنا تمَّتْ إعادة تأكيد سلطة الذات الذكورية المركزية المُتحكِّمة بالموضوعات عبر تثبيت وَحدتها وتجانسها وتناغمها, ونفي المَظاهِر في عالم الأعيان بما هيَ تهديد للبطريركية الأحادية عبر انطوائها على الاختلاف والتعدُّد والتنوُّع, لتظلَّ الأنوثة بهذا المعنى مَطرودةً من نعيم الحقيقة اليقينية التي يَحوزها الذكور بوصفها (أي الأنثى) ليست إلا تشتُّتاً أو تبعثُراً لابد من الاستحواذ عليه وإلحاقه بالمركز البطريركي الكلي, وهو الأمر الذي يُمثِّل نفياً للآخَر و للأُخرى ولكل اختلاف مُمكن لصالح النظام الذي رسَّخه الفكر الإنساني الذكوري.
لعلَّ مُحاولات هسرل في ظاهراتيته كانت من أُولى المُحاولات التي سعت إلى إلغاء الفاصل الحدي بين الذات والموضوع, تلتها مُحاولة هيدغر بالانتقال من قصدية الوعي عند هسرل إلى قصدية الوجود الإنساني في العالم، والتي لا ترى تجاوُراً بين الذات والموضوع, والفرد والعالم؛ إنَّما وجوداً لأساليب وجود هذه الذات في العالم, فلا فاصل بين الذات والموضوع بوصفهما وجود الذات في فَجوة الوجود المفتوحة على التغيير والتحوُّل والاختلاف, وقد تلقَّفَ فلاسفة الاختلاف (فوكو _ دريدا _ دولوز) هذا الطرح أو المَنفذ المعرفي الجديد، وبنوا عليه رُؤاهُم حولَ نَخْرِ المُختلِفِ وتفتيتِهِ لأيَّةِ وَحدة مركزيّة قائمة على ثنائية تقابلية تحتفي بميتافيزيقا الحضور, ومن هذا المُنطلَق فكَّكَ دريدا ثنائية (المركز _ الهامش), وهيَ مسألة يمكن الاتّكاء عليها ليس فقط في إعادة الاعتبار إلى المرأة المُهمَّشة والمَطرودة من نعيم المراكز, بل لكل فرد ذكراً أو أنثى, ولكل جماعة تمَّ نفيها وتهميشها عبر ثنائية (الإيجاب _ السلب) التي تُلحِق الاختلاف بالوَحدة المتعالية اليقينية, وهذه خطوة مهمة للخروج من سطوة “الحقيقة” المُعمَّمة مُسَبَّقاً, ذلكَ أن هذه الحقيقة تُؤسَّس أصلاً عبر مُصادَرة الاختلاف الذي يُمثِّلُ انفصالاً إجرائياً عن الآخَر, يُساعِدُ على بلوغ الرؤية بوضوحٍ كافٍ؛ أي هو انفصال رمزي عن الذات يُمَكِّنُ من مُراقَبة أفعالها, ويدحض وَحدة (الذات _ الموضوع) اليقينيّة المركزية التي لطالما أنتجت ذاتاً مُطلَقة النقاء, ولطالما طمست جميع العناصر التي تتعارض مع مفهوم الهُوِيّة لتحميها من المتغيرات التاريخية عبر التعالي و الانغلاق, وهيَ مسألة وثيقة الصلة بالحفاظ على “اللوغوس” التقليدي بما هو تمركز منطقي يقوم على التفكير التمثُّلي والتصوُّري العقلي للعالم؛ أي على المُطابَقة الإدراكية التي تُصادِرُ بها المدلولات المُسَبَّقة فضاءات الدال الرَّحبة, لكونها تبقى تحت رحمة المُتصوَّر الفكري للذات المُتعقِّلة, في حين أن الفكر المعاصر قد اقترَحَ تحوُّلاً جذرياً لفَهم “الحقيقة” في سياق ظاهري حركي يحتفي بالعالم بما هو مَعيش, وبالوجود البشري بوصفه طرائق وجود متنوعة، وذلك عبر الحديث عن لوغوس عيانيّ بصَريّ يُنقِذُ الدال من حصار المدلولات القَبْليّة العقلانية, ويفتح تجربة الحياة الإنسانية في فَجوة الوجود بوصفها فَجوة كشف لأساليب جديدة تتغايَرُ وتتباعَدُ وتختلِفُ عند كل انفتاح, مُتجاوِزةً حيِّزَ الثنائيتين التقليديتين لـِ (الحقيقة _ اللّاحقيقة) , و(الذات _ الآخَرَ).
تتوخَّى (التأويلية الشبكية) أنْ تكونَ _كما ذكرْتُ سابقاً_ انتخاباً كشفياً نسبياً ومُتحوِّلاً، وأنْ تُمارِسَها الذاتُ الموجودة في العالم في كل لحظة انفتاح جديدة لفَجوة الوجود بوصفه انفتاحاً لعالم لم يكن على هذا النَّحْوِ من قبل, واختباراً حدسياً للمعنى في سياق ظاهري وجودي تجريبي, لتأخذ “الآخَريّة” بدلالة اللوغوس البصَري بما هو (لوغوس حيوي جديد) صفتها بوصفها (أي الآخَريّة) حسب الأستاذ جاد الكريم “مُختلِفة عن الصيرورة, فهي مقولة أكثر عينيّة و أكثر اكتمالاً من الصيرورة، وإنْ تكُن مُندرِجة فيها، (…)؛ ذلكَ أنَّها انتقال الذات إلى الآخَر وبالعكس. الصيرورة خَلْق وانعدام مُتواتران, والآخَريّة تغيُّر الكيف أو الماهية باطراد”. وهذا ما يُفضي إلى فَهمٍ مُغايرٍ لصلة الذات بالموضوع عبر إشارة المُؤلِّف إلى “الوضعية الإيجابية” بوصفها “عناية بالموضوع, أو عناية بالأشياء، لا تُقلِّلُ من شأنها، ولا تغضُّ من قيمتها, أو تتنكَّرُ لأهميتها. ولكنها تشير إلى الفرق بين الوضعية الإيجابية، بصفتها لحظة من لحظات الديالكتيك, تُقابِل الكينونة، بصفتها لحظة من لحظات الصيرورة”.
وهكذا تلتقي جميع هذه السياقات، لتؤكد أنَّ فكرة تفكيك المركزيات السلطوية لا يمكن أن تتحقق إلا بمُجاوَزة (الثنائيات التقليدية) بوصفها أساساً لميتافيزيقا الحضور التي تمنَحُ الذاتَ المركزيّة سلطة مُطلَقة, وتنزَعُ كامِلَ الحقوق عن ذاتٍ آخَريّةٍ يتمُّ تحويلها إلى موضوعٍ تتحكَّمُ به، وتحضرُهُ، وتدمجُهُ بتعاليها ووَحدتها, ولهذا نجد المُؤلِّف في موضوعه المحوري في الكتاب يدعو إلى مُجاوَزة ثنائية (الذكورة _ الأنوثة) عبر النظر إليهما بأنهما شكلان من أشكال الطبيعة الإنسانية عند الذكر والأنثى في آنٍ معاً, حيث يرى أنَّ “الفروق الجنسية (البيولوجية) وفروق الجُنوسة (الاجتماعية والسلوكية) كلها نسبية، وقابلة للمُلاحَظة والقياس بِنيةً ووظيفةً، باستثناء شكل الجهاز التناسلي, لا وظيفته، التي لا تتحقق إلا بتضافر الأنوثة والذكورة, وتضافر جميع الأجهزة الحيوية الأخرى. إنَّ قابلية الفروق للقياس الكمي هي ما يؤكد كونها فروقاً نسبية”، فـَ “مَعنى الأنوثة لا يُطابِق مَعنى المرأة, فيستبعد الذكورة من بِنيتها. ومَعنى الذكورة لا يُطابِق مَعنى الرجل، فيستبعد الأنوثة من بِنيته. هذا أمر غاية في الدقة والأهمية، يدلُّ تفويته على اختلاط في الوعي وتشوُّش والتباس في المعرفة. ومن ثم، فالخصائص التي تنسب إلى الأنوثة ليست خصائص المرأة حصراً، ناهيك عن المرأة س أو ص أو ع. والخصائص التي تنسب إلى الذكورة ليست خصائص الرجل حصراً, ناهيك عن الرجل س أو ص أو ع”.
