صفحات الناس

تهجير وإغتيال الأدمغة السورية

مروان أبو خالد

“لا تترك بيتك عد لوطنك، فعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة. المدينة التي سهرت عليك لتعليمك تحتاجك لتسهرعليها، أنتم من تقودون المجتمع لا تتركوا سفينتكم دون قبطان”. هذه الصرخة المدوية أطلقتها في أواخر نيسان الماضي الفعاليات المدنية والطلابية في مدينة عامودا ذات الغالبية الكردية. وقد ناشدت أبناء سورية من الخبرات والكفاءات العلمية البقاء في وطنهم، بعد تزايد أعداد العقول المهاجرة نظراً للانهيار الاقتصادي الكبير.

هدف هذه المناشدة بحسب ما يقول الناشط الكردي دارا بشار لـ”المدن” إبراز خطورة هجرة العقول على مستقبل سوريا. فـ”منطقة القامشلي تبدو اليوم خالية تماماً من أصحاب الاختصاصات والكفاءات الذين فضلوا الهجرة، لاسيما شريحة الخريجين الجامعيين الجدد، نظراً لانعدام أي فرصة عمل في مجال اختصاصاتهم والظروف الأمنية الصعبة التي تشهدها المنطقة”.

وبرغم أن الازمة السورية الاخيرة دفعت هذه الظاهرة إلى مستويات غير مسبوقة، يمكن القول أنها كانت من الظواهر السلبية الأساسية خلال العقود الأخيرة من عمر سوريا. ولا شك في أن ظاهرة هجرة العقول تعتبر ظاهرة عالمية، وأصبحت تعتبر من أكثر الظواهر السلبية التي تعاني منها اقتصاديات البلدان النامية، ومنها سورية التي تتميز بقلة البيانات حول أعداد العقول السورية في الخارج ومناطق توزعها. إذ لم تقم الحكومة بأي محاولة لإجراء مثل هذا الاحصاء، نظراً لأن هذه المواضيع هي آخر ما يمكن أن تفكر به، إلا أن بعض الدراسات قدرت بأن 35% من المهاجرين السوريين هم من اًصحاب الاختصاصات والدراسات العليا. على سبيل المثال يوجد في أميركا وألمانيا وحدهما حوالي 24 ألف طبيب سوري. وبحسب دراسة للبنك الدولي فإن نسبة الأطباء السوريين المهاجرين تقدر سنوياً بحوالي 9.5% من عدد الأطباء الخريجين في سورية. يضاف إلى هؤلاء حوالي مليون عامل سوري في الخليج العربي معظمهم من العمالة المتخصصة في مختلف المجالات. وقد أشار الاقتصادي نبيل المرزوق إلى أن سورية تحتل المرتبة الأولى بين الدول العربية حسب مؤشر هجرة الأدمغة المعتمد ضمن منهجية قياس المعرفة بعلامة 2.3 من المؤشر المتدرج من 1 إلى 7. أما الباحث الدكتور محمد جمال الباروت فقدر أن أصحاب الكفاءات والخبرات العلمية يشكلون حوالي ثلاثة أخماس السوريين المهاجرين إلى بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD. أمّا  الباحث تيسير مخول فقدّر كلفة الخسائر السورية من هجرة الأدمغة بحوالي 2.2 مليار دولار، بينما قدر مكاسب الدول المتقدمة والمستفيدة من تلك الكفاءات بـ 10 مليارات دولار.

وتشير بعض التقديرات إلى أن أكثر من 50% من الموفدين السوريين من الجامعات السورية للدراسة في الخارج لا يعودون إلى سورية. ما يعني أن سورية تعتبر بلداً طارداً للكفاءات بامتياز، نظراً لأسباب عديدة، يأتي في مقدمتها البطالة الهيكلية. إذ يقدر عدد الوافدين السنويين لسوق العمل السورية بـ200 ألف موفد، ولا يستوعب سوق العمل أكثر من 50 ألفاً، أي أن 150 ألف عاطل عن العمل يضافون سنوياً الى إجمالي عدد العاطلين، ومعظمهم من الخريجين الجامعيين، وأصحاب الاختصاصات التقنية العالية، التي لا تستوعبها بنية الاقتصاد السوري ذات الطابع الريعي. بالتالي لا تجد هذه الكفاءات مفراً من الهجرة بحثاً عن فرص العمل اللائق في الخارج في ظل عدم ممانعة الحكومة التي تجد في هذه الهجرة المتزايدة عاماً بعد عام حلاً مبتكراً لأزمة البطالة. كذلك الأمر فإن تدني الأجور والرواتب في سورية، يشكل عاملاً مهماً في هذه الهجرة. على سبيل المثال يعادل راتب المهندس المدني السوري العامل في السعودية حوالي 5 إلى 8 أضعاف راتبه في سورية في أسوأ التقديرات. كما أن غياب أي نظام للدعم والتحفيز وانتشار المحسوبية والفساد كلها تشكل عوامل طاردة للكفاءات الوطنية، فالعقول المبدعة لا يمكن أن تزهر وتقدم أفضل ما لديها إلا في ظل بنى ديمقراطية مؤسساتية حرّة تقوم على العدالة في توزيع الفرص والوظائف وليس في ظل بنى استبدادية متأخرة يقوم جوهرها على النهب وكبت الحريات. وفي ظل انخفاض الانفاق على البحث العلمي والتطوير حيث لا يتعدى 0.1% من إجمالي الناتج القومي، تندفع الخبرات الوطنية نحو الهجرة بحثاً عن  سبل التدريب وتطوير مهاراتها واكتساب آخر المستجدات في ميدانها العلمي.

ويضاف إلى ذلك كله ظروف الحرب وعدم الإستقرار الأمني منذ اندلاع الانتفاضة السورية والتي دفعت بحوالي مليون مواطن سوري للجوء إلى الخارج، ومنهم أعداد كبيرة من الخبرات، لاسيما بعد تعرض الكثير من العقول الوطنية للاغتيال الممنهج منهم عيسى عبود الحائز على جائزة أصغر مخترع في العالم، والدكتور محمد علي عقيل نائب عميد كلية هندسة العمارة في حمص، والدكتور حسن عيد رئيس قسم جراحة الصدر في المستشفى الوطني بحمص، التي شهدت حسب منظمة الصحة العالمية هجرة أكثر من نصف أطبائها خلال العام الماضي، والمهندس أوس عبد الكريم خليل الخبير في الهندسة النووية، إلخ. ما يعني أن مستقبل سورية بات على المحك في ظل استمرار سياسات العبث الاقتصادي الحكومية المدمرة للقوى المنتجة ولرأس المال البشري الضامن للتنمية المستدامة. فالجسد الاقتصادي السوري المنهك لن ينهض ويدخل العصر ما لم يتم إحداث تغيير جذري في النمط الاقتصادي السائد وتأسيس نمط جديد يضع تطوير رأس المال البشري، ووقف نزيف الأدمغة، على سلّم أولوياته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى