ثانوّية الشهيد محمّد المُلا عيسى للمتفوّقين بدلاً من ثانويّة باسل الأسد للمتفوّقين
معركة الرّصافة ومقتل ابن أخت آصف شوكت
دير الزور (سوريا)
كلّ تفصيل في هذا التقرير الصحافيّ، بحاجة لمقالات مطوّلة في كتابتها، بل إنّ كلّ تفصيل في حياة الثورة السوريّة، منذ انطلاقتها في 15/3/2011، بل وحتى طوال حكم عائلة الأسد، فعليّاً، منذ انقلاب الرئيس الراحل حافظ الأسد، بتاريخ 16/11/1970، ولغاية وفاته في 10/6/2000، واستلام الحكم من بعده من قبل نجله بشار الأسد، بحاجة لدراسات مطوّلة في كل علوم مناحي الحياة التي خربت بشكل متتال، وذهبت إلى درك القضاء على الشعب السوريّ نفسه؛ بغية استمرار هذه العائلة في الحكم. لذلك هناك الكثير من التفاصيل التي تحتاج لوقفات مطوّلة، ولدراسات نفسيّة وإنسانيّة واقتصادية وعسكريّة وسياسيّة… من أجل الإحاطة بما فعله هذا النظام في سبيل تحويل هذا البلد، إلى مزرعة خاصّة، لا عمل للشعب فيها سوى “السخرة” من أجل إشباع نهم وجوع إقطاع كبير سُمّي بالنظام، أو السلطة الحاكمة.
الشّهيد محمّد المُلا عيسى
“محمّد عبد السلام الملا عيسى” كان طالباً متفوّقاً في الصفّ العاشر، الأوّل الثانويّ، وهذا ما أهّله لإكمال دراسته الثانويّة، كونه كان أحد الأوائل في الشهادة الإعداديّة على مستوى سوريّا، في ثانويّة الباسل للمتفوّقين. وكان له كاريزما القائد، خصوصاً في شعبته التي كانت تضمّ أربعين طالباً متفوّقاً؛ إضافة له. وكانت له اليد الطولى في جمع رفاقه في الثانوّية، والخروج معهم في التظاهرات المؤيّدة للثورة السوريّة، من أجل المناداة بالحرّيّة، والانتهاء من حال الإذلال العامّة التي طبّقها ذلك النظام على كلّ شرائح المجتمع، وكلّ مكوّناته؛ وهذا ما جعله صاحب الفضل في كسر حاجز الرّعب، الذي بناه النظام بينهم وبين الحياة، والذي انكسر نهائيّاً باستشهاده بينهم؛ فكان يعتلي الأكتاف، ويصرخ بالشّعارات المنادية بالحريّة والمساواة والحياة الكريمة وبإسقاط النظام الديكتاتوريّ… فاشتهرت ثانويّة الباسل للمتفوّقين بالظهور في جميع التظاهرات، التي صارت تخرج من أرجاء المحافظة كافة، وهذا ما زاد النقمة على الثانويّة، من قبل مديريّة التربيّة والأجهزة الأمنيّة، من جهة، وعلى الطالب المُلا عيسى من جهة أخرى، وهذا ما جعل مديرها، المدعو “ياسر هزّاع”، يرتقي إلى منصب مدير التربيّة في المحافظة؛ بعد أن صار شغله الشاغل إخبار الجهات الأمنيّة باستعداد طلاب ثانويّته للخروج إلى التظاهرات، فيأتي الأمن ويحاصر الثانويّة، ويمنع الطلاب من اللحاق بالتظاهرات بالقوّة، وتحت التهديد بالفصل.
وممّا زاد النقمة على الطالب محمّد المُلا عيسى هو اشتراطه للمشاركة في الأولمبياد العلمي بوضع “كارنيه” خالية من صورة الرئيس بشّار الأسد، حيث كان يجب تزيين صدور المشاركين ببطاقة إسميّة عليها صورته “المباركة”، وهذا بالضبط ما جعله ممنوعاً من المشاركة في أولمبياد المتفوّقين.
وكذلك تم طرده من حصّة مادة “القوميّة” من قبل مدرّسة المادة؛ عندما قاطعها قائلاً: “باسمي أنا محمّد المُلا عيسى، وباسم طلاب هذا الصّف، نرفض دراسة الكذب الموجود في هذا الكتاب”!
المسيرات المؤيّدة تتحوّل إلى تظاهرات
حتى قبل اندلاع الثورة السوريّة، كان يتمّ تنظيم مسيرات مهللة للحكومة والقائد في الأعياد والمناسبات الوطنيّة؛ حيث كان يتم إجبار الطلاب والموظفين بالخروج في تلك المسيرات، مع التهديد بأنّ هناك مراقبين لمَن لا يهتف، أو لا يحمل صورة الرئيس، أو ينسلّ من المسيرة، قبل تجمّعها الأخير في الساحة الكبيرة، وعادة ما تكون ساحة الرئيس، حيث تمّ نصب مئات التماثيل للرئيس الراحل حافظ الأسد في كثير من ساحات المدن، إن لم نقل كلّها… وهذه التقارير، من المراقبين، قد تؤدّي إلى فصل الموظف أو الطالب من الوظيفة أو المدرسة، ويتمّ إصدار الفصل بقرار من رئاسة مجلس الوزراء، بالنسبة للموظفين، لأسباب تمسّ النزاهة!
أما بعد اندلاع الثورة، وبسبب خروج التظاهرات السلميّة المنادية بإسقاط النظام، كان يتم إخراج الطلاب والموظفين، من جديد، في مسيرات إجباريّة مؤيّدة للنظام. التظاهرات كانت تخرج، كالمعتاد، في أيام الجمع، بينما المسيرات كان يتمّ إخراجها في أيام الدوام الرسميّ؛ إذ يجب حضور جميع الموظفين الى دوائرهم، والتوقيع على سجلّ الحضور، ومن ثمّ الخروج في المسيرة المؤيّدة، وهكذا الحال كان بالنسبة للطلبة، وكوادر التدريس. وكان يتغنّى التلفزيون الرسميّ بأنها “مسيرات عفويّة” تنادي بحياة القائد، مندّدين بالحريّة ومخوّنين الذي ينادي بها. وكان من عادة المديرين، أو رؤساء الأقسام، أن يُبلغوا الموظفين، والطلاب، يوم الأحد، مثلاً، بأنه ستكون هناك “مسيرة عفويّة” يوم الأربعاء القادم، طالباً من الجميع عدم الغياب، لأيّ سبب كان، تحت طائلة المسؤوليّة!
وهكذا كان الحال مع طلاب ثانويّة الباسل للمتفوّقين، التي يدرس فيها الطالب محمّد المُلا عيسى. وكان محمّد، مع طلاب شعبته يحوّلون تلك المسيرات المنادية بحياة القائد، إلى تظاهرة تنادي بإسقاط النظام. وفي مسيرة يوم الأحد 13/11/2011 تابع محمّد وأصدقاؤه تحويل المسيّرة المؤيّدة للنظام، إلى تظاهرة تنادي بإسقاط الأسد، فقام الشبيحة بالاعتداء بالضرب المبرّح، داخل المسيرة في شارع سينما فؤاد، وتحديداً أمام جمعيّات الإسكان العسكريّ، على الطالب محمّد المُلا عيسى، وأثناء سقوطه على الأرض، بعد إصابته برصاصة في بطنه وممتلئاً بالكدمات والجروح النازفة، تقدّم منه الرائد “الأيهم الحمد”، من فرع المخابرات الجوّية، ووجّه مسدسه الشخصيّ نحوه من جديد، فرجاه محمّد، بكلّ براءة الطفولة، وهو ابن السادسة عشرة من عمره، أن لا يطلق عليه النار وأن لا يقتله، إلا أن “سيادة الرائد” الأيهم الحمد أطلق رصاصة في صدر الطالب والطفل محمّد المُلا عيسى مباشرة فأرداه قتيلاً، وسط ذهول الطلاب والمدرّسين! ثمّ غادر ذلك الرائد المقدام والبطل الأيهم المكان، وهو ابن أخت اللواء آصف شوكت صهر الرئيس بشّار الأسد، مبتسماً، وربّما فخوراً، بينما حمل الأطفال صديقهم القتيل، مضرّجاً بدمائه، وهم يهتفون بحياة الشهيد، حتى منزل أهله قرب شارع نادي الضباط.
ثانويّة الشهيد محمّد المُلا عيسى للمتفوّقين
ظنّ المسؤولون بأنّ قتل الطالب محمّد المُلا عيسى سيُنهي التظاهرات التي تخرج من ثانويّة الباسل للمتفوّقين، وينتهي خروجها عن سيطرة الكادر التربويّ، إلا أنّ العكس هو الذي حدث؛ إذ خرجت الثانويّة من السيطرة التربويّة والأمنيّة معاً.
ومن المعروف بأنّ التظاهرات، بشكل عام، كانت قد خفت وتيرتها منذ الاقتحام الأوّل للجيش النظامي، بتاريخ 7/8/2011، فكانت تخرج تظاهرات قليلة وبأعداد قليلة، إضافة لاعتقال ما يزيد عن /25,000/ ناشط خلال تلك الفترة، وتخفي الكثيرين منهم خوفاً من الاعتقال والتصفية الجسديّة. فجاء اغتيال المُلا عيسى مثل الصدمة الكهربائيّة لجسد التظاهرات السلميّة، والمتظاهرين، في دير الزور؛ فخرج في تشييّع جثمانه أكثر من /70,000/ متظاهر نادوا بقوّة بالثأر من “قاتل الأطفال” وإسقاط النظام.
في اليوم التالي، للتشييّع، دخل المدرّس إلى الصف الذي كان يدرس فيه الشهيد، فوجد صورة المُلا عيسى على مقعده الدراسيّ الخالي، الذي تمّ تغطيته بعلم الاستقلال. وعندما طلب منهم المدير إزالة كلّ ذلك، هدّد الطلاب بأنهم سيحطمون المدرسة إن حدث ذلك. وفوق ذلك كان الطلاب يُصرّون على عدم تسجيل زميلهم “غائباً” في سجلات التفقّد.
ظلّ طلاب وطالبات المدرسة، من الصف الأول الإعدادي وحتى الثالث الثانويّ، يُنظمون كلّ يوم تظاهرة، يهتفون فيها بأنهم يُريدون الاستشهاد، والانتقام من قتلة زميلهم الشهيد، إلا أنه، في اليوم الخامس، قام الأمن بالاعتداء بالضرب المبرّح على الطلاب والطالبات؛ حيث شوهد العديد من الطالبات ملقيات على الأرصفة ويتمّ ضربهنّ بالهراوات على كامل أنحاء أجسادهنّ الغضة.
في صباح أحد الأيام، بعد اغتيال المُلا عيسى بأيام معدودة، تفاجأ مدير الثانويّة بوجود لافتة “فيليكس” تغطي اللوحة الأساسيّة للثانويّة، مكتوب عليها “ثانويّة الشهيد محمّد المُلا عيسى للمتفوّقين” بدلاً من “ثانويّة الباسل للمتفوّقين”. وعلى جانبها الأيسر صورة الشهيد، بينما على الجانب الأيمن يلمع علم الاستقلال. وجاء الأمن مباشرة وأزال تلك اللوحة.
عندما جاء مدير جديد للثانوية، طلب من المدير السابق، الذي أصبح مديراً للتربية، عرفاناً من الأمن لتعاونه المخلص معهم، اشترط أن يعطوه كامل الصلاحيّات، ومن دون تدخل حتى من الأمن، لإعادة طلاب الثانويّة إليها، وعدم خروجهم في التظاهرات؛ فوضع المدير الجديد صورة للشهيد محمّد المُلا عيسى عنده في الإدارة مكللة بالورد، وكان يصطحب طلاب الشعبة، صباح كلّ يوم أثنين إلى قبر زميلهم لقراءة الفاتحة، ووضع الورود على القبر، ثمّ يزورون منزل والده الذي يعمل مهندساً مدنيّاً. إلا أنّ ذلك لم يمنع الطلاب من الخروج في التظاهرات. فما كان من المدير إلا أن ألقى فيهم كلمة، أثناء الاجتماع الصباحيّ، طالباً منهم عدم الخروج الى التظاهرات لأنّ “الأمن” سيطرده هو من المدرسة. الطلاب رضخوا لذلك؛ فما عادوا يخرجون من باب الثانويّة مباشرة إلى التظاهرات؛ واتفقوا على التجمّع عند محوّلة الكهرباء في حيّ “الجبيلة”، والانطلاق من هناك لإسقاط النظام.
أمّا في الامتحانات؛ فقد قام الطلاب والطالبات بالشطب على اسم ثانويّة الباسل للمتفوّقين، في الترويسة الرسميّة لورقة الامتحان، وكتابة ثانويّة الشهيد محمّد المُلا عيسى للمتفوّقين بدلاً عنها.
ولأنّ جميع الأهالي تأثروا بمقتل هذا الطفل المتفوّق، قام بعضهم، ببادرة شخصيّة منهم، بطبع صور بحجم صغير له وتوزيعها، أو بصنع وطباعة حمّالات مفاتيح عليها صورته أيضاً.
لقد كان الشهيد الطفل محمّد المُلا عيسى يُشكل معنى الجرأة لأصدقائه وزملائه في التظاهرات، لذلك كان اغتياله بينهم صدمة كبيرة لهم، حتى أكبر من صدمة أهله، الذين عثروا على رسوم بخط يده يصوّر فيها نفسه معتقلاً ومعذباً ومن ثمّ مقتولاً، ولكنّ استشهاده شكل الجرعة الكبيرة لمحو حالة الخوف نهائيّاً من قلوبهم البيضاء.
معركة الرّصافة ومقتل الرائد الأيهم الحمد
جاءت إخباريّة، من إمرأة سيئة السمعة، إلى اللواء جامع جامع، قائد الأمن العسكريّ في المنطقة الشرقيّة، بأنّ هناك عناصر مهمّة من الجيش الحرّ تتخذ من شقة سكنيّة في مساكن الرّصافة، التي تلي حيّ العمّال، مكاناً لتجمّعها. فتمّ تشكيل قوّة أمنيّة، مختلطة، وعسكريّة، لمداهمة المكان، والاشتباك مع العناصر المتواجدة في تلك الشقة السكنيّة، التي تقع في بناء غير مكتمل البناء، وذلك بتاريخ 18/3/2012؛ حيث تمّ انتشار أكثر من /400/ مقاتل، مع ثماني مدرّعات، منها ثلاث دبابات في حيّ العمّال، وانتشار القناصة على أسطح الأبنية، المطلة والمجاورة للمكان، منذ الساعة السابعة والنصف صباحاً.
كان يوجد في تلك الشقة ثلاثون مقاتلاً من الجيش الحرّ، أغلبهم من كتيبة عمر بن الخطاب، حيث كانوا يتخذون تلك الشقة مكاناً لتجمّعهم، ومنطلقاً لتنفيذ الهجمات على الشبّيحة والحواجز الأمنيّة.
بدأ إطلاق النار والاشتباك في السّاعة التاسعة صباحاً، وكان ذلك مفاجئاً للعناصر المتواجدة هناك، وكانت القوّة المتواجدة أكثر عدداً وعتاداً منهم، ومع ذلك استمرّ الاشتباك حتى الساعة الثالثة عصراً تقريباً.
قام عدد من العناصر المتواجدة في الشقة بفتح الجدار في المطبخ، وتسلل /12/ مقاتلاً إلى الشقة الملاصقة، ومغادرة المكان ؛ للالتفاف أو طلب المساندة من الكتائب الأخرى، وصعد عدد من مقاتلي الجيش الحرّ إلى سطح البناء، لتغطية تسلل العناصر المغادرة، واشتبكوا مع القوّة الأمنيّة الضخمة.
ورغم انتشار عناصر من كتيبة “محمّد”، بقيادة خليل البورداني، في الساعة الواحدة ظهراً، في شارع “التكايا” وضربهم حاجز الأمن العسكريّ المتواجد عند دوّار “غسان عبّود”، للوصول إلى حيّ العمّال، ومساكن الرّصافة، وفكّ الحصار عن زملائهم المحاصرين من الكتائب الأخرى، إلا أنّ القوّة الأمنيّة والعسكريّة المتواجدة في الرّصافة لم تتراجع؛ كونها كانت متأكدة من المعلومات الواردة لها، بأنّ هناك عناصر كثيرة، ومهمّة في ذلك البناء، فتابعت القتال هناك بضراوة، ما أدى إلى تضرّر جميع المباني في المنطقة، وانتشار الرعب والهلع في صفوف الطلاب والطالبات، في كليّة التربية وإعداديّة الشهيد إبراهيم رشيد العبد الله وابتدائيّة أبي ذر الغفاري للبنين، التي حوصر طلابها داخل مدارسهم، دون أن يعرفوا ماذا يحصل في الخارج، ومن دون أن يتمكنوا من العودة الى بيوتهم، ولم يكن كذلك باستطاعة أهاليهم الوصول للمدارس وإعادتهم للبيوت؛ فما كان من أهالي حيّ العمال سوى فتح بيوتهم أمام الطلاب والطالبات لحين انتهاء المعركة.
الإجهاز على الجرحى ورمي الجثث من السطح
قتل من عناصر الجيش الحرّ في ذلك البناء /18/ مقاتلاً؛ وكان من بينهم مدرّس الموسيقى السابق “محمود محيسن”، وهو قائد كتيبة عمر بن الخطاب، إضافة لأربعة أشقاء وثلاثة أشقاء من عائلتين. وكان من بين الشهداء أيضاً محمّد غياث السنده، وهو عسكريّ منشقّ من مدينة حلب، ومن اللاذقيّة العسكريّ المنشق علاء الدين أبليلو، وهو أمهر رامي رشاش /بي كي سي/ في الجيش السوريّ الحرّ. وكان أكثر الشهداء من عناصر كتيبة عمر بن الخطاب، ومن مدينة “موحسن” تحديداً.
قامت العناصر الأمنيّة والعسكريّة، بعد توقف إطلاق النار من مكان تواجد عناصر الجيش الحرّ، في الساعة الثانية عشرة ظهراً، بالصعود إلى الشقة التي كان يجتمع فيها المقاتلون من الجيش الحرّ، والصعود، بالجثث التي كانت موجودة فيها، إلى سطح البناء ورميها من على سطح البناء إلى الأرض، بشكل يدل على الانتقام من العناصر المقاتلة حتى بعد موتها، والتمثيل بجثثها!
كان هناك عدد من الجرحى بين العناصر المقاتلة من الجيش الحرّ، ومنها مَن كتب بدمه على سطح البناء عبارة “حريّة”، فتمّ الإجهاز عليهم رمياً بالرصاص قبل رميهم من على سطح البناء.
مفاجأة غير متوقعة وغطرسة متناهية
بعد الإجهاز على الجرحى، ورمي جميع الجثث الثماني عشرة من على السطح، نزل الرائد الأيهم مع ثلاثة عناصر من مرافقته إلى إحدى الشقق وصاروا يحتسون الشاي. فجاءه اتصال من اللواء جامع جامع بالانسحاب مباشرة من المكان، لأنّ لديه معلومات مؤكدة بتحرّكات للجيش الحرّ حول المكان. فرفض الأيهم ذلك؛ معللاً بأنه تمّ القضاء على كلّ مَن كان في الشقة المذكورة، فكرّر اللواء منه طلب الانسحاب الفوريّ، إلا أنّ الرائد أجابه بأنه هو قائد العمليّة وليس اللواء. عندها طلب منه اللواء جامع السماح لعناصر الأمن العسكريّ، وعددهم كان من /70/ إلى /100/ عنصر تقريباً بالانسحاب. فطلب الأيهم من أحد مرافقيه أخذ موبايله وعدم الردّ إذا جاءه اتصال من سيّادة اللواء!
هكذا كان الرائد الأيهم متغطرساً؛ ويرى نفسه أهمّ وأكبر وأفضل حتى من الأعلى منه رتبة، والأعرف منه بهذه المدينة، وذلك بسبب أنه ابن أخت رئيس جهاز المخابرات العامة في سوريّة العمّاد آصف شوكت، صهر الرئيس السوريّ بشّار الأسد، فكان يتدخل حتى في قوائم أسماء عناصر الحواجز التي لم تكن تابعة لأوامر الأمن الجويّ، لأنه “الكل في الكل”، وهذا ما جعله “ديكاً”، كما لقبه أهالي دير الزور، سيتدرّج سريعاً في المناصب، كما عادة النظام البعثيّ، حتى يصبح نجماً ساطعاً في سماء الديكتاتوريّة.
على أساس هذا الاتصال تمّ انسحاب عناصر الأمن العسكريّ من المكان؛ ولم يبق غير عناصر الأمن الجويّ، وعناصر الجيش. وعلى أساس هذا الانسحاب، الذي تمّ مباشرة إلى فرع المنطقة الشرقيّة، دون التمركز عند حاجز غسّان عبّود، التابع للأمن العسكريّ، صار هناك خلل في انتشار القوّة الأمنيّة والعسكريّة المتواجدة هناك. وهذا ما أدّى إلى سهولة حركة العناصر التابعة لأربع كتائب، كانت متخفية في حيّ العمّال ومساكن الرّصافة، لحماية الاجتماع الذي تمّ في الشقة المذكورة، وكذلك في سهولة وصول كتائب محمّد إلى حاجز دوّار غسّان عبّود وضربه، وهذا ما أدّى إلى الاشتباك الثاني الذي بدأ في الساعة الواحدة ظهراً، الذي تفاجأ به الرائد الأيهم الحمد هذه المرّة؛ الذي صعد إلى السطح وبدأ بالقتال من جديد، ولكنّه لم ينتبه إلى الخلل الأمنيّ الذي أحدثته قراراته المتغطرسة، واللامسؤولة أمنيّاً وعسكريّاً؛ والذي سهّل صعود أحد مقاتلي الجيش الحرّ إلى سطح البناء المقابل للرائد، ويرديه قتيلاً برصاصة في وجهه، ومقتل وجرح الكثير من القوّة الأمنيّة المتواجدة معه.
وسهّل انسحاب عناصر الأمن العسكريّ إلى الفرع مباشرة، دون التمركز في الحاجز التابع لهم في دوّار غسّان عبّود، إلى انكشاف الحاجز المحصّن لكتيبة محمّد، إلى قتل العديد من العناصر وجرحهم، إضافة إلى إعطاب مدرّعة.
حصيلة قتلى الأمن وعناصر الجيش في تلك المعركة وصل إلى ثمانين قتيلاً، والكثير من الجرحى؛ وكعادته أعلن الإعلام الرسميّ عن مقتل أربعة جنود في “موقعة الرّصافة”، كما سمّاها نفسه؛ لضراوة القتال فيها بينما تمّ تشييّع عشرين جثة على الأقل من مشفى الشهيد أحمد هويدي العسكريّ. ولكنّ العدد الحقيقيّ لقتلى الأمن والجيش صرّح به اللواء جامع جامع؛ عندما قال مهدّداً بأن ّ “دماء ثمانين شهيداً في الرصافة لن تذهب هدراً”؛ وذلك في اتصال هاتفيّ له مع المقدّم “مهند طلاع”، قائد الجلس العسكريّ للجيش السوري الحر في دير الزور وريفها، بأنه سيقتل /800/ من أهالي مدينة موحسن ثأراً لمقتل الثمانين عسكريّاً في الرصافة. فردّ عليه المقدّم مهند : بأنه إذا تجرّأ على قتل ثمانمائة من أهالي موحسن، فإن الجيش الحر سيردّ بقتل ثمانية آلاف من الأمن والشبّيحة.
بمجرّد سماع خبر مقتل الرائد الأيهم الحمد قامت الصيدلانيّة “عبير حوكان”، والدة الشهيد محمّد المُلا عيسى، بتوزيع الحلويات في الشارع على أهالي المدينة، ابتهاجاً بقتل قاتل ابنها، مثلها مثل العديد من العائلات التي كان الرائد الأيهم الحمد قد قتل أبناءها بيده، وبمسدسه الشخصيّ.
كما أّنّ مقتل الأيهم الحمد شكل زلزالاً مرعباً للقيادات والعناصر الأمنيّة، ولأهالي المدينة أنفسهم، خوفاً من انتقام خاله العماد آصف شوكت، الذي تمّ اغتياله لاحقاً على يد عناصر الجيش السوريّ الحرّ في أكبر عمليّة ضد النظام سمّيت بعملية تفجير خليّة الأزمة في قلب العاصمة دمشق.
المستقبل