تكثيف العالم
باريس ـ مها حسن
يدعوني صديقي إلى أماكن غريبة. لا تبدو هكذا لبعض الفرنسيين، ولكنها كذلك بالنسبة لي. ففي الوقت الذي أدعوه لمرافقتي إلى معرض الكتاب السنوي في باريس، في ” بورت دو فرساي”، في شهر آذار، حتى أنني أذهب لأكثر من مرة، لحضور بعض الفعاليات الثقافية التي تهمّني، كما حضرت اللقاء مع بول أوستر، أو الندوة الحوارية مع علاء الأسواني… في الوقت ذاته إذن، يدعوني هو إلى المكان ذاته، بعد ثلاثة أشهر تقريباً، المدة الفاصلة بين معرض الكتاب في شهر آذار، والمعرض الذي أرافق إليه فيليب في شهر حزيران، في صالة المعارض ذاتها، في “بورت دو فرساي”، ولكن ليس من أجل الكتب.
أدخل الصالون مندهشة قليلاً، الطريق نحو المعرض ذاته، المدخل، شراء البطاقة، الحصول على خريطة الأجنحة.. الأمر نفسه، تماماً كما لو أنني في معرض الكتاب. لكن المشهد يبدأ لا بالاختلاف فقط، بل وبالتعارض الكلي مع معرض الكتاب، في الخطوة التالية لما بعد الممر الصغير الذي نعبره، بعد الحصول على البطاقات، ونصير داخل الصالة الكبيرة.
أنا في عالم آخر.. لا يمت للكتب بصلة.. وثمة ازدحام هو ذاته تقريباً.. من حجم ازدحام زوار معرض الكتاب، إلا أن الفرق شاسع بين الندوات واللقاءات مع الكتّاب العالميين،وبين عروض معرض التصاميم.
أجل، هو معرض تصاميم”ماكيت”، حيث العالم الكبير موجود هنا، في نماذج مصغّرة. قرى نموذجية، مزارع، قطارات، سيارات، مراكب، جيوش، أسلحة… عالم من تفاصيل لا تعدّ ولا تُحصى. وأنا بعقلانيتي البليدة أحياناً، أكرر لصديقي:” ولكن ما أهمية كل هذا؟”.
في الوقت الذي لا يستطيع شخص فرنسي”أو أي أوروبي”، تفهّم أن يضحّي شخص ما بكل متعه الحياتية، ويرفض الانخراط في عمل يؤمن له استقرار اقتصادي، لأنه يريد التفرغ للكتابة، التي لا تعود على صاحبها بمردود يتناسب مع الجهد والوقت اللذين يمنحهما الكاتب في عالمنا العربي. في الوقت ذاته، لا تستطيع امرأة شرقية، تبحث عن “معنى” لكل شيء، أن تفهم كيف يضيّع شخص وقته وجهده، ليصنع محطة قطار، بكل تفاصيلها الجغرافية، حيث سكة القطار، مدخل النفق الصخري، الجبال المحيطة بالمحطة، الأشجار الخضراء، الورد الملون، والقطار ذاته الذي يقطع السكة داخلاً النفق من جهة، ليخرج من الجهة الأخرى.
أكرر سؤالي لصديقي:” وما أهمية هذا؟”. يجيبني: “متعة.. تماماً كمتعتك وأنت تقتنين رواية جديدة، فتقرئينها بفرح”.
لم أتصور أن متعة اكتشاف المعارف الجديدة، عبر القراءة، قد تعادلها متعة صناعة طائرة من “الماكيت”، مع محرك يشتغل عن بعد.. لتحلّق الطائرة فوق رؤوس الحضور… وكأننا في مطار حقيقي.
ثمة جانب تجاري لتلك المتع دون شك.. لكن ثمة جانب متعوي بحت أيضاً.. ثمة من يبيع منتجات قابلة للعمل عليها، أي التصاميم التي يشتغل عليها الهواة، ليصنعوا طائراتهم، أو سياراتهم، أو مراكبهم……
في الصيف، في حديقة ستراسبورغ مثلاً، تُرى بعض المراكب التي صممها أصحابها، حيث يتحكّمون بها من بعد، ويقودونها داخل البحيرات الصغيرة، في الحدائق، أو في البحر.. هذا ولع قد لا يفهمه بعضنا.
في صالون التصاميم، للحضور سحنات غريبة. لا يشبه ذلك الجمهور في معرض الكتاب. سحنة ذكورية إلى حد ما، النساء القليلات الحاضرات، يرتدين ملابس كالرجال، قلة منهن، مع ندرتهن، يضعن حمرة شفاه، أو يرتدين تنورة.. ثمة غياب كبير للمرأة.
أتساءل بيني وبين نفسي، عن هذا الترف الروحي الذي يحياه الغربيون. أليس الفراغ الكبير من الهمّ ومن الانشغال الفعلي، هو الذي يدفعهم لهذا العبث؟ أحاول ألا أحكم على الآخر من خلال تجربتي الضيقة، ولكن سلوكهم أمامي، وولعهم بالتقاط صور سيارات السباق المصغّرة، النموذجية، أو ابتساماتهم أمام الدراجات النارية وأنواع الطائرات.. تثير ريبتي، وتستحضر صور أطفالنا، الذين يعشقون اللعب بالسيارات والطائرات. ألا يتمسك هؤلاء الكبار بطفولتهم بطريقة تواطأ فيها جميع الحاضرين هنا، تحت مظلة واحدة، هي” عالمية التصاميم”، كما درج عنوان المعرض؟
إنها هواية كما يشرح لي فيليب، متعة صناعة قارب، وتركيب محرك له، وضعه في البحيرة أو البركة أو البحر، متعة تماثل قراءة رواية لبول أوستر على شاطئ البحر.. يشرح لي صديقي.
لا أقتنع بما يقول، كما لا يقتنع هو بكل ما أقول. لكل منا عالمه، وكل منا يكتشف عالم الآخر، عبر هذه الفوارق.
لا أتصور أنني أقرأ كونديرا للترف، أو للحصول على متعة موازية للاستلقاء على الشاطئ للحصول على اللون البرونزي. القراءة لي، وللكثير من أشباهي في العالم العربي، ليست للمتعة، بل للمساهمة، للمشاركة في أرق هذا العالم.
أترى الغرب تجاوزنا كثيراً في فرديته، فأغرق في الدخول في حلقات صغيرة من الذاتية، إلى أن انتفى دور الآخر في حياته، فصارت صداقة الكلب،أو اقتناء أي حيوان، تعويضاً للفشل العائلي الكبير، حيث يحيا الكثير من الغربيين، بخاصة الفرنسيين الذين أعرفهم، في وحدة، لا يمكن تمضيتها بسهولة، دون صداقة حيواناتهم.
أحاول ألا أحكم على ضحكات الرجال الكبار، بشوارب ضخمة، ذكور بقامات كبيرة، لهم اهتمامات أطفالنا. ولكن أطفالنا يكبرون، فيتخلّون عن هذه المتع، وينخرطون في هموم أخرى.
هل رفاهية الغربي قادته إلى صناعة متعة خاصة، تصميم مزرعة حيوانات مثلاً، أهم من قراءة “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل، أو هاجس الكتابة نفسه. أهو خلاف المجتمعات، أم خلاف الأفراد، أم فارق الهموم.
نغادر المعرض محمّلين بكمية من الصور التي لا تثير أي متعة لديّ، أنا التي قد أشهق لجملة مدهشة أقرأها في رواية جديدة أو مجموعة شعرية، أو أمام تقنية سينمائية تفاجئني، لا شيء يشدّني في هذه العروض، سوى اهتمام كل هؤلاء، الذين يدفعون أموالهم لشراء بطاقة الدخول، وتسوّق المنتجات الهائلة التعدد…أرصد دهشتهم، تركيزهم، تنقيبهم في تفاصيل، أراها دون معنى.
ألتفت مغادرة نحو المدخل مجدداً، أبتسم بيني وبين نفسي، ربما ذات يوم، سأكون مدعوة هنا، أقيم ندوة عن رواية جديدة لي، بينما يتلفّت صديقي حوله، بملل من الأدب والكتابة ، فيفتح الانترنت، في معرض الكتاب، باحثاً عن آخر صيحات التصاميم، مستغرقاً، خفيةً عني، في أسماء الماركات والشركات التي أجهلها تماماً، كما يجهل هو أسماء دور النشر العربية. أبتسم لباب المعرض، الذي يستقبل معرض الكتاب،المعرض الزراعي، من حيوانات ومنتجات زراعية، معرض التصاميم، من قرى وطائرات وسيارات.. أحيي من بعيد، وأنا أبتعد. معرض مفتوح لكل فعاليات العالم، دون تمييز، دون تقييم. إنه العالم برمته، مكثّفاً، في صالة معارض.
المستقبل