وفي المَنحى نفسه، يرى المُؤلِّف أنَّ “الموضوعية غِياب؛ والذاتية حُضور؛ وأنَّ الديالكتيك هوَ منطق الحُضور, ذلكَ أن “الغِياب هو شرط إمكان الحُضور وشرط انبثاقه, فالحُضور، من أحد وجوهه، هو مخض الغِياب، أو خضّ الغِياب. الحُضور مَخاضات مُتجدِّدة لولادات متجددة”، وبهذا المَعنى الناهِض على جدلية الاختلافات، “لا يُطابِقُ الفردُ نفسه في كل حين, ولا يُطابِقُ المجتمعُ نفسه في كل حين”, ذلكَ أنَّ العلاقات الاجتماعية هي “علاقات مركبة موّارة ومتغيرة واحتمالية, هي علاقات بين أفراد مختلفين وجماعات مختلفة أو بين قوى حيوية بالمعنيين البيولوجي والوجودي”, ولهذا يكون الحُضور حسب دريدا رهينة مرئية، وما الغِياب إلا ظلالها العميقة, الغائِصة في مُحيط مُضطرب واسع لا قاع له ولا شواطئ, وهذا المحيط هو المدلول المُنفتِح دائماً بفعل القراءة. وأرى أنَّ استخدام الأستاذ جاد الكريم لعبارة “قوى حيوية” قابِلٌ للفَهْمِ _وفقَ اعتقادي_ بناءً على النَّظَر إلى هذهِ القوى بوصفِها هُوِيّات انفتاح كينونة مصالح الإنسان _سواء أكانَ ذكراً أو أنثى_ انفتاحاً حراً لماهيَّته _نحوَ_ المجهول, بما يُعلِي من مُمكنات وجود الكائِن الحُرّ في عالمه, فالإنسان حسب المُؤلِّف “هو مَنظومة زمكانية, ومَجال حيوي يؤثر في/ويتأثر بغيره من المَجالات, وحياته سلاسل مُتداخلة ومُتآثرة من أحداث عضوية ونفسية/ذهنية, تحدثُ على غير اطراد, ولا تتكرر أي منها بحذافيرها مرتين”, وليسَ هُناك “حتمية وراثية أو بيولوجية تتحكَّم بحياة الفرد, فعمَل الجينات والكيمياء الحيوية بوجه عام نتيجة لسلوك الفرد ونشاطه وإرادته الحرة وتفاعله مع بيئته الطبيعية والاجتماعية, أكثر من كونها سبباً”, ولهذا لا يمكن أن تكون الجينات “ذكرية خالصة أو أنثوية خالصة, لو كان الأمر خلاف ذلك لانتفى الاختلاف والفرق, ولانتفى التعارُض الذي يُولِّد الحركة”.
إنَّ احتفاء الكاتب بالاختلاف مُؤسَّساً على مُجاوَزة الثنائيات التقابلية التقليدية, يدفعه إلى تجذير فكرة الاختلاف نفسها في حركية الديكالكتيك التي يتجاوَزُ بها ثنائية (الفرد والنوع) وثنائية (الذكر والأنثى) , فـَ “(الأنا) هيَ أو هوَ شكل الكينونة الإنسانية, بالمعنيين الطبيعي والمدني, اللذين أشرنا إليهما، والذات مَضمون الكينونة ومُحتواها أو جوهرها، أو روحها. ومن ثم فإن وَحدة الشكل (أنا) لفظاً ورسماً وفرديته تدلُّ على وَحدة المضمون وفرديته, فتغدو الوَحدة هي موضوع النقاش: هل هي هُوِيّة الاختلاف أم هُوِيّة التجانُس والتماثُل, أم هي هذا وذاك في الوقت نفسه, وهو ما نقترحه ونميل إليه في ضوء رؤيتنا للديالكتيك ومعنى الكينونة. هذه الرؤية تنطوي على نقد الكوجيتو الديكارتي نقداً ينقل الأنا (الفكر أو الوعي) من مَجال الوجود (المُجرَّد) إلى مَجال الكون (المُشخَّص)، بما هو وجود مُتعيِّن هنا والآن: أنا أفكِّر كينونتي, تقولها المرأة مثلما يقولها الرجل”.
وقد تلتبسُ على القارئ المُتمعِّن دعوة المُؤلِّف هُنا إلى وَحدة هُوِيّة الاختلاف مع هُوِيّة التجانس والتماثُل في إطار جدلي (ديالكتيكي)، فيبدو الأمرُ للوهلة الأُولى كأنَّهُ نكوص وعودة إلى مبدأ الوَحدة والمُطابَقة، وانحرافاً عن فكرة “الاختلاف” التي لا ترى الوجود إلّا بوصفه انفتاحاً يُفتِّتُ الحقيقة الذاتية المركزية المغلقة, ولا سيما أنَّ الأستاذ جاد الكريم يدعو في الوقت نفسه إلى “اللامركزية”؛ لكنَّهُ على ما يبدو قد آثر أن يُوجِد توازناً حذراً بين تشظي الذات المطلق والمفضي في الفكر المعاصر إلى خسارتها، وحرصه على تخليق ذات مدنية فاعلة مرتبطة بتوجهه العام في كتابه هذا بالسعي إلى تمكين ما يمكن أن أدعوه (إنسيّة ديمقراطية) تحتفي بالاختلاف من دون أن تخسر فعاليتها، وهوَ ما يُحقِّقهُ عبرَ الجدل الذي يمنَعُ أيَّ توضُّع أو تعيُّن مُنبسِط من الاستقرار النهائي في ضوء حركيّة (نسبية) لا تتوقَّف عن تفكيك الانسجام والتجانس في كُلّ حُضور جديد، لذلك نجده يقول إنَّ ما يمكن أن يعترض إمكانية النقد “هو صعوبة التحرر من الطابع النسقي للوعي والمعرفة, على صعيد الأفراد والجماعات، ما يعني أن نقد أنساق الوعي والمعرفة لا يأتي من داخل كل منها، بل من خارجه, وما يجعل التواصل والتبادل أو التأثير والتأثر شرطين ونتيجتين في الوقت نفسه”.
وفي هذا المضمار، سعيْتُ من جهتي _في كتابات مُختلِفة سابقة_ إلى مُحاوَلة حلّ إشكالية (المُطابَقة والاختلاف) عبرَ إحلال ما اصطلحت عليه بـِ (هُوِيّة جدليّة نِسْيَاقيّة) جديدة تحتفي بعالم (النِّسْيَاق) بوصفه عالماً يتجاوَزُ أوّلاً مفهوم (السِّياق) الوقائعيّ الخارجيّ القائم على تعالي (مركزية الذات)، وتحكُّمِها السُّلطوي العُنفيّ المُسَبَّق بالعالم/الموضوعات, ويتجاوز ثانياً مفهوم (النَّسَق) الداخليّ الكُلِّيّ القائم على انفصال عن العالم يحتفي بـِ (مَحو الذات)، وإلحاقِها العُنفيّ المُسَبَّق بعقل كُلِّيّ غير واعٍ. ودعوْتُ في هذا الإطار إلى الانغماس في ما أُسمِّيه بـِ (حركيّة الجدل التَّخارُجيّ المُتراكِب) التي تُمثِّلُ الحركيّةَ القصديّة الفعليّة لـِ (فَصْم الذّات) الذي يتجاوز إخفاقات الحداثة التي نهضَتْ على أُسُس فَهْمٍ وتأويلٍ لنصّ الوجود يُمكِنُ وصفها بأنَّها أُسُسٌ استبدادية مُهترِئة, وهذا يلتقي هُنا أوّلاً مع دعوة المُؤلِّف إلى نقد الحداثة انطلاقاً من ضرورة تفكيك استراتيجيّة السيادة والاستقلال التي أنتجَتْ ذواتاً خاضِعة وتابِعة ومُتخلِّفة, أو بكلمة واحدة: مؤنثة, ويلتقي ثانياً مع تعميق طموحه بمُجاوَزة ثنائية (الداخل _ الخارج) التي أسَّسَ لها فلاسفة كثيرون كما ذكرت من قبل, وذلكَ عندما يطرح “إشكالية الوعي والوجود”، على “اعتبار الوعي هو الوجود مُدْرَكاً على نحوٍ ما؛ ويقتضي التفريق، لا الفصل، بين عالم الفرد الداخلي، وعالمها أو عالمه الخارجي؛ أي بين العالم وصورته في ذهن الفرد, وهو تفريق ضروري لتأسيس نسبية الحقيقة”، فالعلاقة بين الوعي والوجود تتجلى لدى كل فردٍ على حدة، ذلك “أنَّ الفرد (منظومة حية) بالغة التعقيد، تبادلية وتواصلية, تتوقف طبيعة عملها ونشاطها على سائر المنظومات الأُخرى الحيّة وغير الحيّة”، وثمّةَ “علاقة جدلية بين تنظيم الحياة الداخلية للفرد، وتنظيم حياتها أو حياته الخارجية, أو تنظيم عالمها وعالمه, والتنظيم في الحالين ذاتي المنشأ، يتجلَّى في أشكال موضوعية مختلفة. من دون فَهم هذه العلاقة لا يمكن إدراك وجوه التشابه ووجوه الاختلاف بين حياة الفرد الخاصة وحياتها أو حياته النوعية (العامة)، في نطاق الجماعة والمجتمع “.
وهكذا يمكن القول إن الخلل العميق الذي أصابَ الحياة العامة في سورية بالعطالة والخمود وانعدام الوجود الحُرّ الأصيل والخلّاق يكمنُ في غياب الفردية في ظل تغوُّل الجوهرانية السلطوية الكلية على الذات التي افتقدت إلى عنصر “المُبادَرة” الفاعلة بوصفها حسب ريكور هي الحاضِر الحيّ الفعّال العمَلي, فهي آنُ اليوميّة المحوريّ بما هو أوّل نموذج للبداية، وهذه المُبادَرة هي ما تجعل (الذات _ الفرد _ المُواطِن) وفقَ اصطلاحي (مُبادِراً حيويّاً حُرَّاً)، يستطيعُ أنْ يقذفَ بوجودِهِ _نحوَ_ الانبساط في (هُوِيّة جدليّة نِسْياقيّة)، وأنْ يختبِرَ بلا هوادة مدى صلاحياتها الوطنية _إذا خصَّصنا الكلام هُنا عن سورية_ عبر (تأويليّة مشاعيّة) يُمارِسُها كُلُّ فردٍ أو مُواطِنٍ ذاتيّاً لاستبعاد ما يَحُول دون ولادة مجتمع حيوي مدني، والسعي إلى اعتماد الخيارات الجامِعة والمُبدِعة والمُنفتِحة على الحرية والمستقبل، وهو حسب الأستاذ جاد الكريم ما يتمُّ بتحقيق التوازن الديالكتيكي للذات بين الداخل والخارج من ناحية أولى , وبين الحياة الفردية والحياة النوعية من ناحية ثانية, وذلك في ظل سطوة البنية التسلطية البطريركية بمركزيتها التي تُعمِّق “التأخُّر التاريخي” الذي “لا يتظاهر في التأخُّر الإيديولوجي والسياسي, أو في تأخر الوعي والفكر فقط, بل يتظاهر، قبلَ ذلك، في صلابة البِنى البطريركية التي تهدر إنسانية الفرد”، عبر “الطابع القطيعي (الجماهيري) للحياة العامة في سورية”, وتعطيل الانتقال الحقيقي “من الرعوية إلى المُواطَنة ” لمُجاوَزة “فخّ المساواة” التي لم تكن سوى مساواة “في التبعية والخضوع”.
