ديمة ونوسصفحات الثقافة

تمّام عزام: لا ماضي قبل الثورة

 

ديمة ونوس

منذ بداية الثورة، انهمك تمّام عزام، بالمشهد السوري. راح يوثق ما تمرّ عليه ذاكرته عبر لوحات انتشرت سريعاً على الـ “فيس بوك” في زمن فقدت فيه صالات العرض، بعضاً من أهميتها. الواقع، أحداثه المتجددة كل لحظة، فداحة ما يجري، كلها أمور لم تعد تحتمل الانتظار والتريث والتأمّل والتنظير. لم يعد الفن مشروع معرض رابح أو خاسر، بقدر ما هو وسيلة للتعبير والاحتجاج واللهاث وراء إيقاع فرضه الشارع الثائر. لم تعد ثمة فرصة للرموز لابتداع خطط عمل وتنفيذها. خرج الشارع رغماً عن الجميع. اللحاق به لم يكن هيّناً. هذا ربما ما دفع الكثير من الفنانين التشكيليين المخضرمين على الاعتكاف والصمت. والصمت هنا لا يعني الوقوف في صف النظام أو التواطؤ على الثورة. بالعكس، لم يتردد الكثير من الفنانين السوريين في التعبير عن مواقفه المؤيدة للثورة منذ اللحظة الأولى، لكنه تعبير نصّي نقرأه على صفحاتهم على الـ “فيس بوك”، أو من خلال توقيعهم على بيانات تطالب بإسقاط النظام. قلّة منهم فقط، انخرطت في أعمال فنية مباشرة عن الثورة. وأعتقد أن البعض وجد صعوبة في الرسم، حتى وإن كان عن مواضيع لا تمت بصلة مباشرة إلى ما يحدث.

خريطة سورية، كانت من أوائل الأعمال التي اشتغل عليها تمّام عزام بداية الثورة. كثيرون استبدلوا صور بروفايلاتهم على الـ “فيس بوك” بالخريطة المدمّاة حيناً والمترعة بالسواد حيناً آخر. مرّت سنتان تقريباً، وتمّام لم يضجر من توثيق أبرز أحداث الثورة عبر لوحاته. من الخريطة إلى رصاصة القنّاص إلى الدمار وتمثال الحرية يقف شامخاً في إحدى أحياء حمص التي تحولت إلى ركام. من طلاب المدارس الذين لم يعثروا لدى عودتهم إلى مقاعدهم إلا على الخراب. إلى طائرات الميغ تعبر سماء “الوطن” وتقصف “الأعداء”. ألم يضجر تمّام من التوثيق؟ ألم تخفت حماسته بعد مرور سنتين تقريباً، هو الذي ظنّ مثل الكثيرين أن النظام لن يصمد أكثر من أشهر قليلة؟

“أنا لا أوثق!! ما أقوم به هو الفعل الاعتيادي الذي تعلّمته في الحياة. لن أستطيع التوقف عن الرسم بأي حال. بإمكاننا أن نتحدث عن الحزن وحجم الدمار الذي أصابنا جميعاً، لكن أن نتحدث عن الضجر والناس ما زالت في ساحات البلاد طولاً وعرضاً، فهذا ليس سوى ابتعاد عن المكان الذي أصرّ الناس على الوصول إليه. لكن حجم الحزن والغضب، لا شك أنّه كبير جداً”.

بعد مرور السنة الأولى من الثورة، خرجت أعمال تمّام عزام من إطارها الـ “فيس بوكي”. أقام معرضاً نهاية العام الماضي في غاليري أيام – دبي. ما الذي يمكن أن يتغير بالنسبة إليه بعد أن أصبحت أعماله معروضة للبيع؟ “ليس هنالك من إطار للعمل الفني. ينتقل العمل دائماً بطرق كثيرة. من الصورة إلى الكلمة والعرض. وغالباً لا تشاهد الأعمال الفنية إلا على شكل صور، وفرصة الاحتكاك المباشر بالعمل تعطي بعداً آخر للمتلقي وللفنان على حد سواء. التغيير الذي يمنحه عرض الأعمال لي يضعها في سياق آخر. التلقي المباشر يشعر الفنان بأنه فقد عمله! وعندما تعلّق تلك اللوحات على جدار ما – وهي الأعمال الفنية التي أنجزنها بعد الثورة-  فإن ذلك يعطي بعداً جديداً للمتلقي لاكتشاف عمل فني من نوع آخر”.

وعلى الرغم من شغفه المستمر بتوثيق أحداث الثورة الأبرز (قصف المخابز- استخدام الكيماوي- الوضع المزري في المخيمات…)، إلا أن المشاهد يتساءل ربما: ما مدى استمرارية هذه الأعمال؟ هل أهميتها تنبع من اللحظة أم أنها ستستمر لسنوات طويلة كشاهد على ما يجري؟ “لا شك أن الأعمال سيتفاوت تأثيرها مع مرور الوقت. إلا أنني غالباً ما أحاول إنجاز الأعمال تحت تأثير مزدوج للحظة من جهة وللقيمة الفنية من جهة أخرى. تسرقني اللحظة، ولا أعير كبير اهتمام بالمستقبل، فلا ماض قبل الثورة بالنسبة لي!!”.

بداية الثورة، كان عزام يكتفي بالرسم للتعبير عن مواقفه. الآن، صار مسيساً أكثر، يكتب ويعبّر ويعثر على وسائل أخرى للبوح غير الرسم. (سأرسل إلى الزعتري ثلاثة مجلدات ضخمة أمتلكها لأدونيس، وبضع مسرحيات لزياد الرحباني، سأرسل ملصقات مهرجان دمشق السينمائي المضحكة والمسروقة، والموقعة أبداً بإسم واحد (كذا معلّا)، سأرسل إلى الزعتري أفلام دريد لحام – لم تضحكني يوماً- ومعها المجموعة الكاملة لعلي الديك، سأرسل كتاباً أهداني إياه أستاذي (مروان) كان دليلاً إلى الثورة آنذاك، ولن أنسى طبعاً دواوين نزيه أبو عفش وأنسي الحاج، ومطبوعات كانت تحمل رسومات (عادية جداً) لنذير نبعة… والقائمة طويلة. سأرسلها جميعها إلى الزعتري، علّها تكون ناراً تدفئ طفلاً هناك).

هل الواقع فاق الخيال والرسم وصارت الكلمات وحدها توصل المعنى أحياناً؟ “خلقت وسائل التواصل هذه أساساً لأسباب أخرى لكن: تمرّ الكثير من اللحظات، أعتقد خلالها أن ذلك كل ما أستطيعه، ولا أعتقد أن الرسم أو الكتابة أو كل وسائل التعبير الأخرى، تستطيع أن تختزل حزن ذلك الشيخ على باب الفرن، أو برد المخيّمات وجوع النازحين إليها. لن تختزل لحظة سقوط القذيفة، أو صوت الطائرات. لذلك نستعير القليل، من خوف الناس وحزنها، القليل جداً، لنعبّر نحن أيضاً عن حزننا”.

بعد انتشار كبير وتسريب متهافت لصور وفيديوهات شنيعة تظهر الذلّ والقتل والإهانة، ماذا يبقى لنا من الفن والحلم والخيال؟

“أنا أصرّ على مشاهدتها كلّها! فأين الألم من ذلك الذي يحدث؟ أشاهدها وأكرّر أنني لن أنتقم، لكن

لا تصالح على الدم.. حتى بدم!

لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ

سيقولون:

ها نحن أبناء عم.

قل لهم: إنهم لم يراعوا العمومة في من هلك”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى