صفحات الناسمالك ونوس

تل الزعتر ـ الزعتري».. حين ينمو المخيم/ مالك ونوس

اكتسب مخيم الزعتري في الأردن شرف احتوائه أبناء الشعب السوري كلاجئين للمرة الأولى في تاريخ وجودهم على سطح الأرض. اكتسب ذلك الشرف، وألحق العار بالإنسانية لإغفالها المأساة اليومية التي يعيشها أبناؤه وأبناء مخيمات اللجوء السوري الأخرى في تركيا ولبنان، في سعيهم لاقتناص كسرة خبز أو قطرة ماء أو غطاء. ولإغفالها أيضاً المأساة الدائمة المتمثلة بموتهم وتدمير مدنهم وقراهم بل وبلادهم منذ أكثر عامين ونصف العام من دون أن تتخذ هذه الإنسانية موقفاً جدياً حاسماً يوقف هذه المجزرة المزمنة ويعيدهم إلى أراضيهم، على الأقل، بعدما فقدوا منازلهم. إغفال يصحبه إنكار لشعبٍ طالماً فتح صدره ومنزله للاجئين القادمين من العديد من بلدان العالم وأرسل المساعدات، رغم فقره، للكثيرين.

وبفعل المأساة التي وقعت عليهم لم يعد السوريون يشعرون بأي ضيم، أصبحت تُجَرَّب فيهم كل أسلحة العالم، أسوة بمن سبقوهم من الفيتناميين واليابانيين وأخوتهم العراقيين حيث تلقوا نصيبهم من كل أشكال القذائف والسيوف والبراميل المتفجرة وحتى السلاح الكيميائي. لم يعودوا يشعرون بالضيم، أصبحت أياديهم تمتد مُتضرِّعة إلى شاحنة توزع حصصاً يومية ملء الكف، أصبحوا متساوين مع الإثيوبيين والصوماليين وبقية الأفارقة. هم الذين ينتجون في عام واحد من القمح وبقية الأغذية ما يمكن أن يطعمهم لثلاثة أعوام.

لم يعد السوريون يشعرون بالضيم، أصبحوا موزعين في مخيمات الشتات فلا يحسدون أخوتهم الفلسطينيين، شعب الخيام. «يا للفرحة» أصبحوا مثل الجميع… ألم يكد تلفزيونهم الوطني أن يهلل مرة محتفلاً باكتشاف علاقة لتنظيم «القاعدة» بتفجير حي الكبّاس منذ سنوات: «إنها بصمات القاعدة» قال، «القاعدة وصلت إلى عندنا»… «يا للفرحة» أنظر أيها الغرب!

أصبح السوريون متروكين لمصيرهم، مشردين في داخل بلادهم وخارجها، تغيب عنهم الحكومات والمنظمات الدولية والمساعدات الجدية، وإن حضرت فَدَفْعاً للغياب (العار) الذي قد يحسب عليها في زمن ما.

ويغيب عنهم الإعلام المنشغل بترقب ولادة طفلِ نجمة ما أو بخيانة لاعب كرة لصديقته. وحتى تلفزيونهم يغيب، هذا التلفزيون الذي لا يعرف شيئاً عن أزقة مدن الخيام الجديدة التي تشكلها مخيمات لجوئهم. فيفرد مساحة في إحدى صباحاته لمناقشة تسرب التلاميذ الصغار من المدارس السورية متناسياً تسرب أكثر من أربعة ملايين سوري، بينهم تلاميذ سابقون، من بلادهم. فيغيب هذا التلفزيون عن وحُولِ طرقات المخيمات وعن خواء بطون أطفالها وأمراضهم وعذاباتهم، ويغيب عن أحلامهم في العودة إلى بيوتهم أو ما تبقى منها، إلى قراهم أو مدنهم أو ما تبقى منها.. إلى فؤوسهم التي تأكل الأرض وتُخرِجُ من ترابها كفافهم وكرامتهم.

إنه اللجوء، وحَّدَ السوريين والفلسطينيين بقصص الغربة والحسرة… وبالمجهول. إنه الزعتر، أعطى اسمه الشهي للمخيمات. فكان مخيم «تل الزعتر» بعد عام من الخروج الفلسطيني، وكان مخيم «الزعتري» بعد سنة من الاشتعال السوري. وكان أن ترك لأمره وأصبحت أحوال سكانه خارج أولويات الجميع، ديبلوماسيين ومفاوضين. لقد كان لجوؤهم غائباً عن اجتماعات «جنيف1» وفي الطريق إلى «جنيف2» هو غائب أيضاً… ومن المؤكد أنه سيبقى غائباً في «جنيف2» وبعده ليصبح الشعب السوري برمته جزئيات خارج الاهتمام حتى لو فرغت البلاد من سكانها.

كبر مخيم «تل الزعتر» وكبر معه أطفاله الذين ورثوا حلم العودة عن آبائهم وأصبحوا شباناً تحولوا من لاجئين مشردين إلى فدائيين. فأصبح المخيم ينجب مقاتلين، وبقي «الزعتر» يصلهم بفلسطين فكانوا يعودون إليه ببنادقهم ورصاصهم الذي هطل على رؤوسِ قتلةٍ حسبوا أن الأطفال قد نسيوا زعترهم ووجهتهم.

تتكرر قصة اللجوء ذاتها مع السوريين اللاجئين، فقد نما مخيم «الزعتري» ونما الحرمان والحنين وظل سكانه يحلمون بيوم يعودون فيه إلى قراهم سالمين. فإن بَعُدَ هذا اليوم فقد يقررون العودة ببنادق على أكتافهم. هم الذين لم ينتظروا طويلاً كي يعرفوا أن البندقية هي الرد على ذلهم اليومي في المخيم، وسبيلهم للعودة. فأصبح المخيم رديفاً للمقاتلين في الداخل، اشتدت سواعد شبانه وسط النسيان فأرسلهم إلى الوجهة الأولى. ويبقى هنالك من لا يريد أن يعلم أنهم أخذوا يعودون مقاتلين، وكلما طال لجوؤهم، زاد عددهم.

لكن وبعد سنوات كثيرة على تفجير الكبّاس، وبعد تشريف القاعدة للسكنى بيننا، ما زال السوريون يسمعون تلفزيونهم يقول: انظروا! إنها المؤامرة… إنها الحرب الكونية علينا…

لا توقفوها! فقط انظروا… صدّقوا واقتنعوا.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى