تمارين على الدعاية السياسية: امتحان غزّة
ورد كاسوحة
سواء أفضت الجولة الجديدة من الهمجية الصهيونية إلى تثبيت الرّدع كما تفهمه إسرائيل أم لم تفعل (وهو الأرجح) فإننا في الحالتين نكون قد ربحنا شيئاً. وهو ليس بالشيء العظيم طبعاً، لكنه من جملة الأشياء التي كان ممنوعاً علينا ولوجها من جانب «كارتيل» العمالة في الخليج. ربما سنحتاج مستقبلاً إلى من يخبرنا عن الكيفية الفعلية التي استقبل بها هؤلاء خبر وصول صواريخ المقاومة الفلسطينية إلى تل أبيب والقدس وهيرتسيليا. هم لا يحبّذون الصواريخ عادة، ولا يفهمون لماذا تحتاجها منطقة صغيرة ومحدودة جغرافياً مثل غزة. هكذا يقول لنا إعلامهم الصّفيق. أما إذا اضطروا إلى التعامل معها (اقرأ: شراؤها وتكديسها كالخردة في المخازن) فمن باب إسداء خدمة إلى مصانع الأسلحة في أميركا ليس إلّا. ومن يظنّ أن هنالك تناقضاً بين الأمرين ما عليه إلا أن يلقي نظرة على ما يفعلونه في سوريا. هناك أيضاً يتخلّون عن حساسيتهم المفرطة تجاه الصواريخ وما لفّ لفّها من أسلحة. يمكن الجزم كذلك بأنّ حمد بن جاسم في ما خصّ سوريا تحديداً، لا يتصرّف كنعجة أبداً. قبل أيام فقط، تحدث حسن نصر الله عن الأمر وعيّر وزير خارجية قطر بعجزه وبحديثه عن النعاج في وقت يستأسد فيه مقاومو غزة ضدّ ماكينة القتل الصهيونية. يبدو أننا سنسمع الكثير من معجم كليلة ودمنة من الآن وصاعداً. طبعاً هذا تفصيل في سياق أكبر هو سياق الحرب الدعائية المستعرة اليوم بين المعسكرين. كلّ طرف حالياً «يغرف ممّا يعرف»، وممّا ينسجم مع سياساته وانحيازاته. وهذه أيضاً من الممارسات التي تنتمي إلى الدعاية السياسية بشكل أو بآخر. لكن ميزتها اليوم بالقياس إلى الأمس أنها لم تعد من سقط المتاع. كانت كذلك مثلاً في 2006 حين طلب من قطر امبريالياً الوقوف إلى جانب حزب الله في مواجهته للعدوان الإسرائيلي. تطلّب الأمر أكثر من خمس سنوات حتى نكتشف أن الاثنين لم يكونا إلى جانب بعضهما البعض فعلياً! وكذا الأمر بالنسبة إلى النظام في سوريا. لقد أوكلت قطر بفعل ذلك حينها لضرورات التشبيك مع الجميع في سياق استدراجهم إلى مواقع أخرى. اليوم ما عادت هذه الضرورات قائمة بعد اهتزاز النظام في دمشق وانحسار دوره الإقليمي تدريجياً. بات بإمكان حمد بن جاسم أن يجاهر بما كان يضمره سابقاً: استمرار المقاومة في غزّة لا يخدم مشروعنا الفعلي. ومشروعهم حالياً هو الاستثمار في «الربيع». كم أمقت هذه الكلمة. أمقتها في سياق اصطفافي منذ البداية ضدّ كل التكوينات الطبقية المافياوية مهما قيل في توصيفها (ممانعة، عميلة… الخ). المهمّ أن تكون منسجماً مع ذاتك ومع دعايتك السياسية المنظّمة.
