رزان زيتونةصفحات سورية

توثيق “الشهداء”

رزان زيتونـة

في مجال التوثيق الحقوقي، هناك ما هو أصعب وأكثر قسوة من العمل على ملف الشهداء. ضمن فريقنا الصغير، يجهد كل منا لرمي المهمة على الآخر.

توثيق “قتلى النظام”، يجعل من العمل الحقوقي بغيضا. يضعنا في مواجهة مثالياتنا الخرقاء، وفي كثير من الأحيان، يمسك بنا في المنطقة الرمادية حيث لا أجوبة حاسمة ولا تموضع واضح “للخير” و”الشر”.

المرة الوحيدة التي استغرقت فيها أكثر من عشرة ساعات متواصلة للعمل على الملف، جعلتني في حالة نفسية لم أعد قادرة بعدها على العمل عليه من جديد قبل مضي أيام عديدة. من أعلى درجات الغضب إلى الشفقة إلى انعدام اليقين، خليط يجعل التفكير بالمستقبل منهكا.

أول ما يثير الانتباه في صفحات “قتلى النظام”، أنهم يستخدمون مفردات أهل الثورة، من هم على الطرف النقيض منهم. أفترض أنها بالأصل مفردات أهل الثورة، لأن أولئك استخدموا بعضها كمذمة بحق ثوارنا، لكنهم لم يتوانوا عن استخدامها كقيمة إيجابية بحق ضحاياهم. فهم ليسوا فقط “شهداء الوطن” بل “مجاهدون”. فإذا كان المجاهد قد قتل على يد “الإرهابيين الأصوليين” “أي المجاهدين”، فكيف تستوي المعادلة لديهم؟!

الشهيد المجاهد البطل، الذي نسعى لتدقيق بياناته الشخصية، وتفاجئنا صورته وهو يبتسم فخورا بزيه العسكري – لاتوجد صور لقتلى النظام بعد الوفاة على خلاف الشهداء- قد يكون كابتن الطائرة التي قصفت طابور المنتظرين على مخبز ما. أو قد يكون من شارك في مجزرة سبق ووثقنا أسماء ضحاياها قبل دقائق من لقائنا الافتراضي به. يتسلل احساس خبيث إلينا بأننا انتقلنا من شهود على الجريمة إلى شركاء فيها! احساس يبعث على الغثيان ويدفع للاستعجال بتوثيق الحالة مع تجاهل بعض بياناتها. كأننا إن تجاهلنا حالته الاجتماعية وعدد أولاده ومهنته، قد حكمنا عليه بالنسيان.

في مواضع أخرى ينبغي علينا نقل الشهيد من “عرشه” في قائمة الشهداء إلى “دركه” في قائمة قتلى النظام، حيث يتأكد أنه كان مخبرا أو شبيحا وتمت تصفيته على يد الثوار. هنا يغدو التفكير بعائلته فقط. مثل هكذا خطأ لم يكن ينبغي أن يحصل. لكن تبقى المنطقة الرمادية، الأكثر قسوة، وفيها يتبنى الضحية كل من أهل الثورة وأهل النظام معا.

ضحايا التفجيرات التي لم تتبناها أية جهة. الضحايا مجهولو الهوية الذين رميت جثامينهم على الطرقات وتعذر التعرف إليهم. المجندون الذين قضوا في خدمتهم الإلزامية. احتسبوا لدى نشطاء مناطقهم في كثير من الأحيان كشهداء “رفضوا إطلاق النار على المدنيين”، ولدى النظام على قوائم قتلاه كشهداء الواجب، وغيرها الكثير من الحالات.

حتى اللحظة وثقنا أقل من أربعة آلاف اسم ضمن قتلى النظام لقلة المصادر. أجزم أن العدد الحقيقي أكثر بأضعاف مضاعفة. وأن أغلبية الأسماء المغفلة تنتمي للمنطقة الرمادية إياها. حيث أن النظام يحتفي بالقتلة على صفحاته، والبقية الباقية خارج الحساب.

جميع تلك التفاصيل تبدو اليوم عديمة الأهمية، لكن السوريين سيضطرون للتمعن بها مليا في المرحلة الانتقالية والتعامل معها بالكثير من الحذر والمسؤولية. العبور سوف يكون على أجساد عشرات آلاف الضحايا وآلام وأحقاد عائلاتهم وأحبتهم.

موقع لبنان الآن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى