تفكيك حكم الحزب الواحد لا يكفي
عمر قدور *
معبّرة عن الواقع المخاوفُ التي يطرحها حازم صاغيّة، في مقاله «أين تكمن المؤامرة؟» («الحياة»، 14 حزيران/يونيو 2011). ولا شك في أن المدخل الذي يقترحه للإصلاح في سورية، أي الشروع بتفكيك حكم الحزب الواحد، هو بمثابة الشرط الضروري ولكن غير الكافي. وربما كان طغيان المطالبة بتعديل المادة الثامنة من الدستور، التي تنص على قيادة البعث للدولة والمجتمع، يُبرز هذه المادة على حساب نصوص دستورية أخرى بات التخلص منها ضرورة قصوى للشروع في الإصلاح.
بوسعنا القول إن حضور البعث في الحياة السياسية السورية صار ملتبساً منذ عقدين أو أكثر، فلا هو بالحضور الوازن والفاعل على المستويات العليا من القرار ولا هو غائب عن المستويات الدنيا، بخاصة المناطقية منها. فالبعث بهذا المعنى أضحى احتياطياً يُستدعى في المناسبات، ولا يعدو كونه مجرد غطاء لمراكز الحكم الفعلية. بالتأكيد لا تزال الأسس القانونية لدولة البعث موجودة وينبغي إزالتها، ولا تزال الهياكل التنظيمية المنبثقة عنها حاضرة وإن أصابها الترهل، أما هيمنة الحزب كما هو حال الدولة الشمولية فهذا لم يعد قائماً في سورية، لذا يبدو وصف «دولة البعث» وصفاً مفارقاً للواقع، ويُخشى من تداوله أن يحرف الاهتمام عن أسباب جوهرية أخرى للأزمة الحالية.
يعود بناء هياكل البعث إلى العقد الأول من حكم الرئيس حافظ الأسد، حيث استلهم الحكم تجارب الشموليات الاشتراكية عموماً، مع أفضلية ربما للتجربتين الرومانية والكورية الشمالية لما فيهما من هيمنة كبيرة للحاكم الفرد. هكذا تم إنشاء منظمات رديفة للحزب بدءاً بمنظمة «طلائع البعث» التي يُجبر الأطفال على الانضمام إليها منذ سنتهم الدراسية الأولى، وكان يُفترض بهذه التنظيمات أن تشكّل مركز قوة مستدامة للنظام، لكن تجربة المواجهة مع الإخوان المسلمين في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات أثبتت أن مناعة الحكم تكمن في أجهزته الأمنية والعسكرية، مع بقاء الأطر التنظيمية الأخرى ضمن الماكينة الإعلامية للنظام لا أكثر. ويجوز القول إن الجيل القيادي من البعث الذي عايش مرحلة المواجهة مع الإخوان المسلمين هو آخر جيل قيادي بالمعنى الفعلي للكلمة، من دون أن يأخذنا الوهم إلى إعطائه مكانة تفوق مشاركته الفعلية إذ كانت القرارات الاستراتيجية في حينه أيضاً بيد الرئيس والحلقة المقربة جداً منه.
بالتزامن مع ما سبق دخل الحكم في مرحلة من الاصطفاف الوثيق مع إيران، وأصبح حليفاً معلناً لها ضد العراق بخلاف الأيديولوجيا القومية البعثية، لكن الشرخ الفكري الأعمق كان لاحقاً في مشاركة الحكم في حرب تحرير الكويت وانضوائه في التحالف مع دول تُعد استعمارية وفق المنظور البعثي. الأهم ما حدث من إعادة هيكلة لمراكز القوى في النظام، فأقصي على التوالي الضباط الكبار الطامحون وعلى رأسهم شقيق الرئيس، ونُقل الثقل العسكري إلى الحرس الجمهوري الذي يسيطر عليه الرئيس مباشرة إضافة إلى الأجهزة الأمنية، أما حزب البعث فأصبح فعلياً خارج دائرة الاهتمام الذي انصب على التوريث.
تنص المادة الثامنة على قيادة الحزب للدولة والمجتمع، وفي الواقع فإن اليد العليا هي للأجهزة الأمنية التي تتدخل في التعيينات ضمن الحزب نفسه أسوة بالمؤسسات البيروقراطية الأخرى، وعلى رغم أن النظام الداخلي الجديد للحزب أقر مبدأ الانتخاب فإنه أُوقِف وبقي التعيين من فوق هو المعمول به. فنحن أمام حالة من السيطرة الكلية التي لا يخرج عنها الحزب أيضاً. وفي الجانب الدستوري، وهو الأخطر، تتركز معظم الصلاحيات في شخص الرئيس حصراً.
وجه الخطورة في هذا قدرة من يشغل المنصب على الاستفراد بالقرار، بموجب الدستور وبمعزل عما ينص على قيادة الحزب للدولة، وعليه قد يكون من السهل إلغاء المادة الثامنة من دون تقديم تضحية فعلية من قبل الحكم، ولا يخلو من الدلالة عدم الزج بالحزب في واجهة الأحداث الحالية على غرار ما حدث في مواجهة الثمانينات مع الإخوان؛ يحدث هذا مع تلميح أوساط مقربة من الحكم إلى التخلي عن المادة الثامنة تزامناً مع صدور قانون للأحزاب.
قد يُسوّق قرار تخلي الحكم عن الحزب على أنه تنازل وإصلاح ديموقراطي من دون مسّ بجوهر النظام، إذ لا فائدة ملموسة من انتخابات برلمانية مثلاً إن لم يكن للغالبية الحق في تشكيل الحكومة، أو إن بقي البرلمان يتقاسم السلطة التشريعية مع الرئاسة، وفوق ذلك كله إن بقيت سلطة الأجهزة الأمنية فوق كل القوانين. لذا، في حال عُقدت النية على إطلاق الحياة السياسية ضمن تسوية تاريخية، لا بد من معالجة المفاعيل الدستورية كافة التي تتعارض مع فصل السلطات، وتمنع المشاركة السياسة الفعلية. نعم، إن الشروع في تفكيك حكم الحزب مدخل لا بد منه، على ألا يكون مدخلاً للتنصل من استحقاقات التغيير الحقيقي.
* كاتب سوري
الحياة