إنَّ المجتمع السوري حسب المؤلف “أخذ يستعيد بعضاً من قوته السياسية أو رأسماله الاجتماعي والرمزي, تدريجياً مذ وفاة حافظ الأسد، عام 2000″، حيث “صدر بيان الـ 99، وقَّعه مثقفون رسموا فيه ما يشبه خريطة طريق للإصلاح السياسي, وفي عام 2001 صدرت وثيقة لجان إحياء المجتمع المدني, التي سُمِّيتْ بـِ (بيان الألف)، وانطلقت بعدها حركة المنتديات وجمعيات حقوق الإنسان وتمكين المرأة وبعض التظاهرات و الاعتصامات وحركة ثقافية وسياسية نشطة شملت جميع المحافظات, شاركت فيها الأحزاب السياسية المعارضة العربية والكردية والأثورية” ضمن ما دُعِيَ “ربيع دمشق” الذي انقضَّتْ عليه السلطة عبر إجراءات مختلفة مُنهِيةً حقبة مُضيئة كان يُؤمَلُ منها أن تُفضِيَ إلى انتقالٍ سياسي سلمي في سورية. لكنَّ هذه التجربة أظهرت بشكل جليّ بقراءَتِها في ضوء إعادة “توحيد السلطة ومصادر القوة, ثم احتكارها، ثم انقسامها, واقتسامها ثانيةً” (أي بعد عام 2000)، أنَّ دورة حياة النظام قد اكتملت: “من التشظي, أو الانقسام والاقتسام، إلى الوَحدة, ثمَّ إلى التشظي والاقتسام من جديد”, لتأتي الثورة السورية عام 2011 وتكشف أنَّ ما يجري الآن في سورية “لا يعدو كونه شكلاً من أشكال تشظي مصادر القوة و تشظي السلطة وانكشاف جذرها الأصلي بوصفها علاقات قوة عارية, فضلاً عن تزعزع منظومة الولاء إن لم نقل انهيارها”؛ ذلكَ أن الثورة السِّلْميّة، التي فجَّرها شباب سورية وشاباتها، كانت ثورة الجزء المُهمَّش من المجتمع الحكومي، غير المتشبث بحكوميته, والذي ينشد الحرية؛ أي إنها ثورة من داخل المجتمع الحكومي نفسه؟ وإنَّ هذه الثورة التي هزَّتْ أركان السلطة، أخرجت المجتمع التقليدي أو الجماعات التقليدية، من الظل, وبعثت الحياة في أوصاله وأوصالها, فخرَجَ ينشد الكرامة”.
لكنَّ المُؤلِّف يعتبر أن ثورة الحرية هذه التي واجهها النظام بالعنف، قد نجح بالإجهاز عليها عبر نقلها إلى حالة الصراع المسلح الذي دفع ناشطاتها وناشطيها إلى الصفوف الخلفية، وإلى العمل الإغاثي والإعلامي, في ضوء انطلاق حرب تقودها جماعات تقليدية بتشكيلاتها المُقاتِلة, إلى جانب شريحة غير قليلة ممَّنْ أطلق عليهم مصطفى حجازي اسم “شباب الظل” الذين حُرموا من التعليم وفرص العمل اللائق, ولهذا يقولُ المُؤلِّف إنَّ “الثورة السلمية (الشابة) التي أُجهضَت, والحرب الدائرة اليوم ظاهرتان مختلفتان؛ الأُولى تُعبِّر عن إرادة الحرية, والثانية تعبر عن إرادة السلطة والصراع عليها”.
من جهتي أخشى أن يكون الأستاذ جاد الكريم قد وقَعَ في هذا التحليل الأخير في فخّ إعادة إنتاج ثنائية ميتافيزيقيّة حدِّيّة، تُناقِضُ المنطق الجدلي وديكالكتيك الصراع الذي تنهَضُ عليه الثورات، وتبسطُ رؤىً يقينيّة مُسَبَّقة ومَشوبةً بخطر تعميم فكر الحتميّات! صحيحٌ أنني _أنا وهوَ_ نتشاطر الموقف الذاتي المبدئي والأخلاقي في رفض الحروب وكوارثها، ونتطلَّعُ إلى ذلكَ اليوم الذي تطوي فيه البشرية هذه الخطيئة الأصلية التي لا تزال تُكرِّرُها على مَرِّ التاريخ إلى غيرِ رجعة, ولكنَّ هذا لا يعني أن نتجاهَلَ الشروط الموضوعية الكلية لحركية المستويات الوقائعية والتاريخية؛ إذ إنَّ فائض العنف الذي مارسته السلطة في قمع الثورة السلمية, كان لابد أن يُفضي _منطقياً وحيوياً وأخلاقياً_ إلى حمل السلاح, الذي كانَ استجابة تلقائيّة وثوريّة ووطنيّة على الأقلّ في مرحلة الانشقاق عن الجيش، وبالتأكيد من دون أنْ نتجاهل الأصابع المُختلِفة التي تلاعبت في هذه القضية في مَراحِلَ لاحِقة. يُضافُ إلى ذلكَ أنَّنا نعرف أن شرعة حقوق الإنسان تعترف أصلاً بحق الشعوب في الدفاع عن نفسها بكافة الوسائل المُمكنة عندما يكون وجودوها الحيوي و الكياني مُهدَّداً, والمُؤلِّف نفسه يرى أن “الكشف النهائي الذي تقدمه لنا الأحداث الراهنة يُبيِّنُ أنَّ المُؤسَّسة العسكرية _ الأمنية أو (مُؤسسة الحرب والإرهاب), على النحو الذي انتهت إليه في حربها السافرة على الشعب, هي النواة الصلبة للبِنية التسلطية ومصدر مشروعيتها الفعليّة, وأنَّ وظيفتها الأساسية، إنْ لم نقل الوحيدة، هي حماية النظام، بما هو نظامها، و(الدولة) بما هي دولتها، والاقتصاد بما هو(اقتصاد حرب_ها) على المجتمع”.
وكي يكونَ تمحيصي هذا أكثر تعمُّقاً, ولاسيما فيما يخصُّ نقدِي للثنائية الميتافيزيقية الحدِّيّة التي افترَضَها المُؤلِّف بين “الثورة السلمية” بوصفها تعبيراً عن “إرادة الحرية”، و”الحرب” بوصفها تعبيراً عن “إرادة السلطة والصراع عليها”, أقولُ إنَّ هذا الفَهْم الذي قامَ على رؤية تجريدية مُنفصِلة إلى حد كبير عن المعطيات التَّخارُجيّة التّاريخيّة التي تُمثُّلها الثورات بوجهٍ عام, والثورة السورية بوجهٍ خاص, قد نفى الأبعاد الديالكتيكية ليسَ فقط من حيث هيَ أسّ الصراع المُنبسِط في الصيرورة؛ إنَّما بوصفها محور تفتيت أيّة وَحدة مركزيّة مُتعالية، إذ علينا ألّا نتناسى انفتاح أية حركية جدلية على كافة احتمالات الصراع الوجودية المُتباعِدة, ولاسيما أنَّ المُؤلِّف نفسه يرى أيضاً أنَّ “الفوضى شقيقة الحرية, مهما تكن مظاهرها قاسية”, و”أنَّ البلاد تعيش مرحلة انتقالية من أبرز سماتها الفوضى”؛ إذ إنَّهُ “في الحالة الانتقالية تتأسَّسُ قواعد الحياة الاجتماعية القادمة ومَبادؤها, وقواعد السلطة ومَبادؤها, أو تتشكَّل ملامح المجتمع المُمكن والدولة المُمكنة”.
وفي هذا الإطار، أعتقد أنَّ مُجاوَزة ثنائية (الثورة السلمية _ الحرب) ضرورة يفرضها أوّلاً تلاقي الطرفين _إذا فصَلنا بينهما نظَرياً لا وقائعيّاً_ في فعل تفكيك مركزية السلطة الاستبدادية البطريركية؛ إذ لا نستطيع أن نقول أن (الثورة السلمية) مثَّلَتْ (إرادة الحرية), ولم تنطوِ بطبيعتها _أي بوصفها ثورةً أصلاً_ على مفهوم الصراع على (السلطة)، وفي المُقابِل لا نستطيع أنْ نقول إنَّ (الحرب) لا تنطوي بالمُطلَق على (إرادة الحرية)، ولا سيما أنَّها في جانبٍ أساسيٍّ من دوافعها الأصليّة قد تولَّدَتْ بوصفها دفاعاً مشروعاً عن الوجود نجَمَ عن إحساس عميق عند المُجتمَع السوري بالتَّهديد المَصيريّ والكيانيّ خلَقَهُ أوّلاً فائض عُنف السلطة في مُواجَهة الثورة السلميّة، وكان لهُ جذورُه القديمة المُتراكِمة بطبيعة الحال خلال عُقودٍ طويلة سبقَتْ الحدَث الثوريّ _وإن كان يمكن وصف الحرب بالاتّكاء على استعارة إسلامية هُنا بأنَّها أبغض الحلال في الثورات_.
صحيحٌ أن لكلام الأستاذ جاد الكريم جانباً من الصحة عندما يرى أنَّنا “في غمار الحرب الدائرة, إزاء مجتمع يثأر لنفسه من غدر أولاده وبناته به”, وأنَّهُ “من البديهي أن تستخدم الجماعات التقليدية كل ما تبقى لها من أسلحة, وكل ما يمكن أن يمدها بالقوة, بعد أن خذلتها الأحزاب السياسية كافة, وكذلك النقابات والتنظيمات (الشعبية) الأُخرى, (أي بعد أن خذلها أولادها وبناتها). ومِنْ أكثر هذه الأسلحة مَضاءً العصبيات العشائرية الإثنية والمذهبية”, لكنْ في الوقت نفسه لا بد من التساؤل عن مدى دقة هذا التوضُّع الحاسم الذي يرى أن ” الثورة السلمية” كانت نتاجاً للشباب والشابات من الناشطين والناشطات المُنتمين إلى المجتمع الحكومي, والحائزين على وعي ثقافي ينشد الحرية, وتمَّ الانقضاض على هذه الثورة بالحرب التي تقوم بها “جماعات تقليدية” ينتمي أغلب عناصرها إلى “مجتمع الظل” الذي يواجه سلطة الاستبداد البطريركية بآليّات استبداديّة بطريركيّة مُقابِلة, حيث إنَّني أجد أن الفواصل الحدِّية بين “شباب المجتمع الحكومي” الذين ثاروا سلمياً, وشباب “مجتمع الظل الذين حملوا السلاح” واهية وغير قابِلة للضبط المعرفيّ الواثق؛ ذلكَ أنَّ من نافل القول أنْ نُشيرَ إلى مُشارَكة قاعدة واسعة من شباب “مجتمع الظل” في المرحلة السلمية، ومُشارَكة أعداد كبيرة من شباب (المرحلة السِّلميّة) في حركية الصراع الحربي إن في حمل السلاح، أو حتّى في الدعم اللوجستي إغاثياً وإعلامياً ومدنياً بما هوَ في عُمقِهِ احتضانٌ لحَمَلة السِّلاح، وانغماسٌ في (الحرب)، وهوَ الأمر الذي يدفعُني إلى تأكيد تراكُبيّة الحدَث الثوريّ وجدليَّته أفقيّاً وعموديّاً من جانبٍ أوّل، ولا أنفي من جانبٍ ثانٍ ضرورة اختبار مدى صلاحيّة بعض المُهيمِنات المحوريّة في تحليل هذا الحدَث وفَهْمه، ولذلكَ نُلاحِظُ أنَّ المُؤلِّف نفسه قد حاولَ _بعد أن أطلقَ حُكماً شبه مُطلَق بخصوص مرحلتي الثورة السلمية والثورة المسلحة_ أنْ يتركَ الباب مُوارِباً بعضَ الشيء عندما قال إنَّ “الإشكالية، في أعمَق مُستوياتها هيَ إشكالية العلاقة بين إرادة الحرية وإرادة السلطة. والإرادتان كلتاهما من خصائص الإنسان, أيّاً كان موقعه الاجتماعي أو السياسي, وأيّاً كان مستوى وعيه الثقافي. الفرق بين إرادة الحرية وإرادة السلطة, أو بين الثورة السلمية والحرب, على ما بينهما من التباس وتداخُل, يُعزِّز فرضية الانقسام الشاقولي بين مجتمعين, (…) ويطرح إمكانية رؤية جديدة للثورة السلمية, ويكشف عن آليّات تشكل الثورة المضادة وشروط إمكانها. ولا مراء في أن إرادة الحرية أجَّجت إرادة السلطة لدى المجتمعين كليهما, وإرادة السلطة, في أوضاعنا, هي إرادة الحرب, مادامت لم تؤخذ إلا بالقوة العسكرية”.
