صفحات الثقافةممدوح عزام

توم بين: حيث لا حرية/ ممدوح عزام

 

 

 

أذكر أنني قرأتُ رواية هوارد فاست “المواطن توم بين” في صباي. كانت الترجمة التي أنجزها منير البعلبكي، مع العشرات من الكتب الروائية الهامة التي قدّمها للمكتبة العربية منذ الخمسينيات، متوفّرة في الأسواق السورية آنذاك.

وقد اعتقدنا أن الروائي يتحدّث عن شخصية خيالية من تلك الشخصيات التي اعتاد الروائيون خلقها للتعبير عن النوازع الأعمق للبشر، وخاصة نزوعهم إلى الحرية، لولا تلك الكلمات التي استعارها الناشر من الكاتب المصري خالد محمد خالد في كتابه “أفكار في القمّة”، والتي يُشير فيها إلى أن توم بين بشري مثلنا، وليس من ورق، وأنه صاحب العبارة التي كنا نسمع بها دون أن نعرف قائلها: “حيث لا حرية، هناك وطني”.

تركت شخصية “بين” أثراً عميقاً، ولكن غامضاً في وعي جيلي، وكان كتاب “ساعات مع الأحرار” لأحمد قاسم جودة، الذي صدر في بداية السبعينيات، قد وضع توماس بين ضمن القائمة التي اختارها للتعريف بالأحرار في العالم كلّه، وممّا يُؤسَف له هو أن تتأخّر ترجمة كتبه حتى اليوم، إذ ليس لدينا سوى ترجمة وحيدة لكتابه “المنطق السليم” أو “الإدراك العام”، كما تُرجم في كتاب روبرت داونز “كتب غيّرت العالم” أو “حصافة” كما يترجمه منير البعلبكي في رواية هوارد فاست.

يرى داونز أنه ليس في تاريخ الأدب شيء يعادل كتاب توماس بين “المنطق السليم” في تأثيره الفوري بين الناس. كان حين نُشر عام 1776 نداءً للمستعمرات كي تحارب من أجل استقلالها، وقد بيع منه حين صدر في نهاية القرن الثامن عشر أكثر من مائة وعشرين ألف نسخة، خلال ثلاثة أشهر. ولكن كيف حاز الرجل هذه المكانة؟

توماس بين هو أول من اقترح استقلال أميركا، وأوّل من دعا إلى إنصاف المرأة، وأول من دعا إلى إلغاء الرق وتحريمه، وأول من أبرز حقيقة الأخوّة البشرية، وأول من دعا إلى تعليم أبناء الفقراء على حساب الدولة، وأوّل من اقترح إعلان جمهورية تضم جميع شعوب العالم، كما تشير الكتب التي تتحدّث عنه.

“ما الحقوق يا مستر بين؟”، ردّ على هذا السؤال، الذي طُرح عليه ذات يوم، قائلاً: “أحسب أن الأشياء كلّها هي بحق الولادة ملك لجميع الناس. أنت تستطيع أن تنتزع الحقوق، ولكنك لا تستطيع أن تُعطي ما هو ملك للناس جميعاً”.

وحين واجهه أحد معارضيه هازئاً من كتابه: “إذن، سوف تصلح انجلترا وأميركا على حد سواء؟”، قال: “ليس إصلاحاً أن يطالب الناس باسترداد شيء هو ملك لهم”.

يمكن لأية ثورة أن تهتدي بنزاهته الأخلاقية أيضاً؛ ففي عام 1781 عاد من فرنسا إلى أميركا يحمل قرضاً قيمته مليوناً ونصف المليون من الجنيهات، وحين وصل إلى بوسطن اضطرّ لاقتراض دولار كي يدفع أجر المركب الذي أقلّه عبر نهر ديلاوير.

توماس بين قال ذات يوم: “إني أفضّل أن أسجّل ألف خطأ للثورة أملته الروح الإنسانية، على أن أسجل خطأ واحداً أملته القسوة في طلب العدالة”.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى