تلك اللغة الهابطة بين الكرد والعرب في العراق/ سيّار الجميل
قبل قرابة نصف قرن، رقص العراقيون، عربا وكردا، عندما اتفقوا، وشاعت في بلدهم أغنية تقول بعض مقاطعها: هربجي كرد وعرب رمز النضال/ من تهب نسمات عذبة من الجبال/ على أطراف الهور تتفتح گلوب/ لو عزف على الناي راعي من الشمال/ على الربابة يجاوبه راعي الجنوب.. إلخ. كتبها الشاعر العربي، زاهد محمد، ولحنها وغناها الكردي العراقي أحمد الخليل. وهربجي تعني في الكردية الجدية بين الإخوة. ثم نسي العراقيون، عربا وكردا، كعادتهم، تلك الأغنية، كونهم لا يدركون قيمة وطنهم أبدا، واختلفوا وتصالحوا، ثم تصارعوا واتفقوا، وهذا ديدنهم، فالأزمات العراقية تمنح العالم كل يوم صوراً جديدة عن شعبٍ إن توحّد أبدع، وإن تفرّق أكل نفسه بنفسه. منذ زمن طويل، يختلف معي بعضهم، عندما أصرّ على إن العراق يصعب جداً تقسيمه.
تدنّت الأزمة الحالية بين إقليم كردستان وبغداد إلى مستويات شعبيّة، قبل الاستفتاء، ودارت رحى معارك ساخنة إعلامية وإلكترونية ومهاترات تلفزيونية لا تصدّق، كما عدّت أشرس حرب إعلامية منذ شهرين، قبل زحف القطعات الاتحادية نحو كركوك والمناطق التي سميت متنازعا عليها، ولم تزل الأزمة تتفاعل على جبهات متنوعة. ويبدو واضحاً أن مشكلة العراقيين أنهم يتفاهمون ويتحالفون ضد بعضهم، وهم يتصارعون باسم وطنٍ ذبحوه، ودمّروا شعبه، وقسّموه جميعاً إلى مكونات وأطياف وأكثريات وأقليات.
يعلم من رصد نماذج عديدة من تراشقات الطرفين أن حرباً باردة اندلعت بينهما، إثر إصرار
“غابت الحكمة وغاب العقل، وراح كل طرف يغرس سكاكينه في قلب الآخر” رئيس الإقليم، مسعود البارزاني، على أن يكون استفتاء الكرد “للاستقلال”، وليس “للانفصال” عن العراق في موعده 25 سبتمبر/ ايلول 2017.. وفي الوقت الذي اندفع فيه الكرد اندفاعا كبيرا للتعبير عن رغبتهم، وبلغت نسبة التصويت بنعم أكثر من 92%، واعتقادهم الخاطئ أن الوقت حان لتشكيل دولتهم الموعودة، بلا وعي جمعي وبلا حساب للمخاطر والتحديات، وراح رئيس الوزراء، حيدر العبادي، يشدّ الحبل بالضدّ، بعد أن كان متراخياً سنوات طويلة، واستفحلت موجة إعلامية صاخبة بين الطرفين، كانت الشوفينية والطائفية والكراهية تترسخ بأوسخ التعابير، وأقسى العبارات المتبادلة على ألسنة المسؤولين الرسميين والغلاة المتطرفين، وغابت الحكمة وغاب العقل، وراح كل طرف يغرس سكاكينه في قلب الآخر.. واستخدمت التجريحات وتبودلت التهديدات، وتوزعت الشتائم بأساليب غير لائقة أبداً، لنسوة ورجال، بحيث سمعنا خطابات فجّة، وسجالات خالية من الذوق والأعراف والقيم بين مواطنين عاشوا سويّاً منذ أزمان، وما زال كلّ العراقيين ينتمون إلى دولة واحدة، ودستور كسيح صنعوه بأنفسهم. وزاد في الطين بلة أن الإخوة الكرد تكلّموا على أساس الجيرة، وكأنهم في دولة أخرى! مستعينين بأفكار برنارد ليفي وأضرابه الصهاينة. ومع احترامي إرادتهم الجمعية التي كانت واضحة، حتى قبل الاستفتاء، صرّحوا بها علناً منذ العام 2003، فإن هذا “الحدث” منح الكرد جميعاً درساً أن التفكير بالانفصال ليس عن العراق أو تركيا أو إيران لن يتحقق لمائة سنة مقبلة. وأن الحلم الكردي لن يرى النور إلا بتغيير شامل لكلّ خرائط المنطقة ودولها، ولا يمكن التكهّن مستقبلاً بما سيجري. وفي الوقت نفسه، هذا “الدرس” جعله الخصوم العراقيون مادة دسمة في انتصار وهمي لهم على الكرد، مستفيدين من مواقف إقليمية إيرانية وتركية مضادة للكرد، وكأن الكرد ليسوا أبناء وطن واحد وإخوة شركاء. ولا ينم تقويمٌ كهذا إلا عن غباء مستفحل، والنظر بعين واحدة للعراق، وكأنّ من يحكم العراق هو من يمتلك الحق بيده وحده، والآخرون مجرّد ذباب ينبغي إبادته (!). ولم نسمع أو نقرأ أيّ بيان يدعو إلى المحبة والتسامح والعقل، إلا نادراً لبعض الحكماء العراقيين.
لا يليق ما يستخدمه الطرفان من لغة وخطاب بأبناء شعب واحد، جمعهما تاريخ واحد، ووطن واحد، وجغرافيا واحدة، ونظام واحد، وتحالف ثنائي واحد، ومصالح مشتركة واحدة. وغابت الدعوات إلى السلم والمحبة، وغابت الرؤية الواقعية ومعرفة طبيعة الزمان وظروف المكان المعينين، خصوصاً وأن جرح “داعش” لم يلتئم بعد. والمتمنى أن يدرك الإخوة الكرد طبيعة جغرافيتهم المتقوقعة الصعبة بين طوروس وزاغروس، ولو تعلّموا من دروس التاريخ القريب بعض العبر، فإن كانت جغرافيتهم قد خانتهم، فإنهم لم يلتفتوا إلى التاريخ، ولم يأخذوا منه العبر.
وإذا كانت إسرائيل حقا صديقة للكرد، فهل من العقل أن يرفع علمها علناً مع علم كردستان على رؤوس الأشهاد؟ هل من الحكمة أن يتمّ ذلك، وصاحب القضية لم يحقق أي خطوةٍ على درب الانفصال؟ هل من العقل أن يصّرح أحد القياديين إنه “لم يبق إلا أسبوع على الاستفتاء ونخلص من جهنم”؟ اندفاع الكرد ضد العراق بهذا الزخم وتشكيل إرادة خاطئة بالضدّ تبلور منذ سنين، ولم تنكشف الحقيقة وتنفضح تلك الارادة إلا ووجد الكرد أنفسهم وحدهم أمام العالم الذي وقف ضدهم. وقد كتب صاحب هذه السطور، في مقال سابق في “العربي الجديد” قبل الاستفتاء، أن إخفاق الكرد في هذا الاستفتاء سيؤدي إلى كارثة تاريخية. وعليه، كان عليهم استخدام تعبئة مضادة للشحن العدائي، وكنت أراقب اللغة الصعبة والمشينة التي استخدمت على صفحات التواصل الاجتماعي بين الحليفين، الكرد والشيعة العراقيين، والتي وصلت إلى أدنى الدرجات الواطئة، فضلاً عن تجاوزاتٍ افتعلها مسؤولون كرد، وخصوصاً في كركوك. وأسأل الإخوة الكرد: هل اكتشفتم فجأة، بعد مضي 15 سنة، على تحالفكم مع المسؤولين في بغداد، أن نظام الحكم في العراق غير صالح للحياة، وكنتم جزءا منه؟ وإذا كان “النظام” طائفي النزعة، فهل كان يوما عكس ذلك؟ وخصوصاً في عهد نوري المالكي الذي عرف بمهازله وفواحشه وفساده وجرائمه التي لا تحصى. وكنتم حلفاء الشيعة ضد السنة في العراق، وكتب الدستور العراقي حسب مزاجكم ومطالبكم، فإن كنتم قد توجّستم الخطر من تحركات إيران، فهل كانت خطوة الاستفتاء حلاً، أم أنها بمثابة سنّارة إيرانية لإخراج السمكة من الماء؟
صمت العراقيون السنّة على مشهد الصراع بين الشيعة والكرد، وبان للعالم حجم الهشاشة
“أشبّه الكرد والحكومات العراقية المتعاقبة مثل قطارين يسيران بمواجهة أحدهما الآخر. ولكن على سكّة واحدة” للتحالف الذي كان يربطهما ضدّ العراقيين السنّة. ولكن بقدر ما كان للكرد من حرب دعائية من أجل الاستفتاء والتغنّي بالدولة الوليدة القادمة، كانت للطرف العراقي المقابل لغته المتهتكة وشتائمه التي يعاف المرء سماعها، وما ألصق من بشاعات في التعليقات، وإفراغ ما في الصدور من كراهية وأحقاد وانفضاح للأدوار، وبشاعة في الطعون، وتداول السباب مع التشبيهات الهزلية والانتقاص من القادة، ورمي المسؤولين بالاتهامات القاسية مع حرق الأعلام والضرب بالأيادي، والزجر بالأحذية في قاعة البرلمان مع المقاطعات وبثّ التصريحات القاسية. كلّ المسؤولين العراقيين وجدوا أنفسهم فجأة وطنيين للعظم، يدافعون عن وحدة العراق، بعدما نالوا منه جميعاً وتقدّموا عليه بانتماءاتهم المتعصّبة البغيضة، طائفية كانت أم شوفينية أم جهوية. شعروا فجأة أنهم أصحاب نخوة عراقية، وهبّوا جميعاً لإنقاذه، بعد أن ساهموا كلهم في تدمير مدنه وحرق أهله، وتهجير أبنائه، ونهب خيراتهم وسرقة ثرواتهم.
دوماً أشبّه الكرد والحكومات العراقية المتعاقبة مثل قطارين يسيران بمواجهة أحدهما الآخر. ولكن على سكّة واحدة، وكثيراً ما تصادما أو وصلا إلى نقطة التماس في اللحظات الحرجة، من دون إيجاد محطاتٍ تمكّنهما من تجنب التصادمات. التصادم والحرب لا ينفعان، فكثيراً ما تصادم القطاران، وراح مئات من ضحايا العراقيين، كرداً وعرباً، بفعل عوامل خارجية، ويرجع الطرفان من جديد كي يرقصا ويغنيا: هربجي كرد وعرب رمز النضال.. تشتعل عواطفهم في زمن، ثم يحتربون في زمن آخر. وفي الحالتين، أجدهما بلا حكمة ولا محبة. فهل يتعايش أهل العراق في قابل؟
العربي الجديد