تقاسيم جَولانية على إيقاع الثورة السورية
حسان شمس
مزاج موالي النظام في الهضبة السورية المحتلة ليس في أحسن أحواله هذه الأيام؛ ذلك أنّ أكثر من ثمانين ناشطا ومثقفا جولانيا أصدروا بيانا، نهاية آذار المنصرم، أعلنوا فيه ‘انحيازهم الكامل لشعبهم السوري ضد جلاديه’، معتبرين أن ‘كل مَن يقتل شعبه خائن’، على ما ورد في بيانهم. ما زاد الطين بلة، تنظيم حوالي 150 شخصا قبل مدّة اعتصاما في ساحة مجدل شمس دعما للثورة السورية، تبعه بأسابيع وقفة شموع صامتة لعشرات الجولانيين حدادا على أرواح شهداء الثورة.
على المقلب الآخر، فإن الموالين للنظام، نظموا العديد من مظاهرات التأييد له خلال الفترة المنصرمة. بعض هؤلاء أعملوا تخوينا بشعبهم السوري المنتفض على نظامه، متبنّين خطاب السلطة بحرفيته ضد كل عاص عليها بل إن عددا منهم دعا أجهزة أمن النظام، عبر قنوات الإعلام الرسمية، لضرب المتظاهرين بيد مِن حديد، ملصقين بهم شتى تهم التخوين والتآمر على ‘الوطن وقيادته’. فيما معارضو النظام، بخلاف الموالين، يرون أن الساحة تتسع للجميع.
على ما يبدو، أنّ ثقافة الإقصاء والتخوين والتشبيح التي يعتمدها النظام داخل الأراضي السورية لها مثيلتها على الساحة الجولانية، مع فارق أنّ ليس فيها عنفا مسلحا فمحازبو النظام يحاولون فرض رؤيتهم على الآخرين بطرق تفتقد إلى الحد الأدنى مِن الشفافية والتعامل الإنساني في كثير من الأحيان إضافة إلى تشويشهم الدائم على المؤيدين للحراك الشعبي السوري، وأحيانا الاعتداء الجسدي على بعضهم، ومحاولتهم منع وسائل الإعلام العربية والأجنبية التي تغطي الأنشطة المناهضة للنظام في الجولان المحتل. والحجة، أن تلك الوسائل متآمرة على الوطن؛ ولا توازن في تغطيتها بين المؤيدين للنظام والمعارضين له.
لكن القشة التي قصمت ظهر البعير، محدثة فرزا واضحا على الساحة الجولانية، هي نجاح الموالين بعد محاولاتهم المتكرّرة التضييق على المساندين للثورة السورية في تمرير قرار، عــــبر الهيئة الروحــــية، يفرض مقاطعة دينية واجتماعية ووطنية على كل مَن يجاهر بموقف معارض. جاء ذلك الموقف، بعد مشاركة ناشطَين جولانيين في مؤتمر المعارضة الذي انعقد مؤخرا في أنطاليا؛ ما أثار حفيظة العديدين هنا، معلنين استنكارهم لذلك القرار وعدم التزامهم بكل ما ورد فيه. وفي وقت يُسفَح فيه الدم السوري في كافة أرجاء الوطن.
يبدو أن العديد مِن الجولانيين، الذين استثمروا ‘أجواء الانفتاح’ التي وفرّها لهم المحتل أيّما استثمار في مقاومته ورفض مخططاته، استكثروا تلك القيمة على بعضهم محاولين فرضَ أجندتهم بشتى السُبل، تحت ذريعة عدم شرخ الصف الوطني، وذلك عبر حصر الولاء للوطن مِن بوابة الولاء للنظام الحاكم فيه الأمر الذي لا يحظى بإجماع أهالي الجولان كما يُخيَّل لأصحابه؛ فالحقيقة الوحيدة المطلقة هنا، أنَّ الجولان سوري بأرضه وسكّانه، وكل ما عدا ذلك كان قابلاً للنقاش والتشريح والاختلاف، وسيبقى. وهوَ مخطئ، كل مَن يحاول نقل الصورة مِن هنا على غير هذا النحو.
منذ نهاية ثمانينات القرن المنصرم، عمدت إسرائيل إلى استبدال سياسة القبضة الحديدية بما اصطُلح على تسميته سياسة ‘الكعكة المفتوحة’ التي تجبر كل مواطن جولاني على الانغماس القسري أولاً بأول في عجلة الحياة الإسرائيلية، عبر حرب اقتصادية شعواء، لا تبقي للمواطنين خياراً، محقّقة بتلك السياسة نجاحاً لا يُستهان به. هنا، دخل نضال أهالي الجولان المحتل طوره ‘الاستعراضي، الكرنفالي والموسمي’، دون أي تدّخل مباشر يُذكر مِن قِبل سلطات الاحتلال، التي أصبح تواجدها العسكري الغائب الأكبر في الطقوس النضالية التي يمارسها المواطنون، إذ اقتصر عملهم الوطني، في معظمه، على الاحتفالات والبيانات وبرقيات التأييد أو الشجب والاستنكار، خلا بعض الخلايا والتنظيمات هنا وهناك، التي انطلقت من تلقاء نفسها، في محاولة لإزعاج العدو أو ضرب منشآته.
