تياران في السياسة السعودية نحو تركيا/ عبد القادر عبد اللي
ثمة غرابة ما في العلاقات التركية السعودية بعد الانقلاب التركي الفاشل. وكانت الصحافة الموالية لإيران التي تصدر في الخارج، قد روجت أخباراً، عن دعم سعودي لذلك الانقلاب، ولكن الحكومة التركية نفت هذه الأخبار جملة وتفصيلاً، وأعلنت أن الملك سلمان قد اتصل بالرئيس التركي بعد الانقلاب، وأعرب له عن دعمه للحكومة الشرعية، ورفضه للانقلاب. ولكن على الرغم من هذا فإن متابعة وسائل الإعلام السعودية التي تصدر في الخارج تشير بشكل واضح إلى أزمة عميقة بين تركيا والسعودية.
هناك نقاط مشتركة في وسائل الإعلام السعودية الخارجية مترسخة كقوالب لا يمكن الخروج عنها في وصفها للحكومة التركية: ديكتاتورية، حكم إخواني، وضع منهار، حكم فردي، انقلاب مدني. وكثير من التعابير السلبية التي لا تستند إلى معطيات واقعية. ولا تقتصر هذه الصفات على زوايا الرأي، بل حتى في صياغة الأخبار، وهكذا فلا يمكن للإنسان إلا أن يرى أزمة تعيشها العلاقات التركية-السعودية.
وبالنسبة لبعض الصحف السعودية التي تصدر في الداخل، فقد بدأت تظهر بعض الاصطلاحات الغريبة عنها تجاه الثورة السورية، مثل “المتمردون السوريون” وتغيرت النظرة قليلاً لما يجري في سوريا، وهناك من يربط هذا المتغير بالعلاقات مع تركيا.
لعل المتغير الأكبر غياب التصريح الشهير الذي كان لازمة لدى وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، حول سقوط الأسد بالحل السياسي أو العسكري.
قبل الانقلاب العسكري التركي الفاشل وصلت العلاقات بين تركيا والسعودية إلى درجة متقدمة جداً، فقد كانت زيارة الملك سلمان قبيل مؤتمر “قمة العشرين” زيارة استعراضية بكل المقاييس، وبعدها نفذ البلدان مناورات عسكرية مشتركة في تركيا، ودار الحديث بقوة عن قرب دخول القوات السعودية والتركية الأراضي السورية لمحاربة “داعش” في إطار قوات “التحالف الدولي”، وبدأت القوات السعودية بالتوافد فعلياً إلى قاعدة إنجيرليك التركية. وفجأة غابت هذه الأخبار عن الساحة مثل غياب تصريحات الجبير، وكأن شيئاً لم يكن.
في المقابل جاء قبل أيام الأمير السعودي الوليد بن طلال، إلى تركيا في زيارة سياحية، وأدلى بتصريحات للصحافة التركية، وعبر عن امتنانه بانتصار الحكومة التركية والشعب التركي على الانقلاب، وبأنه صديق شخصي للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وأن زيارته لقضاء إجازته في تركيا تأتي كموقف داعم “لصديقه” أردوغان. وعلى الرغم أن الوليد ليس من ضمن أفراد الأسرة المالكة الذين في السلطة، فهو لا يعارض خطها العام، وهذا ما يعطي انطباعاً بأن العلاقة ما زالت جيدة.
وإذا كانت محطة “العربية” التابعة للسعودية قد أجرت مقابلة مع فتح الله غولن، الذي تتهمه الحكومة التركية بتدبير الانقلاب العسكري فيها، وأفضل ما يمكن القول عن تلك المقابلة أنها تفتقر إلى المهنية، فقد نجحت الحكومة التركية بجعل السلطات السعودية تزيل المقابلة عن موقعها، وهذا لم يكن يتم لولا وجود علاقات جيدة بين البلدين.
الأمر الذي أجج الريبة وأوصلها إلى الذروة هو صمت المملكة حول العمليات العسكرية التي تقوم بها تركيا في الأراضي السورية، ومحاربة “داعش”، فقد كان من المفروض أن تقوم بهذه العمليات بشكل مشترك.
كانت العلاقات التركية-السعودية قد توترت قليلاً إبان انطلاقة الربيع العربي، ووصلت إلى درجة القطيعة تقريباً مع إسقاط الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، فقد وقفت تركيا ضد الانقلاب، ولكن السعودية أيدته، وقدمت مساعدات مالية سخية من أجل دعم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. إلا أن هذه العلاقات عادت إلى دفء فوق عادي بعد وفاة الملك عبدالله، وأُدخل الرئيس التركي إلى القسم الخاص بالأسرة المالكة في صلاة جنازة الملك الراحل، ومن يومها اعتمد البلدان على سياسة تجنب الملف الخلافي بينهما وهو الموقف من الانقلاب في مصر.
نجح البلدان ببناء علاقات قوية، ولكن وسائل الإعلام السعودية التي تصدر في الخارج بقيت على النهج نفسه، وإن كانت قد خففته قليلاً، وباتت تتجنب في كثير من الأحيان تناول الشأن التركي إيجاباً أو سلباً.
ولكن الأمر لم يعد كذلك بعد الانقلاب. والغريب بالأمر أن إيران التي احتفت وسائل إعلامها الخارجي بما أسمته “نهاية الأردوغانية” شاركت وسائل الإعلام السعودية الخارجية بالحفاوة نفسها، ولكن بتحريض أقل.
الأمر على صعيد العلاقات السياسية أخذ منحى عكسياً، فقد تقارب الأتراك والإيرانيون “اقتصادياً” على الأقل، وطوّرا علاقاتهما على هذا الصعيد، وكررا ما كانا يقولانه حول الملف السوري منذ خمس سنوات. ولكن إيران اتخذت موقفاً اعتبرته تركيا معقولاً ولو متأخراً من دخول القوات التركية إلى جرابلس، وقالت: “إنها تفضل لو كانت العملية قد تمت بالتنسيق مع دمشق”.
لم يعد لدى إيران مانع من دعم تركيا للجيش الحر في قتال “داعش” و”قوات سوريا الديموقراطية” التي يشكل حزب “الاتحاد الديموقراطي” عمودها الفقري، وجل ما تريده بحسب تصريحها أمنية أن يكون هناك تنسيق مع دمشق. وقد أعلن وزير الدفاع التركي أنه أبلغ إيران بالعملية قبيل انطلاقها مباشرة.
تعكس هذه المواقف المتناقضة بأن هناك إما انقلاب في الموقف السعودي من تركيا، أو إن هناك تيارين يتنافسان على القرار السياسي السعودي في الداخل، أحدهما الحاكم المتمثل بالملك سلمان، والآخر مركز قوة يستطيع فرض رأيه في كثير من القضايا. وإذا كان هناك تياران، فعلى ما يبدو أن تيار الملك سلمان أصبح ضعيفاً، والغلبة للتيار الآخر، وإذا كان ذلك التيار سيفيد نظام السيسي في مصر، فهو سيضر بالمصالح الاستراتيجية السعودية، لأن تركيا والسعودية تحتاج إحداهما للأخرى، وتقاربهما يخدمهما معاً، وفي الوقت نفسه فإن تباعدهما سيضر بمصالحهما الاستراتيجية معاً أيضاً.
المدن