لهذا بالتحديد ما زلنا نتمرّن على النقد ونتشكّك في كلّ مصطلح ونمحّصه حتى النهاية. فعندما يتحدث حمد بن جاسم عن «الربيع» نعرف أنه يقصد العكس، وعندما يصطفّ حسن نصر الله إلى جانب المقاومة الفلسطينية نعرف أن اصطفافه لن يكون كاملاً ما لم يبد تعاطفا أكثر مع من احتضن هذه المقاومة طيلة عقود. أيضاً لا يجوز أن نبالغ في مزاولة النقد كما لو كان لأجل النقد فحسب. في النهاية الممارسة النقدية لا تنفصل عن الانتماءات الأيديولوجية، وهذه الأخيرة لا تمارس إلا بوعي كامل وبدراية مطلقة أننا جزء لا يتجزأ من آلة الدعاية السياسية. وفي هذه الحرب العدوانية على غزة لا نستطيع من موقعنا المنحاز إلى المقاومة مهما كان شكلها إلا أن نكون في صلب هذه الدعاية. ولا يغيّر من الأمر شيئاً إن كنّا في ذلك نقديين أم لم نكن. فالأولوية الآن هي للتعبئة والتحشيد أمّا النقد فيأتي لاحقاً. هكذا فعل الكثيرون عندما واكبوا حرب تموز. ومن ثم أعادوا الكرّة عندما صبّت إسرائيل حممها على غزة في حرب 2008 ــ 2009. أما التغيّرات التي طرأت على الواقع منذ ذلك الحين فلا يجوز أن تعوقنا عن فعل الشيء ذاته، وخصوصا أن «التعديل الجزئي» الذي أصاب العلاقة بين النظم والشعوب سيسمح للفاعلين السياسيين بأن يكونوا أكثر قدرة على ممارسة الدعاية سواء من موقع التأييد للمقاومة أو من موقع العداء لها. وهذا بالتحديد ما قصدته من تناولي \موقفي حسن نصر الله وحمد بن جاسم. فالاثنان يعبّران شئنا أم أبينا عن «تيارين عريضين» يتنازعان تركة رديئة هي تركة «الممانعة والاعتدال». سيخرج علينا من يقول إنّ ذلك غير دقيق، وانّ من الإجحاف المطابقة بين من يقاوم ومن يساوم (اقرأ: من يعدّ نفسه نعجة). نظرياً لا مجال للمقارنة بين المنطقين، لكن عملياً يمكن فعل ذلك. سأجرّب توضيح هذه النقطة أكثر: ثمّة مشكلة لدى البعض في فهم الآلية التي تحكم عمل التيار الوريث للحقبة السعودية الدعائية. وهي مشكلة مستعصية فعلاً.
لا يدرك هؤلاء أن وظيفة المال السياسي الذي كانت تستخدمه مستعمرة آل سعود في السابق لشراء النخب والأحزاب والتيارات السياسية قد تغيّرت. كانت هذه الوظيفة ملائمة للحقبة الناصرية أكثر من غيرها، لأن الأخيرة مثّلت بالفعل وجداناً جمعياً بأكمله، ولأنّ محاصرة وجدان مماثل كانت تقتضي ما هو أكثر من منظومة قيمية مضادة.
بهذا المعنى لم تمثل الوهابية المسنودة بالريع النفطي قيمة في حدّ ذاتها بقدر ما كانت تعبيراً عن انحياز اجتماعي اقتصادي ضدّ كلّ ما كان يمثله عبد الناصر حينها (تبنيه لاشتراكية بوجه عربي أو مصري، ترجمة انحيازه إلى الفقراء والطبقات الشعبية إلى خطوات ملموسة، نزعته المعادية للاستعمار… الخ). مرّ على تلك الحقبة الآن أكثر من أربعين عاماً، وما تغيّر فيها كان قليلاً بالقياس إلى حجم الطموحات التي سبقتها. الأمر الوحيد الذي طرأ عليه تعديل فعلي منذ ذلك الوقت هو وظيفة الريع النفطي. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتدمير العراق على مرحلتين أصبحت وظيفة الريع ذاك أكثر تعقيداً. يمكن أن نلمس هذا الأمر ملمس اليد من مراقبة الأطوار التي رافقت نقل هذا الدور من ضفّة إلى أخرى. من ضفّة آل سعود إلى ضفّة آل ثاني. الأرجح أنّ حصول ذلك لم يكن بعيداً عن «التغيّرات البنيوية» التي أصابت المركز الرأسمالي ذاته. فبعد سنوات من استقرار آلية النهب على وتيرة معينة (غزو الأطراف أو التدخّل فيها عسكرياً لتوسيع الأسواق أو لتأمين أخرى بديلة) وجد الغرب أنّه لا يفعل شيئاً إلا مراكمة الخسائر، وبكلفة باهظة جداً لا تغطيها أية أرباح متحققة (غزو أفغانستان تحديداً لا غزو العراق). وكان البديل أنّنا نستطيع جني الأرباح ذاتها إن لم يكن أكثر ولكن بكلفة أقلّ.
أطلق البعض على هذه الكيفية الجديدة اسم الحرب الناعمة أو الحرب غير التدخّلية أو الحرب عن بعد أو… الخ. بطبيعة الحال بدا تابع تقليدي كالسعودية غير مناسب لمهمّة كهذه، فهو وان امتلك الجغرافيا والعمق الجيوسياسي فقد ضاعت منه الامكانية التي تتيح له التكيّف مع الحقبة الجديدة من النّهب الاستعماري. في الأثناء كان العمل جارياً على تجهيز الجارة اللدودة قطر بكلّ ما هو ضروري لمواكبة المرحلة. طبعاً الرّيع الموجود أصلاً هو من جملة ما يمكن استخدامه هنا، لكن في ظلّ عجز السعودية عن تطويره بات السؤال عن الجديد الذي قدمّته قطر في هذا المجال أكثر من ضروري، لكن في الآونة الأخيرة بدا أن النموذج القطري يعاني هو الآخر مشكلات جمّة. لم يعد الركون إلى دور «الجزيرة» ممكناً بعدما زالت عنها الهالة التي رافقتها طويلاً. كان بمقدور الدعاية السياسية التي تزاولها «جزيرة» قطر أن تعيش عمراً أطول لو لم تستعجل السلالة هناك التخفّف من التربيطات التي أقامتها مع الخصوم في سوريا وإيران. ظهر الغرب هنا كأنّه في غفلة عمّا يجري خلف الفوضى التي أسهمت الفقاعة القطرية في إحداثها. هو يعرف حتماً أنّ قطر إمارة بلا داخل سياسي. وهذا في حدّ ذاته تناقض عجيب، إذ كيف باستطاعة مشيخة يملك أميرها كلّ من فيها وما فيها تقدير التداعيات الناجمة عن إسهامه بالوكالة عن السادة البيض في خلخلة «بنى دولتية» تمتلك دواخل حقيقية.
تكليفه ذلك يعني خروج اللعبة عن القواعد التي رسمتها الامبرياليات الغربية، لا بل توسّعها لاحقا لتصيب الخليج ذاته، الذي هو كناية عن قواعد أميركية محاطة «بتجمّعات أنشئت على عجل» (باستثناء نجد والحجاز، التي هي الكيان الحقيقي للجزيرة العربية). الموضوع هنا بحاجة إلى بحث مطوّل سأتناوله لاحقا بالتفصيل. أما الآن، فسأكتفي بالقول إنّ الغرب لم يفلح في معاودة إنتاج الدور القطري مرّة أخرى. المحاولة الأولى في منتصف التسعينيات نجحت لأنّها أتت بالتزامن مع مرحلة انتعاش كان يعتقد أن الرأسمالية ستعيشها طويلاً (حقبة كلينتون)، وكان يعوّل أيضاً على أن فوائضها ستسمح بابقاء المنطقة هنا تحت السيطرة ولو بأدوات ناعمة. اليوم تغيّر الوضع كلّياً. الامبرياليات دخلت مرحلة الكوما الفعلية رغم كلّ الدعاية الاقتصادية التي توهمنا العكس، والأدوات الجديدة التي كلّفت حراسة عملية النّهب (في الخليج وفي غيره) بعد غزو العراق لم تعد قادرة على تسليم البضاعة، لكن مع ذلك لا يجوز أن يستهين المرء بقدرة هؤلاء على مقاومة الدينامية الجارفة التي تبشّر الآن بتهميشهم ووضعهم على الرفّ، تماماً كما وضع غيرهم قبل سنوات. واليكم مثالاً عمّا أقول: فوائضهم المالية الهائلة الناجمة عن عملية تدوير «الإنتاج» وتصديره إلى الغرب ما زال بإمكانها شراء المزيد من النخب والتيارات التي لم تستوعب بعد حجم التغيّرات الحالية. والمؤسف حقّاً أنّ من هاجر إلى الدوحة أو من مكث فيها مرغماً إنّما يؤمّن الغطاء لاستمرار عملية الشراء تلك، رغم معرفته المسبقة بعطالتها وظيفياً بالنسبة إلى الغرب. غريب فعلاً أمر أولئك الرفاق السابقين. هم يعتقدون على ما أظنّ أن الإمكانية التي تتيح لهم مواكبة الحراك الجماهيري العارم في المنطقة ما زالت قائمة.
يبدو أنّ ما قلناه مرّة للمقاومة في لبنان لم يصلهم أيضاً في الدوحة. حسناً. سأعيد تكرار المكرّر مرّة أخرى: كما لا يستطيع حزب الله تجذير المقاومة الشاملة على جميع الجبهات اذا مضى قدماً في إدارة الظهر لما يحدث في سوريا من جرائم ومجازر (سيأتي لاحقاً وقت الحديث عن تدخّل حزب الله في سوريا لحماية مواطنين سوريين من بطش المعارضة المسلحة التي نكّلت بهم لمجرّد أنّهم شيعة)، كذلك ليس في مقدور هؤلاء وعلى رأسهم عزمي بشارة أن يزعموا تماهيهم مع «الحالة النضالية» في سوريا وفي غيرها، ما داموا مصرّين على ارتباطاتهم الحالية.
ذلك أنّ بقاءهم في مستعمرات الخليج ولو لأسباب محض حياتية يعني في هذه اللحظة الفارقة تحديداً موافقتهم على قيادة التيار الرّجعي اليميني الذي تتزعّمه قطر وتواكبه السعودية عن بعد وتركيا عن قرب. هم الآن وحتّى إشعار آخر جزء أصيل من الدعاية السوداء التي تزاولها مستعمرة قطر ضدّ قضيتنا بالوكالة عن السادة البيض القذرين الذين تخدّم عليهم.
اليوم تتيح لهم «الانتفاضة» الجارية في فلسطين (بجناحيها في الضفّة وغزّة وربما غدا في اراضي 48) فرصة أخيرة لمغادرة اصطفافهم إلى جانب الأعداء الطبقيين في الخليج المحتلّ. ما عليهم الآن إلّا أن يخطوا خطوة واحدة باتجاه… فلسطين. ليس ذلك بالكثير أبداً. فعلاً ما بدأته «الميادين» (رغم إهمالها بسبب الانشغال بغزّة لما يجري في سوريا والبعض يلمّح إلى أن الأمر مقصود) منذ اللحظة الأولى للعدوان لن يكتمل إلا بمساهمتهم. الوقت لم يفت بعد والمعركة على وشك أن تبدأ رغم التهدئة الوشيكة واللحظية حكماً. أدعوهم من هذا المنبر إلى أن يعودوا جزءاً من دعايتنا السياسية ضدّ الجميع: الامبرياليات الغربية، مستعمرات الخليج وسلالاته العفنة، السلالة الحاكمة في سوريا وحكم الملالي في إيران. لنتمرّن معا على دعاية سياسية فاعلة لا تكترث بالمعسكرات ولا بمن يقف خلفها. دعاية تمجّد صواريخ فجر 5 عندما تنهمر على إسرائيل وتنتقد صانعيها «عندما» يصطفّون إلى جانب النظام في سوريا (لا تناقض بين الأمرين على فكرة). من قال أصلاً إنّ الدعاية تتناقض مع الخطاب النقدي، إلّا إذا كان المقصود بالدعاية هنا نفايات وسموم «الشرق الأوسط» الليكودية. على أيّ حال هم يعيشون اليوم أسوأ أوقاتهم. ادعوا لهم ولرأس سلالتهم بالخير و… طول البقاء.
* كاتب سوري
الأخبار