صفحات العالم

تناقضات سوريا تبلغ ذروتها!


د. نقولا زيدان

(لقد حدث ما لم يحدث من قبل: لقد سرق العامة مومياء الفرعون)

ـ بردية من الاسرة الحادية عشرة ـ

لقد جرى في سوريا التي تهزّها من أقصاها لأقصاها انتفاضة شعبية هائلة منذ سبعة عشر شهراً، حادث طاغ لم تشهد له البشرية نظيراً قط: لقد ترك رئيس الحكومة السورية منصبه والتجأ إلى الخارج. ولم يهز الحدث العالم بأسره فحسب، نظراً لفرادته وجدّته وغرابته، بل طرح عملياً النظام الأسدي الفاشي كله على الأرض إذ أثار موجة هائلة من التساؤلات حول حقيقة ما تبقى في جعبة النظام من مساندين له وأنصار على أعلى مستويات الحكم ليستمر وسط البطش والقصف والمعارك الضارية والتدمير المنظم والجنوني.

بالطبع عمد النظام الاسدي ليمتص الضربة الماحقة التي صعقته الى نشر اكاذيب تعوّدناها في الأنظمة التوتاليتارية والفاشية ان السلطة كانت في صدد اقالته لكنه سارع الى الانشقاق. كلام ضعيف وادعاءات خاطئة لا تقنع أحداً، والأنكى ان رياض حجاب رئيس الحكومة الذي انحاز إلى الثورة كان قد تدبر اخراج 11 من اشقائه وشقيقاته بأيام مع عائلاتهم من البلاد مخافة وتداركاً لشر الانتقام من نظام لا يتورع عن التنكيل والتعذيب والتصفية بحق اقارب خصومه السياسيين وانسبائهم، حقاً ان النظام الأسدي قد فقد صوابه واصيب بضربة محكمة زعزعت كيانة المتداعي المنهار.

ولم تصب عملية انشقاق حجاب نظام دمشق وحده بالهلع بل راحت موجة من الشائعات تجوب البلاد مفادها ان الرئيس نفسه مصاب لدرجة أن سارع احد المواقع الروسية على الانترنت ليأخذ هو على عاتقه طمأنة الرأي العام ان الاسد ما زال على قيد الحياة.

بالطبع كان دوي الحادث هائلاً وصلت تداعياته الى حليفه الرئيس النظام الايراني واصدقائه عندنا وعلى رأسهم حزب الله، فسارعت طهران إلى إرسال سعيد جليلي رئيس المجلس القومي الايراني الى بيروت للاطلاع من كثب على حقيقة الوضع اللبناني الهش المتعفن المتأكّل وهو الذي اصبح اشبه بمحمية ايرانية تظللها عمامة “الحزب” الذي أصبح عملياً يمسك بمفاصل الدولة عندنا فلم يترك للآخرين سوى الشكل الخارجي والمراسم الرسمية للحفاظ على ماء الوجه. ثم طار جليلي الى دمشق ليطلع من الاسد على حقيقة وضعه ويقدم له دعماً معنوياً هو بأمس الحاجة إليه. فكان تصريح جليلي من دمشق “ان إيران لن تسمح بكسر محور المقاومة (التسمية المتعارف عليها عندهم) في حلقتها الوسطى، أي سوريا. بل عمدت طهران إلى إرسال وزير خارجيتها الى تركيا التي حشدت قوات ضخمة على امتداد حدودها الجنوبية الشرقية لاقناع حزب العمل الكردستاني (PKK) بالقوة بعدم تحويل نفسه إلى مطية للنظام السوري، خصوصاً بعد زيارة لافتة لوزير خارجيتها داود اوغلو الى “اربيل” حيث غسلت حكومة اقليم شمالي العراق الكردي يديها من أي تورط في مغامرة “حزب العمال” الحمقاء.

لقد أصبحت المواجهة الدائرة الآن في سوريا مكشوفة، ويتضح التورط الايراني بإرسال مقاتلين من الحرس الثوري الايراني وحزب الله اللبناني ذي الولاء الايراني شبه المعلن، وتسعى إيران للجم التوتر التركي من جهة ولاعطاء الفرصة للآلة العسكرية السورية لسحق حلب وتحويلها إلى انقاض، رغم تواصل الانشقاقات في صفوفها من جهة أخرى.

وتشخص أبصار المجتمع الدولي الى الاردن الذي علاوة على تدفق اللاجئين السوريين إليه قدم الحماية والايواء لرئيس الوزراء السوري المنشق واقاربه حيث تم نقلهم الى قطر عبر مطار المفرق (شمالي الاردن) على الأرجح. إلا ان النظام الاردني ما زال يميل الى عدم الدخول الآن في مواجهة مكشوفة مع نظام الأسد آخذا على محمل الجد نصائح وزير الدفاع الاميركي ليون بانيتا ولوران فابيوس وزير خارجية فرنسا التي سارعت إلى ارسال مساعدات طبية واغاثة اخذت مكانها الى جانب المساعدات السعودية العاملة هناك منذ شهور.

عندما استقدم الأسد مقاتلين من إيران وحزب الله اللبناني لم يكن فعلياً بحاجة ماسة إليهم بل كان يرمي الى توريط إيران وحلفائها في شأن سوري داخلي وللدلالة على تضامن هؤلاء العملي معه في معركته المستميتة.

فهو ديكتاتور مستبد يرفض عملياً أية تسوية سياسية للأزمة السورية. الدليل القاطع على ذلك انه عمد الى إفشال المبعوث الدولي العربي كوفي أنان عندما استمرت كتائبه باطلاق النار دون هوادة على المعارضين السوريين وقصف المدن والقرى أمام سمع وبصر المراقبين الدوليين غير آبه لا بالرأي العام الدولي ولا بقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ما دامت قرارات مجلس الأمن والفصل السابع تحت رحمة الفيتو الروسي الصيني المزدوج. كأنه حقاً يسعى ما أوتي إلى اشعال المنطقة برمتها دفاعاً عن مواقعه المنهارة. بل لا يتورع عن احراق “حلب” بأسرها وإلا كيف يجرؤ على إرسال الطائرات المقاتلة وقاذفات القنابل والمروحيات وقد تحوّلت المعركة هناك الى حرب شوارع حيث يعجز الطيران عن تسديد اصابات دقيقة وناجعة عسكرياً.

ان الرجل يحشد عدة الوية تحاصر حلب حيث يزمع اقتحامها بعد تدميرها تماماً سواء بالمدفعية الثقيلة أو بالطيران، إن رجلاً كهذا المصاب الآن بالهلع، قد يعمد لسحق احياء بأكملها في “حلب” إلى اللجوء إلى الكارثة الا وهي السلاح الكيماوي وهو أسوأ الاحتمالات.

أمام هذا المنعطف السياسي والعسكري تزداد احتمالات مقابلة بعودة مؤتمر جنيف الاخير للدول الخمس الدائمي العضوية في مجلس الأمن للانعقاد. إلا ان المأزق الجدي (di lemme) الماثل أمامنا هو انه اصبح يستحيل في آن معاً الوصول الى حل سياسي للأزمة السورية والابقاء على حكم الأسد في وقت واحد، والمؤتمرون بمن فيهم الروس أنفسهم يدركون ذلك أكثر الآن.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى