تلك الليلة احتفلنا من دون شعور بالذنب
يوسف بزّي
ابتدأت السهرة منذ الساعة التاسعة، مع وعد مني للأصحاب منذ أيام أن لا اتحدث في السياسة في ليلة رأس السنة. كانوا متوجسين أن أحوّل الحفلة إلى مجرد لقاء تطغى عليه الثرثرة المتمادية، والتي تجلب الكآبة والسأم، في حين أنهم يخططون لوداع العام بشيء من الصخب واللهو والخفة.
والأرجح أن تقصدهم المسبق بمنع كلام السياسة في السهرة ناجم عن شعورهم جميعهم ان لا كلام في جعبة أي منهم سوى ما يتصل في مجريات السياسة وأحداثها.
ذلك انهم قضوا سنة 2011 وهم في أغلب أيامهم متسمرون حتى ساعات الفجر امام محطتي «الجزيرة» و»العربية» وأمام شاشات كومبيوتراتهم.
مضت نصف ساعة أو أقل، حين بادرت سيدة إلى سؤال: «هل شاهدتم الكليب على اليوتيوب لحرائر الشام وهم يحوّرون أغنية زياد الرحباني ليجعلوها: سوريا أحلى بلاك يا ولد؟». كان هذا السؤال مفتتح تعليقات واستطرادات متتالية، انزلقت بنا إلى «السياسة»، ما جعلنا نصمت فجأة ونضحك تعبيراً عن أن لا مهرب، وأننا عالقون حتى الهوس في التفكر والتحدث عن أحوال وأحداث وأخبار، واننا مغمورون كلية بشؤون السياسة وشجونها.
أكثر من نصف الحاضرين، كانوا قد ذهبوا في بداية المساء إلى ساحة الشهداء، ببيروت. ليقفوا قرب شجرة الميلاد الضخمة حاملين شموعاً. معتصمين تحت شعار «2012 سنة حرية سوريا». أي أنهم جاؤوا إلى السهرة منجزين آخر «نشاط» سياسي لهم في آخر يوم من العام 2011.
بدأ اعتصامهم الصغير، الذي لم يتجاوز عدد المشاركين فيه المئة شخص، عبارة عن تكفير عن ذنب ينوون اقترافه لاحقاً، أي ذهابهم إلى حفلة ليلة رأس السنة بقصد الابتهاج والرقص.
قبل منتصف الليل بدقيقة واحدة نبهتهم أن ما يفصلنا عن بداية العام الجديد ثواني قليلة. أي ان علينا التأهب جميعاً لنرفع نخب هذه اللحظة ونتبادل القبلات. لم أعرف من بادر إلى اطلاق صيحة: «سوريا… بدها حرية» الا اننا جميعاً من فور سماعنا الصيحة رددناها مرتين أو ثلاثاً، كما لو أننا في تظاهرة. ثم اننا رحنا نردد شعارات أخرى، ومقاطع من أغنيات ابراهيم قاشوش، متغلبين دفعة واحدة على الكبت الإرادي الذي اتفقنا عليه طوال ساعات دافعين كل كلام سياسي إلى خارج السهرة.
كانت تلك الصيحات الثورية في الليل البيروتي تأخذ طابعاً احتفالياً وابتهاجياً. كنا بالأحرى نحتفي بزهو بالغ بما فاجأنا به الشعب السوري، نحن اللبنانيين الذين عجزنا وما استطعنا أن نكمل «ربيع بيروت» ونوصله بـ»ربيع دمشق» كما حلمنا في ليلة رأس سنة 2005 2006. أطلقنا صيحاتنا مع شعور عميق بالذنب اننا خذلنا أنفسنا قبل أن نخذل السوريين بوعدنا أن ديموقراطية لبنان ستحرر سوريا، ليغدو أملنا الانتظاري الكسول ان ديموقراطية سوريا ستحرر لبنان.
سهرنا مبتهجين بما يفعله ويبدعه المواطنون السوريون، لكن أيضاً بمرارة إدراكنا اننا غارقون في بلادة السياسة اللبنانية وسقمها، وأننا نحيا في بيئة ملؤها الاحباط والتشرذم واللامبالاة. مئة شخص فقط في اعتصام تضامني مع الشعب السوري بوسط بيروت. مئة وعشرون شخصاً على الأكثر في الاعتصام الذي سبقه بأسبوع في المكان نفسه وللغاية نفسها، حيث يكون أفراد الأمن الداخلي وقوى الجيش اللبناني المولجة حماية الاعتصام من «الشبيحة» المحليين أضعاف أعداد المشاركين. في حين أن صخب كل الأحزاب والتيارات اللبنانية المؤيدة للثورة أو الموالية للنظام لا يولّد أكثر من عراضة ميليشيوية صغيرة أمام السفارة السورية لـ»الموالين»، وبيانات صحافية طنانة لـ»مؤيدي» الثورة. وهؤلاء وأولئك يتعاركون تحت لافتة الثورة السورية استكمالاً لانقساماتهم المحلية وعصبياتها.
في سهرتنا لم نفلح بتجنب السياسة، اذ اتيناها مواربة عبر تداول ما رأيناه، وقرأناه على الفيسبوك: «ستاتوس» من زياد يقول إن جمعاً من المثقفين اللبنانيين والسوريين في باريس يسهرون سوية، وأيضاً على إيقاع استدعاء أخبار الثورة وشجونها. «ستاتوس» آخر يقول إن الفتيات في المطعم البيروتي رحن مع سماع أغنية مارسيل خليفة «يا بحرية هيلا.. هيلا» «يا سوريا هيلا.. هيلا» «يا حرية هيلا.. هيلا».
على الأرجح سهرات كثيرة كانت هكذا. هنا في بيروت أو في أي مدينة عربية أخرى. المصريون أيضاً شاؤوا أن يقضوا اللحظات الأخيرة، من العام المنصرم في «ميدان التحرير» إصراراً منهم على أن ثمة مهمات ثورية لم تنجز بعد. وفي تونس كانت ليلة رأس السنة هي ذاتها مناسبة للاحتفال بالذكرى السنوية الأولى للثورة فيها.
بمعنى آخر، ما كان يجب ان تكون سهرة رأس السنة إلا على هذا المنوال، أي ان نستأنف في احتفالنا الليلي حالنا المستمرة منذ مطلع العام 2011. إذ كان عاماً لا يُصدّق بكثافته الزمنية، عاماً بوزن قرن كامل. في أثنائه تبدل عالمنا العربي على نحو لم يخطر في بال أشد الحالمين طموحاً. وعاش تحولات متتالية ومتسارعة وجذرية، سنظل مشغولين باحصائها ورصدها زمناً مديداً. عاماً شهدنا فيه، يوماً بعد يوم، تسارع الأحداث التي حبست أنفاسنا وخطفت أفئدتنا، شهقة شهقة من غير تقطع أو راحة.
في هذا العام المفصلي عشنا أعماراً مضاعفة، وانضغطت فيه تجربة جيل كامل بثراء قد لا يتاح لأجيال عدة أن تختبره وتكتسبه. ويمكن القول ان 2011 ما زال جارياً في سنة 2012، كدفق حار للحمم التاريخية التي انفجرت ابتداء من تونس ثم مصر وتلتهما ليبيا وبعد ذلك اليمن وسوريا وصاحبتها ارتدادات قوية في البحرين والمغرب والأردن.
في العام 1989 منح انهيار جدار برلين ثقة فلسفية بالغة للهيغلي الجديد فرانسيس فوكوياما ليعلن «نهاية التاريخ» (بلوغه ذروة سيرورته واكتمال معناه وتجلي روحه). تلك ثقة قد لا نملكها وان بدت مغرية وجذابة، لكننا مع ذلك نلنا اليقين منذ مطلع العام 2011، وتوطد هذا اليقين مع انصرامه، لنعلن «نهاية تاريخ» (من دون أل التعريف) إعلاناً مبرماً هنا في العالم العربي.
وهذا ما يستحق على الأقل أن نبذل له إحتفالية رأس السنة وأن نرفع له الأنخاب.
المستقبل