تمرد المثقف السوري وتفسخ البنية الكليانية لدولة البعث
أنور بدر
علامات استفهام كثيرة أحاطت بمواقف المثقفين العرب من انتفاضات الربيع العربي التي شهدتها أكثر من دولة عربية، وليس أدل على ذلك من قبول الكاتب والمفكر جابر عصفور لحقيبة الثقافة في محاولة فاشلة لتلطيف وجه النظام الاستبدادي في مصر قبيل سقوطه بأيام، فيما يتلكأ بعض من رموز الثقافة السورية في إعلان مواقفهم من انتفاضة الشعب السوري التي تدلف الآن لعامها الثاني محملة بالكثير من الدم والتفاؤل معا.
علامات استفهام كانت تتقصى مساحة الدور الطليعي للمثقف من تلك الحراكات انطلاقا من المفاهيم والتعريفات اليسارية للمثقف العضوي وفق مساهمة ‘غرامشي’ حول المثقف الملتحم بجماعة أو شريحة أو طبقة اجتماعية ما يدافع عن حقوقها ورؤيتها ومصالحها، خاصة وأن تلك التعيينات الطبقية قد غابت حقيقة عن انتفاضات الربيع العربي عموما، باعتبارها ثورات وانتفاضات الشعوب ضدّ أنظمة الفساد والاستبداد التي ألغت حرية الإنسان وكرامته، لكن السبب الأهم لهذا الغياب حقيقة يأتي نتيجة إفراغ تلك الأنظمة للمجتمعات العربية من كل البنى النقابية والمدنية التي تشكل شرايين الحياة لأي مجتمع حي، فلا نقابات حرة ولا اتحادات مهنية، وحتى النوادي الثقافية والرياضية أتبعت لسلطة وهيمنة الحزب القائد للدولة والمجتمع، حيث شوهت تلك الأنظمة مفهوم المثقف ودوره العضوي في مجتمعه من خلال السعي الحثيث لتأطيره في نقابات واتحادات وصيغ تعاونية تخضع لأيديولوجيا واستبداد السلطة السياسية معا.
وفي الحالة العيانية ألغت هذه الأنظمة الكليانية أية إمكانية لوجود تعبيرات مستقلة للمثقفين السوريين، وبالتالي لم تظهر خلال الشهور العشرة الأولى من عمر الانتفاضة الشعبية إلا تعبيرات فردية هنا وهناك، كبيان المثقفين بشأن ‘الحليب لأطفال درعا’ أو دعوة يتيمة للتظاهر في حي الميدان، لكن مطلع العام الجديد حمل ثلاث مبادرات مفاجئة حقيقة، حيث أعلن في النصف الأول من كانون الثاني/ يناير عن تشكيل ‘رابطة الكتاب السوريين’ تلاها الإعلان عن ‘تجمع فناني سورية ومبدعيها الأحرار’ في إطار فعاليات ‘أيام قرطاج المسرحية’، وذلك بمشاركة عدد من الفنانين السورين والعرب والأفارقة، تلاها من دمشق الإعلان عن ‘تجمع التشكيليين السوريين المستقلين’، وفي العشرين من شهر شباط/ فبراير الحالي أعلن عن تأسيس ‘رابطة الصحافيين السوريين’التي ضمت عددا من أسماء الإعلاميين من داخل سورية وخارجها.
نقرأ في بيان ‘رابطة الكتاب السوريين’: ‘نحن مثقفو سورية المتنوعو الأصول والمشارب، نعتزم تأسيس رابطة للكتاب السوريين الأحرار، تعبر عن مشاركتنا في الثورة السورية، وعن شعورنا بالحاجة إلى إطار ديمقراطي ومستقل لعموم الكتاب السوريين، يعبر عن الواقع الجديد لسورية التي تولد الآن في شوارع الحرية، عبر تأسيس الرابطة اليوم نعمل على أن تستعيد الثقافة دورها التغييري والنقدي والمحرر، ويستعيد المثقفون استقلالهم وقدرتهم على المبادرة والتجديد الفكري والجمالي والأخلاقي، وأن نضع أنفسنا في صف شعبنا والدفاع عن حريات مواطنينا وحقوقهم ووحدتهم’.
وأضاف البيان: أنه من شأن الرابطة أن تشكل إطاراً حراً ومنصة للشعراء والكتاب والمفكرين والأدباء السوريين الأحرار المشاركين في صنع سورية الجديدة، والذين يفتشون عن إطار عملي للتفاعل فيما بينهم، بما يساعد على تسريع عملية الانتقال من نظام الاستبداد والقمع والإقصاء إلى نظام ديمقراطي مدني تعددي، يتيح أوسع الفرص للطاقات الإبداعية الأدبية والفكرية السورية… كما تتطلع الرابطة أيضا إلى المساهمة في إصلاح سلم القيم العام لمصلحة المعرفة والعمل والابتكار، على سلم القيم الحالي الذي يعلي من السلطة والمال والامتياز.
بينما شدد بيان التشكيليين السوريين على الجانب النقابي بقوله ‘يجد الفنانون التشكيليون السوريون أنفسهم أمام استحقاق طال تأجيله: تأسيس كيان مهني مستقل، يخصهم ويشبههم ويدافع عنهم ويعبر عن خياراتهم الفكرية والإبداعية في هذه اللحظة المفصلية من تاريخ شعبهم’.
أضاف البيان ‘بعد أن ابتكرت الإنسانية فكرة النقابة المهنية التي تنظم حقوق ومطالب ونضالات أعضائها وتدافع عنهم في وجه السلطة السياسية وسطوة المال، جاءت السلطات الاستبدادية في عدد كبير من بلدان العالم ومنها السلطة في بلدنا المنكوب لتجعل هذا الكيان مسخا تابعا من مسوخها..’
بالمقابل نجد أن بيان ‘تجمع فناني ومبدعي سورية من اجل الحرية’ يتحدث في حقل السياسة فقط، وهذا الحقل على أهميته لا يلغي الحاجة الماسة حقيقة إلى إطارات نقابية جديدة، يحرض الوضع السوري العام والانتفاضة الشعبية بشكل خاص على ولادتها، بل ينتهي البيان الذي بدأ بتوصيف الحالة السورية إلى تحميل النظام ‘مسؤولية كل نقطة دم تسفك في سورية’ مع دعوة للعصيان المدني! وتحريض كل أبناء سورية الأحرار للخروج عن الصمت وأخذ دورٍ فاعلٍ لرفض الظلم والقتل وانتصاراً للحرية.
من جهته يوضح البيان التأسيسي لرابطة الصحافيين السوريين أن هذه الخطوة جاءت ‘نتيجة تفاعل مع حراك الشعب السوري، وتعبيرا عن التضامن معه والمشاركة في الثورة ضد النظام الاستبدادي الأمني، كما أنها تعبير للانحياز إلى خيار المؤسسات المدنية التي قام نظام الاستبداد بتفريغها وتحويلها إلى مؤسسات بيروقراطية تابعة للأنظمة الأمنية’، خاصة وأن نظام البعث احتكر كل وسائل الإعلام منذ استلامه السلطة عام 1963 وحول اتحاد الصحافيين إلى مجرد منظمة بيروقراطية حاملة لأيديولوجيا الحزب الحاكم ومدافعة عنها، بعيدا عن أية تقاليد مهنية أو نقابية.
كما أكد البيان أن الرابطة مفتوحة لكل الصحافيين داخل وخارج سورية، مؤكدا على التعددية التي يقوم عليها المجتمع السوري وعلى ضرورة فتح المجال لمكوناته للتعبير عن نفسها واحتفائه باللغات التي تستخدمها مكونات الشعب السوري العربية والكردية والآشورية والتركمانية وغيرها.
ومن خلال متابعتنا لهذه المبادرات وما انطوت عليه نلاحظ أنها جاءت للتعبير عن تمرد المثقف السوري على وضعيته المزرية في إطار دولة البعث الكليانية، وهو ما يشي ببدايات تفسخ هذه الكليانية ويرشح لانهيارها المتسارع والدراماتيكي، لكنه يثير في الوقت ذاته العديد من الإشكاليات النظرية والسياسية في آن معا، فإذا كان مطلوبا من تلك التعبيرات النقابية استعادة المثقف السوري إلى عضويته الاجتماعية المفقودة سابقاً، بمعنى وقوفه إلى جانب الشعب السوري وثورته من أجل الحرية والكرامة، كما عبرت تلك المبادرات في بياناتها التأسيسية، فإنه من الضروري جدا أن تعي هذه الأطر دورها النقابي المطلبي بالاستقلال عن السلطة السياسية وعن أي سلطة حزبية أخرى، كي لا تعيد إنتاج ذات البنى الإقصائية لدولة الكليانية البعثية، فأي كيان نقابي يفترض الانتماء التطوعي الحر، ويفترض حرية تأسيس تعددية نقابية على أساس المصالح المشتركة لخدمة أعضاء النقابة ضد عسف السلطة، أي سلطة.
القدس العربي