على كل حال, أكرِّرُ هُنا تأكيد الدعوة إلى رؤية كلية للأحداث الراهنة لا تنفصِلُ عن الهُنيهات العابِرة المُتحوِّلة من ناحية أُولى, وإلى التفاؤل التاريخي من ناحية ثانية بإمكانية انفتاح فَجوة الوجود على حركيّة اختلاف وتعدُّد وإغناء _أجِدُها قد بدأتْ تتحقَّقُ مهما كانت أثمان الحرب باهظة وكارثيّةً_، وقد تُفضي إلى تمزيق جميع المركزيات السلطوية البطريركية التقليدية والحاكمة في سورية, نحوَ السير في طريق تحرير الرجل والمرأة معاً من قبضات التأنيث والتذكير وفخّ المساواة, بغيةَ الوصول إلى تخليق بِنية (إنسية ديمقراطية) مُعاصِرة. ولهذا لا أجد مناصاً من الإشارة من جديد إلى أهمِّية العمل على تفكيك سلطة الذات المركزية المُتحكِّمة بالموضوعات والآخرين, بما هوَ (أي هذا الفعل التفكيكي) آليّات عمَل تسعى إلى مُجاوَزة ثوابت الحداثة اليقينية المُتعالية عبرَ توظيفِها في مُختلَف الحقول الوجودية لحياتنا الحالية بوصفنا سوريين ننتمي إلى فضاء ثقافي عربي وكوني في آنٍ معاً, وهوَ فضاء لا يزال يُعاني من سطوة المنطق الميتافيزيقي الجوهراني الذي تحتاج خلخلتُهُ _في اعتقادي المَعرفي_ إلى فكرة (تحريك الماهية) بما هيَ أُسّ الحركيّة الجدليّة النِّسْياقيّة الفاصِمة للذّات، والتي هيَ حركيّة ولادة الإنسان (المُبادِر الحيويّ الحُرّ)، والقادر ذاتيّاً على مُمارَسة دؤوبة ودائِمة لأفعال (التَّأويليّة المشاعيّة) بغيةَ نزع أُلفة أساليب وجودِهِ في العالم، ومُجاوَزة منطق الثنائيّات الميتافيزيقيّة، وفي مُقدِّمتِها ثنائية (الحقيقية _ اللّاحقيقية), وهوَ الأمر الذي يتعمَّقُ إجرائيّاً بالاحتفاء بتقنيّات قصديّة مُكتسَبة بالدِّربة، ومُتحوِّلة معَ الزمن والتَّراكُم التَّجريبي وخبرة الوجود إلى قصديّات واعية وغير واعية، يُمارِسُها هذا (الإنسانُ/المُبادِر) المُعاصِرُ، والذي يتَّكئُ فعلُهُ الجدليّ التَّخارُجيّ على مَبدأي (جدلية فَهم المصالح) و(المُهيمِنة الحيوية) بما هما آليّتان مُترابطتان مُمارَسةً مع جدلية (تمويه مُماهاة القَبْليّات) و(ترويض القَبْليّات).
لعلَّ (التَّأويليّة المشاعيّة) لا تكتفي في أفعال فَهْمِها لفَجوة وجود (اللوغوس الحيويّ) بكشفِ كيفيات أو أساليب انبساط (ليبيدو المصالح) فحسب؛ إنَّما تهدفُ عبرَ طُموحِها البالِغ بإعادة الاعتبار للعلاقة بين (الذكورة والأنوثة)، وإعادة الاعتبار إلى علاقة (الفرد والنوع)، للتّأثير المُتبادَل مع هذا الليبيدو، وذلكَ بتحرير (الهُوِيّة النِّسْياقيّة التَّخارُجيّة) بوصفها هُوِيّة مُجاوِزة للمنطق المركزيّ البطريركيّ في الوجود؛ أي بوصفها هُوِيّة انفتاح كينونة مصالح الإنسان _ سواء أكان ذكراً أم أنثى_ انفتاحاً حُرّاً لماهيَّته _نحوَ_ التَّحوُّل والتَّغيُّر والمَجهول. ليكونَ فعلُ فَصْمِ الذات بهذا المَعنى، هوَ نفسه فعل تحقيقها كيانيّاً؛ أي بما هوَ (انقلابٌ قصديّ تجريبيّ) على فخّ المُساواة المركزيّة عبرَ اقتراح (مُساواة تأويليّة جديدة)، تتجاوَزُ أوَّلاً الخطاب السُّلطوي المُجَنْسَن بإحلالِ مشاعيّةِ الإرادة الفرديّة الحُرّة، وتُعيدُ في حركيَّتِها الجدليّة التَّراكُبيّة ثانياً تخليق ليبيدو المصالح الحيويّة في الوجود إلى ما لا نهاية.
ورُبَّما أستطيعُ أنْ أختتِمَ مُقارَبتي هذه بالقول بنوعٍ من الثِّقة إنَّ كتاب المُفكِّر جاد الكريم جباعي هذا _الذي حرَّضني على دفع بعض الاقتراحات المَعرفيّة التي ما زلتُ أعمَلُ عليها منذ فترة إلى هُنا_ ينطوي على رُؤىً ثاقِبة ومفاتيحَ غنيّة لتفكيك ثقافات “تأنيث الرجل” و”تذكير المرأة” ومُمارَساتها في البِنى المركزيّة البطريركيّة القارّة والمُهيمِنة، وذلكَ بوصف هذهِ المُمارَسات جُملة من تمظهُرات إرادات القوى التي ينبغي مُواجَهتَها ومُقاوَمتَها على كُلِّ الصُّعُد، وهوَ ما يبسطهُ هذا الكتاب القيِّم ليكونَ مُقدِّمةً مُتماسِكة وفريدة، تُواكِبُ فكريّاً، وتدعو عمَليّاً، إلى إسقاطِ جميع أنواع الاستبداد في حياتنا الخاصّة والعامّة.
دمشق في حُزيران/يونيو 2016.
شاعر وناقد سوري