تكتيكات اليسار و الثورات العربية
مازن كم الماز
ما زال اليسار العربي , حتى الثوري و التحرري منه , ينظر إلى الواقع , خاصة واقع الثورات العربية , من نظارته الإيديولوجية السميكة , يعتقد اليساريون أنهم يملكون “معرفة” ممتازة بكل ما يتعلق بالثورة .. إننا نتعامل مع الثورة كنموذج , كمخطط , يجب أن نحاول توجيهها في اتجاهها “الصحيح” , كي تتطور و تنتصر و تتقدم , عندما شارك اليسار المصري و السوري في دعوات الإضراب العام و العصيان المدني كنا نعتقد أن هذه تكتيكات فعالة مجربة , مستمدة من تجارب ثورية سابقة , لكن الاستجابة للدعوتين كانت محدودة , إن لم نقل محدودة جدا .. يجب أن نعترف هنا أن اليسار في أفضل الأحوال و في جميع الأحوال لن يشكل إلا أقلية من التي ندعوها جماهير , أقلية تعتبر نفسها “أكثر وعيا” , هنا يجب أن نعترف أننا أمام إشكاليتين : الأولى أن هذا التمايز بين الأقلية “الواعية” و الغالبية غير الواعية هو واقع موضوعي , نشعر به و نلمسه , إننا مثلا نجد أن الجماهير حتى و هي تقوم بثوراتها اليوم ما تزال ضعيفة جدا أمام تأثير قوى دينية أو رجعية و حتى فاشية , يحدثنا التاريخ أن أزمة أوائل الثلاثينيات في ألمانيا دفعت أقساما كبيرة من الطبقات الأفقر و الأكثر تأثرا بالأزمة , العمال و البرجوازية الصغيرة , إلى أحضان الخطاب الفاشي الشعبوي القائم على العرقية و العنصرية و ليس إلى مقاومة النظام الرأسمالي المسؤول الفعلي عن الأزمة , إن قسما كبيرا من الجماهير العربية الثائرة هو اليوم تحت تأثير قوى رجعية بل إن بعضها مغرق في الرجعية ليس فقط فكريا بل سياسيا و اجتماعيا , إن القضية الأخرى في علاقة الأقلية “الثورية الواعية” بالغالبية “غير الواعية” هي الإغراء الدائم بالدعوة إلى ديكتاتوريات نخبوية تلعب فيها الأقلية دور الزعامة , دور السيد المطلق , المستنير و التقدمي , ديكتاتوريات ستنتج دون أدنى شك حالات تتطابق أو قد تتجاوز ما كان سائدا في روسيا الستالينية و أوروبا الشرقية تحت اسم الاشتراكية , من الغباء المطلق اليوم الزعم بأن أية أقلية , مهما كانت “واعية” , ستتصرف بحكمة تجاه هذه الجماهير بينما هي على رأس ديكتاتورية شمولية تقوم أساسا على ازدراء و احتقار الجماهير , يجب أن نعترف أيضا أننا “كنخبة يسارية” بعيدين نسبيا , هذا في أفضل الأحوال , عن الجماهير , إن واقع قسم كبير من الجماهير البائسة اليوم , خاصة أكثرها بؤسا , لا يخفف منه إلا أفيون رجل الدين , خاصة السلفي الذي يجعله حاجة الجماهير لأفيونه و فعالية هذا الأفيون الأقرب إلى هؤلاء الناس من أي “مناضل” , هذا ليس واقعا قدريا لكن يجب التعامل معه بواقعية , ينتمي من أصبحوا يسمون بعد الثورات بالنشطاء أو الناشطين إلى طبقات أعلى في السلم الاجتماعي من جمهور الثورة الأعرض , في سوريا مثلا رأينا في إطار الثورة تمايز تيارين يتباعدان عن بعضهما باضطراد : تيار يمثله فقراء الأحياء المدينية المهمشة و الريف حول المدن الذي مارس تدينا شعبويا متزايدا و استمد مفاهيمه و أساليبه عن مقاومة الديكتاتورية من مخزونه الثقافي الشعبوي الذكوري الأبوي منتجا من جديد وعيا شعبويا دينيا ذكوريا شهدناه يبلغ ذروته في الدعوات لعسكرة الثورة و في تحويل مقاتل الجيش الحر الملتحي إلى أيقونة للثورة , و هو رمز ذكوري فاقع اللون , يرتبط بالعنف كمعيار للذكورة و للسلطة و القدرة على الفعل , مع ذلك لا يمكن إلا لمدعي أو تافه أن يصف الثورة السورية بأنها إسلامية , لم يلعب رجال الدين أو عناصر المنظمات الإسلامية المعروفة أي دور حقيقي في الثورة , و لم يقدموا أية تضحيات جدية في الثورة , بالتأكيد ليس أكثر من الجانب المدني المتعدد الطوائف من الثورة و المناهض لعسكرة و أسلمة الثورة , مع ذلك فقد اكتسبت أطروحاتهم “الدينية” و تفسيراتهم “الطائفية” للصراع بين الديكتاتورية و الشعب المفقر و المهمش شعبية واضحة , غالبة في بعض المناطق , دون أي جهد حقيقي من طرفهم , المساهمة الوحيدة التي قدمها رجال الدين و السياسيون الإسلاميون لم تتجاوز تكرارهم للوعد الإلهي , نفس الوعد الذي خاض نصر الله حربه ضد إسرائيل قبل سنوات , لجماهير كانت تواجه وحدها و بشجاعة نادرة واحدة من أكثر ماكينات القمع و القتل المنظم انفلاتا و شراسة و دموية , إن أي موقف عقلاني من هذه الجماهير من كلام أو تخاريف رجال الدين هذه كان يجب أن يعني تحولها الفوري إلى الإلحاد , هذا الشيء لا يفهمه رجال الدين أنفسهم و لا السياسيون الإسلاميون و هم يفسرونه على أنه “فتح رباني” , بشارة النصر القريب , الحقيقة أن وعي هذه الجماهير مغيب أو معتمد بقوة على الأفيون الغيبي لدرجة أنها لا تلاحظ كم هي تخاريف رجال الدين هذه قاسية بحقها أساسا و لا تكترث لها , بل تطالبها بشكل مستفز بالمزيد من الموت و القتل كشرط كما تدعي لنصرة السماء , إنه أشبه بمشاهد التطهر العاشورائية الشيعية أو الصوفية , عندما يكون الألم الذاتي جزءا ضروريا من تجرية طقسية خلاصية , هنا يقوم الدين بدور الأفيون الذي يجعل هذا الألم محتملا من جهة و يجعل إدمان ذلك الأفيون الألم يبدو و كأنه عنصر ضروري من عملية التطهر التي تتطلب المزيد و المزيد من الألم , إن تحمل الألم الذاتي بهذه الطريقة هو أقصر الطرق إلى موقف مازوخي من الذات , إلغائي للذات كشرط للتماهي مع مطلق خرافي , يجسده رجل الدين و السياسي الذي يضع قناعا إسلاميا , أنا أعتقد أن واحدة من أقسى المشاهد اليوم في سوريا و أكثرها نفاقا , بعد مشاهد ذبح السوريين المنتفضين على أيدي شبيحة النظام , هي مشهد رجال الدين الذي يصفقون للسوريين الذاهبين إلى الموت و يطالبونهم بالمزيد , بينما رجال الدين هؤلاء قد اختاروا الحياة , ليس أي حياة بل اختاروا حياة من نوع خاص , حياة السلاطين و ولاة الأمر , إنهم لا يستشهدون و ليسوا مستعدين لذلك , إنهم يمارسون بوعي كامل كما أزعم عملية خداع حقيقية ضد هؤلاء الناس , لكنه خداع جميل مرغوب من الضحايا , خداع أعتقد أنهم يبررونه لأنفسهم بالاستسلام المطلق من جماهير أتباعهم لخرافاتهم , الأمر الذي يفسرونه مرة أخرى على أنه فعل رباني لأنهم أكثر من يدرك تفاهة ما يقولون .. ماذا عن مثقفي الثورة السورية ؟ عن علاقتهم بهذه الجماهير , بفئة رجال الدين الصاعدة , و تفسيرهم لما يجري … البعض , ممن انبثق فجأة من تحت الأرض , حمل على عاتقه مهمة الدفاع عن العسكرة و التطييف بكل قوة , إما بالإنكار أو بالإصرار على صحة هذه العسكرة و التطييف , أشخاص لم يلعبوا أي دور في الثورة , مثلهم في ذلك مثل رجال الدين , لم يفعلوا أكثر من تخوين كل من يحاول انتقاد أية ظاهرة سلبية بل خاصة ما يمكن تسميتها بالظواهر السلبية في الثورة السورية , إننا هنا أمام “مثقفين ثوريين” تقليديين يمكن رؤيتهم في كل ثورة .. بالمقابل هناك من محللي ظاهرة أو ظواهر الثورة السورية من يقدمونها كحالة قدرية لا سبيل إلى تغيير أي شيء فيها , يجب قبولها كما هي , إن هؤلاء يعطلون واحدة من أهم أنماط السلوك الإنساني أو الوعي الإنساني , و هي محاولة وعي اللحظة الراهنة و تغيير ما هو خاطئ في السلوك الممارس , أنا لا أريد أن أدخل في نقاش تبسيطي أو اتهامي يتهم هؤلاء بالمازوخية أو بالسادية الخفية أو بالمشاركة في عملية الخداع هذه إما كضحايا أو كمنافقين لأني أعتقد أن الموضوع أعقد من هذا , لكن الثورة , مثل أي ظاهرة إنسانية , ليست حالة قدرية , للبشر , خاصة لمن يقوم بها , قدرة هائلة على تصحيح ما قد يتراءى لهم أنه ممارسة خاطئة فيها , إن العنف كرد فعل على العنف , كدفاع عن النفس , أي كفعل سلبي , يختلف تماما عن العنف كفعل إيجابي , كعنف لأجل العنف , إن العنف هو تعبير عن الإكراه و ليس العكس , فالعنف ليس نفيا للإكراه , العنف هو تعبير عن سلطة , قائمة أو وشيكة , العنف كتعبير عن الإكراه و كظاهرة ذكورية أبوية بامتياز يعني شيئا واحدا : إعادة إنتاج سلطة , عسكرية في الأغلب , سيشكل الدين فقط صورتها الخارجية لكن جوهر السلطة التي تنتج عن مثل هذا العنف هي سلطة من يملك العنف و من هو مستعد لاستخدامه بكل قسوة و انفلات , تماما كما هو حال النظام السوري اليوم , إن تبني الإسلاميين السريع و المتحمس لظاهرة العنف “المضاد” ملفت للنظر , يقال هنا أيضا أن الإخوان يسيطرون عمليا على مكتب تقديم المساعدات للجيش الحر في المجلس الوطني , يجب هنا لكي نكون منصفين أن نقول أن هذا العنف لو كان يمارس من بشر ذكوريين أبويين ساديين لكن من “المؤمنين” بأفكار اليسار لكان اليسار قد اعتبره “شرعيا” بل و “ضروريا” و جزءا من الصراع الطبقي نفسه , لقد مارس اليسار نفسه أو جزءا منه مثل هذا العنف في مراحل مختلفة لعل أهمها هي الثورة الروسية , و مارس هذا النوع من الإرهاب الذي سمي يومها بالإرهاب الأحمر , لكن الإرهاب أيا كان لونه فمضمونه واحد , الإرهاب ضد الناس لا يمكن أن يكون خلاصهم و لا طريق خلاصهم .. إذا كنا نعترف بأننا أقلية و إذا كنا نرفض في نفس الوقت أن نقيم ديكتاتوريتنا الخاصة كأقلية مستنيرة أو واعية أو تقدمية , فإن السؤال يصبح : ماذا علينا أن نفعل إذن ؟ البعض كما قلت اعتبروا أن السير بشكل أعمى مع التيار هو الخيار الوحيد أو الأقرب للصحة , هم , في الحالة السورية , لا يدعون مباشرة مثلا للقتل الطائفي و لا يبدو أنهم مستعدون للمشاركة فيه لكنهم يبررونه و يجدونه قدرا لا راد له أو حالة من حالات الثورة لا يمكن نكرانها إلا بالخروج من الثورة نفسها , و لا يمارسون أسلمة مباشرة لعلمانيتهم المفترضة لكنهم يرفضون نقدها أو يعتبرون هذا النقد انفصاما عن المكون الشعبي للثورة , و هذا صحيح إلى حد كبير , البعض يتحدث عن أولوية عوامل “خارجية” و يراهن عليها , مثل تأثير القوى الغربية و حلفائها في الخليج على الإسلاميين السوريين و على احتوائهم و بالتالي إمكانية فرملة أي تطور باتجاه ديكتاتورية دينية أو عسكرية قادمة و هؤلاء من أكبر المتحمسين لثورة شعبية في الأسفل و لقيادات فوقية معزولة تماما عن القاعدة الثورية تقوم على محاصصة بين الإسلاميين و الليبراليين الضعيفين جدا على الأرض , ربما الأكثر ضعفا من اليسار نفسه , محاصصات تقوم في نظرهم على موازنة شعبية الإسلاميين و تبنيهم للعنف “المضاد” للنظام بقوة تأثير القوى الغربية “الديمقراطية” و حلفائها الخليجيين على قيادات هؤلاء الإسلاميين , إن هؤلاء لا يضيعون الوقت بأي عمل على الأرض بل يركزون على حضور المؤتمرات و الجدال مع أصدقائهم – خصومهم فقط , البعض يحاول أن يقوم بنشاط ما , تنظيمي فكري سياسي , لكن بنفس أساليب و أفكار اليسار القديم بل بنفس أساليب و أفكار اليسار البلشفي الذي يصور على أنه النسخة الثورية من اليسار .. من الطبيعي عندما ترفض أن تفكر حتى في إنتاج ديكتاتوريتك “لدفع عجلة التطور و التقدم إلى الأمام” , أن يكون خيارك هو النضال بين الناس , كواحد منهم , ليس كواحد فوقهم , لكن هذا أيضا خيار مأزوم إلى حد ما , في ظل تباين حقيقي في “الوعي” و الأهداف و الأساليب بينك و بين هؤلاء الناس , خاصة من تعتبرهم جمهورك هذا إن لم تكن ترى أنك قد انسلخت عن طبقتك و أصبحت تعتبر نفسك واحدا منهم : أتحدث هنا عن الناس الأفقر و الأكثر تهميشا , الأقرب إليك اجتماعيا و الأبعد عنك فكريا و سياسيا , لكنه الخيار الوحيد الممكن بالنسبة لأي تحرري في هذه المعمعة .. إن جزءا هاما من فعل من يسمون بالناشطين في سوريا يأخذ اليوم شكلا منفصلا تقريبا عن الفعاليات الروتينية للثورة في المناطق الأكثر تهميشا و التي تتدرج من التظاهر إلى العمل المسلح , مؤخرا بدأ “الناشطون” السوريون شيئا أشبه بهجوم مضاد موجه في الحقيقة ضد طبيعة الثورة كما طبعها به المكون الأكثر فقرا و تهميشا في الثورة , الذي تقدم بعيدا في مجال تديين و عسكرة نشاطاته , إن حراكهم في دمشق و جامعة حلب وضعهم تحت الاستهداف المباشر من قوى قمع النظام , لكنه استهداف يفتقر للقسوة و الدموية التي تميز عنف النظام الموجه ضد المكون الأكثر شعبية و فقرا في الثورة , جرى هذا الحراك تحت شعارات الثورة الأوسع كالحرية لكن إلى جانب ذلك كانت هناك شعارات معادية للعسكرة و للتطييف و داعية لسلمية الثورة , لكن هذا العمل “الدفاعي” من جانب المكون الأغنى طبقيا و “الأكثر وعيا” يعني في الحقيقة و لو جزئيا التسليم بخضوع غالبية مهمة , خاصة من السنة في الأحياء المهمشة في حمص و مناطق نفوذ الإسلاميين التقليدية في حماة و ادلب , للهيمنة العقلية ( أعتقد أن هذا الوصف أدق من غيره ) لرجال الدين .. تشبه الثورة , أو الشعوب , إلى حد كبير , الإنسان المراهق , الذي يجد نفسه متمردا على محيطه , و أكثر ما يكرهه هو أن يقول له شخص ما كيف عليه أن يتصرف , إنه يشعر بشكل غريزي أن كل من يحاول أن يتذاكى عليه و يقوم بتوجيهه إنما يمارس سلطته عليه , إنه يرفض السلطة الفظة المباشرة في هذه الفترة المضطربة لكنه مع ذلك يخضع للكثير من السلطات غير المباشرة التي تستخدم آليات أعمق غير صريحة لإخضاعه لسلطانها , للأسف الشديد , ليس أمامه إلا أن يتعلم من أخطائه فقط , البديل الآخر الوحيد عن عملية التعلم الذاتي المكلفة هذه هو أن تعامله كما فعل البلاشفة مع العمال الروس أو الأنبياء و المصلحين مع الناس في كل العصور , أن تخاطبهم و تقودهم بطريقة سلطوية , أن تخدعهم و تقمع معارضة بعضهم و تقمع فيهم جميعا أي توق للحرية أو للاستقلال عن صورة “الزعيم” أو “المخلص” .. هل هذا أخيرا إقرارا بعجزنا , كبشر و ليس فقط كيساريين , في التأثير فيما يجري حولنا ؟ يجب أن نعترف أنه إذا سارت الأمور في طريق الحرب الأهلية فالجواب نعم كبيرة جدا جدا , سنكون جميعا خارج القدرة على التأثير فيها , من يملك القدرة على التحكم في الحروب الأهلية هو من يملك أدواتها : العنف و القدرة على تهييج المشاعر الطائفية , و هذا ليس من أسلحتنا للأسف , أيضا للحروب الأهلية منطقها الذاتي و هي عادة تنتهي بسلطات استبدادية , سلطة المنتصر هي عادة سلطة قمعية بالضرورة , سلطة قامت بشكل مباشر على العنف و ستستمر غالبا باعتمادها الرئيسي على العنف كمصدر لشرعيتها و لاستمراريتها , لا أعتقد أن البيض لو انتصروا في الحرب الأهلية الروسية كانوا سيقوموا بأكثر مما قام به البلاشفة أنفسهم هناك , الخاسر الأكبر في الحروب الأهلية هي الطبقات الأفقر , إنهم وقودها و هي تنتهي دائما باستلاب جديد لهم .. هناك نقطة مهمة جدا اليوم , هي أننا بشكل غير مباشر نحدد اليوم صفات و فكر الجماعة المحظورة من قبل النظام القادم , ليبراليا كان أم إسلاميا أو ليبراليا إسلاميا , هذه الجماعة المحظورة التي قد تكون في مقدمة الموجات الثورية القادمة كما هي عادة هذه الموجات , هذا إذا تمكنت البشرية من النجاة من الأزمات البيئية و الاجتماعية و نزعات العنف المدمرة التي تدفعها البرجوازية نحوها بكل قوتها , يجب أن نكون واضحين جدا اليوم , مثلا فيما يتعلق بالعنف , بالإكراه , لقد مررت من قبل على قضية العنف , يجب الاعتراف أن هدف آخر ثورة “عنيفة” , ثورة البروليتاريا و بقية المضطهدين , هي القضاء على العنف من علاقة الإنسان بالإنسان , القضاء على الإكراه من علاقة الإنسان بالإنسان , إن العنف كممارسة سلطوية , كجوهر للسلطة التي هي احتكار العنف أو احتكار شرعية استخدامه , لا يمكن أن يكون طريق الخلاص , إذا أنتج سلطة جديدة , تقوم مرة أخرى على احتكار العنف و على احتكار القسر , سنكون أمام ضرورة ثورات جديدة ضد سلطة لا تعبر عن الناس بأكثر من احتكارها الدائم للعنف ضدهم و إجبارهم على الخضوع لها و من شعبوية عابرة سرعان ما تحولها الطغمة الحاكمة إلى قيد , إلى نير , على أكتاف هؤلاء الناس .. مع الاعتذار للتشخيص التروتسكي الذي يقول أن نقطة ضعف الحركة الثورية تكمن في “غياب قيادة ثورية” , فإنني أزعم أن ضعف أو غياب ثقافة التنظيم الذاتي عند جماهيرنا و عند جماهير المضطهدين عموما في العالم اليوم , هي نقطة الضعف القاتلة في الموجة الثورية الحالية , لقد نظمت الجماهير حياتها أحيانا بشكل مستقل عن الجميع , لكن فقط للحظات و دون أن تنتبه لأهمية ما قامت به , و ظلت حتى و هي تفعل ذلك تحلم بالمستبد العادل , بالمخلص , إنها فاقدة الثقة بنفسها لدرجة تمنعها من التخلص من أكثر الناس طفيلية في التاريخ : السياسيون , أو بالأحرى , السادة .. لو نظمت الجماهير حياتها بشكل ذاتي و حر و طوعي لكان أفيون رجال الدين أو نظرائهم العلمانيين أو الليبراليين أو اليساريين قد بقي أفيونا روحيا و لم يتحول إلى وعد بسجون جديدة و معسكرات اعتقال و فرق موت أو إعدام و محاكم تفتيش جديدة , قد تكون أسوأ مما عرفته سابقا .. لأن هذا الكلام ليس دعوة استسلامية أو انهزامية و لا للقفز من مركب يتأرجح بقوة وسط أمواج عاتية وسط ضبابية شبه كاملة , فإني أعتقد أن محاولة بناء ثقافة التنظيم الذاتي عند الجماهير , التي هي ليست أكثر من التركيز على تجاربها هي بالذات , تجارب صنعتها هي نفسها دون أن تدري أهمية و تاريخية ما صنعت , بناء هذه الثقافة هي أهم جوانب العمل الدعائي لليسار الثوري و التحرري القادمة , قد يكون من الضروري أيضا اليوم و في الغد تقديم ضحايا على مذابح الأنظمة القائمة و القادمة , لكن هذا ليس هو الفعل الأهم لليساري , من سيقرر القيام بهذه التضحية سيقوم بها على اساس أخلاقي فقط و ليس على أساس سياسي كما أعتقد , عدا عن خطورة تحول هؤلاء لأيقونات يسارية أيضا , فوجئت في هذا الصدد بأن غيفارا بالنسبة لكثير من اليساريين المؤمنين به ليس إلا نموذج صنمي ذكوري أبوي لمخلص جديد , نموذج يرتبط بالعنف أكثر من ارتباطه بالعدالة مثلا أو بالحرية … رغم كل الصعاب و كل الأخطار فإن الآمال كبيرة أيضا , صحيح أننا كبشر محدودي القدرة على الفعل و التأثير في المجتمعات السلطوية التي يكاد ينحصر فيها الفعل في رأس الهرم السياسي الاجتماعي أي السلطة لكن لا يمكننا القبول بهذا , أيا تكن أقدارنا , فإن الجزء الأساسي فيها نكتبه نحن , هل سنعيش عبيدا , هل سنعيش كما يريد لنا السادة أم نقاتل في سبيل حريتنا حتى النهاية , في هذا الصراع لا يمكن القول أن النتيجة لا تهم , لكن الاستسلام للعبودية أسوأ شيء , أسوأ قدر على الإطلاق , قد يبتلى به الإنسان , أسوأ بما لا يقاس من العبودية ذاتها