وبقصد خلق نوعٍ مِن التواصل الدائم مع الوطن، لتغطية الفراغ الناتج عن كسرِ القاعدة الذهبية: ‘حيث يوجد احتلال توجد مقاومة’، والتي يتحمّل النظام السوري كامل المسؤولية عنها، مضافاً إليها العزل المحكم الذي فرضته إسرائيل على الأهالي، وجدت إحدى الفئات الاجتماعية ضالتها، وذلك عبر متابعة الإعلام السوري الرسمي، وكلما أدلى أحد أركان السلطة بتصريح أو اتخذ موقفا، لاقَوهُ تهليلاً وتعظيماً وإشادةً، عبر برقيات يُطيّرونها إلى دمشق، موقّعين إياها باسم ‘جماهير الجولان’ مِن دون الرجوع إلى الأهالي غالب الأحيان وعدا بيان واحد صدر في الأيام الأخيرة، وقّعه عدد مِن خرّيجي جامعة دمشق ممّن يؤيدون النظام ‘ومسيرة الإصلاح’، فإنّ عشرات، بل مئات برقيات التأييد، يتناولها الإعلام السوري، لا يعرف بشأنها إلا كتّابها هذه هي الصورة في الجولان المحتل، مِن دون زيادة ولا نقصان، وهذا ما يحتّم الإشارة إليه، لإزالة أي التباس حول موقف الأهالي هنا.
أمور كالتي سبق ذكرها، تطفو على السطح غالباً في أوقات الأزمات، حيث يختلط على بعض الأهالي حابل الأمور بنابلها؛ سيّما أن شرائح جولانية واسعة، بضمنها نخب متعلمة، تعاني مما يمكن تسميته بـ ‘فوضى مشاعر وطنية’، تتجلى بنظرة جامدة ‘ثلاثية الأبعاد’ لمسألة الانتماء، عمادها الأرض والشعب والقيادة. فما تشهده سوريا هذه الأثناء، انعكس بشكل صارخ على المشهد الجولاني، محدثا فرزا واضحا لا يمكن التغاضي عنه أو محاولة تمويهه أو حتى الالتفاف عليه، وهو مرشّح للزيادة الحادة مع تطور الأحداث داخل الأراضي السورية. فالساحة الجولانية منقسمة بين مؤيد للنظام السوري ومعارض له منذ عشرات السنين، وهذا الانقسام طال حتى الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
لا يمكن بحال، نكران حقيقة أن فئة مِن الجولانيين تدين بولائها المطلق للنظام السوري وتؤمن بأبديّته، منطلقة مِن قناعتها بدوره (الوطني، المقاوم والممانع)؛ لكن فهم ما يدور على الساحة الجولانية يتطلب الإشارة إلى أن تدخّل أجهزة الأمن السورية تضاعف في العقدين المنصرمين إلى حدود غير مسبوقة، تجلّى ذلك في الانغماس بكل شاردة وواردة في حياة الأهالي. زد على ذلك سماح النظام لمئات الطلاب الجولانيين استكمال دراستهم العليا في جامعة دمشق منذ أواخر سبعينات القرن المنصرم، وتنظيم زيارات لرجال الدين إلى الأماكن المقدسة السورية بداية التسعينات، إضافة لفتح أسواق الوطن أمام التفاح الجولاني اعتبارا من عام 2005، وتخصيصه تعويضات ومرتبات شهرية للمعلمين والمعتقلين وبعض الفئات التي قطعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أرزاقها، جرّاء مواقفها المناهضة لها.
شبكات المصالح تلك، مضافا إليها ما يسمّى ‘هواجس الأقليات’ والخوف على امتداداتهم الأسرية وعلاقات القربى داخل الوطن، وتحفّظ البعض عن إبداء أي موقف واضح تجاه الحراك الشعبي السوري وعنف السلطة الذي يقابله خوفا، بحسب قناعتهم، مِن استثمار سلطات الاحتلال الإسرائيلي له، إضافة إلى انبلاج شريحة جديدة ‘موالية بشراسة’، مستغلة حالة الانقسام بغية تلميع ماض يعتقد كثيرون هنا أنه غير مجيد كل ذلك، كان له أبلغ الأثر في تحديد مواقف العديدين في الجولان المحتل تجاه كل ما يحدث على الساحة السورية.
والحال، فإنه حتى ولو جعل بعض الجولانيين مِن تنبؤات المنجّمين وضرّيبي المندل – ضيوف الفضائيات اللبنانية في رأس السنة- بوصلة لتحديد مواقفهم السياسية، جازمين أن الأسد سيجتاز هذا القطوع ويسلّم القيادة إلى ابنه مِن بعده؛ أو فاضت ‘مشاعر الوفاء’ عند بعضهم الآخر حدّ الخلط، عن عمد أو غير عمد، بين الفضل والواجب بما يختص بعلاقة السلطات السورية بأهالي الهضبة المحتلة، فإن ما يمارسه النظام بحق الشعب السوري وتتناقله وسائل الإعلام، رغم محاولة السلطات السورية تكميمها، جعل المقارنة، لدى شرائح جولانية عديدة، بين ممارسات الاحتلال الإسرائيلي والنظام السوري الحاضر الأكبر، في ظل رجحان هائل لكفّة هول ما يُمارسه على الشعب السوري مِن قمع وقتل وتدمير وتهجير على الذي يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي بحقهم كأبناء أرض محتلة ما يضع النظام السوري ومواليه، حيثما وُجدوا، في خانة المدانين أخلاقيا ووطنيا لا المنقضّين على الآخرين أو المخوِّنين لهم.
‘ صحافي/ من مجدل شمس السورية المحتلة
القدس العربي