ثقافة العنف المسكوت عنها/ حسين العودات
يشجب الصحافيون والكتاب والسياسيون بحق ممارسات التنظيمات الإرهابية، خصوصاً تلك المتعلقة بالعقوبات أو ما يسمى فقهياً بالحدود، متل الجلد والرجم وبتر الأعضاء والحرق حياً، كما أُحرق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وجبي الأتاوات من دون حق ونهب البيوت وبيع النساء سبايا، إضافة لمصادرة الأثاث والأمتعة والسيارات والممتلكات الخاصة المنقولة، والتسلح دائماً بفتاوى شرعية تُسوّغ هذه الجرائم وتبرر ما لا يبرر. وقد أكد لي أحد المطلعين أن أعضاء «الهيئة الشرعية» الذين يصدرون الفتاوى والأحكام غير مؤهلين البتة لمثل هذه المهمة، علماً أنهم يقومون واقعياً، بالإضافة إليها، بمهمات هيئة كبار العلماء في الدول الإسلامية، ويمارسون دور القضاة والمجلس الأعلى للقضاء في الوقت نفسه، وهم بالكاد يحفظون بعضاً من القرآن أو اطلعوا على شيء من أصول الفقه، وعلى ذلك فأحكامهم ومحاكماتهم جميعها لا تعتمد على أي شرعية، وهي على العموم مزاجية وتنسيبية وسياسية ووفق الطلب.
إن خوفنا التاريخي من نقد الفقه الإسلامي الذي أسسه الفقهاء، وهم رجال لا أنبياء، ومن نقد الثقافة العربية التي تبناها مثقفو السلطان خلال التاريخ، والتشويه الذي أحدثه المفسرون والمؤوّلون لجوانب الدين المختلفة، أوصل المسلمين إلى حال كادت تنسيهم صحيح دينهم، حتى أصبح الدين الإسلامي وكأنه غريب عن المسلمين، بعدما استباحه الفقهاء والرواة والقوالون، وصار المسلمون الآن يواجهون معضلة حقيقية وصعوبة كبرى أمام العودة إلى أصول دينهم من جهة، وتفادي ممارسات التنظيمات الإرهابية المتوحشة المعتمدة على هذا الفقه من جهة أخرى. ويبدو أن بعض العرب المسلمين، بل والمسلمين عامة، لم يأخذوا العبرة من تجاربهم التاريخية، ولم يحذروا من فلتان الذين نصبوا من أنفسهم فقهاء وتغولوا على الدين، وما زالوا حتى الآن يرفضون نقد بعض سلبيات مسيرتهم الفقهية والثقافية، خصوصاً تلك الممارسات العنفية البدائية والشديدة القسوة التي حصلت خلال القرون الخمسة الأولى من مجيء الإسلام، ثم أيام الحكم العثماني، بما تضمنته من عنف وقسوة في الأحكام وأساليب تنفيذها وعدم احترام القانون وتفويض أنظمة الحكم المستبدة لولاتها ومندوبيها وموظفيها بأن يحكموا بحسب أهوائهم، حتى أصبحت ثقافة العنف أحياناً أمراً غير استثنائي، وما زال البعض يصر على تجاهل بعض أحداث التاريخ، ويعتبرها مجال فخر واعتزاز مهما كان مضمونها. ولعل هذا ما شجع ويشجع الحركات المتطرفة والإرهابية على القيام بممارسات شاذة وغريبة عن قيم عصرنا وتقاليده وقيم الإسلام، وجعلها تزعم أن هذا تيمن بأحداث التاريخ التي يعتبرونها متوائمة مع أصول الدين، سواء رضي بها الآخر أم لم يرضَ، وسواء أخذت باعتبارها قيم عصرنا أم لم تأخذ، وهم دائماً يقيسون الحاضر على الماضي من دون تبصر.
قبل أسابيع، ألقى أحد المثقفين محاضرة في مدينة الرياض من ضمن نشاطات معرض الكتاب الذي أقيم فيها، وتحدث في المحاضرة عن سماحة الإسلام وعدالته، وتوصل إلى إدانة ممارسات المنظمات الإرهابية ووحشيتها وعمليات الذبح وتقطيع الأوصال والحرق التي تقوم بها هذه المنظمات، والأحكام المماثلة التي تنفذها بالمتهمين، والمحاكمات غير العادلة التي تدين المشتبه بهم، واعتبرها خارجة عن تعاليم الإسلام وأصول الدين، كما اعتبرها أحكاماً جائرة. وفوجئ الجميع باحتجاج بعض المستمعين ممن في القاعة على نقد المحاضر لممارسات المنظمات الإرهابية واستنكارها وتأكيده أنها مخالِفة لصحيح الدين. وعبر المحتجون عن تأييدهم لجرائم الحركات الإرهابية واعتبروها شرعية وعادلة وتدخل في سياق تاريخنا، وحاولوا إيقاف المحاضر عن إتمام محاضرته، ثم رفعوا الآذان وعقدوا الصلاة على المنصة، منطلقين من قناعتهم بعدالة الممارسات الإرهابية شكلاً ومضموناً، وصحة تأييدهم حتى لعمليات القتل وتقطيع الأطراف والحرق. ومثل هذا الموقف هو في الواقع ليس بعيداً عما مورس في التاريخ العربي الإسلامي، ويبدو أنها ممارسات دخلت في أعماق ثقافة الناس، وأشيــر إلى أننا لا نملك الجرأة حتى الآن على نقدها كي لا نُتهم بالزندقة والكفر.
إن التاريخ العربي مليء بأخبار أحكام أُبرمت ونُفذت على فقهاء كبار وفلاسفة بالقتل أو الصلب أو تقطيع الأطراف، وصولاً إلى حرق هذه الأطراف أمام أعين من حلت بهم العقوبة قبل أن يفارقوا الحياة، مثل غيلان الدمشقي فقيه الشام والعالم الشهير الذي لم يشكُّ أحد بورعه وتدينه، ومع ذلك حُكم عليه بالقتل وقطع يديه ورجليه وهو حي ثم قطع لسانه لأنه استمر بنقد السلطة وهو بهذا الحال. وبمثل ذلك تقريبا عوقب سعيد بن جبير الفقيه المشهور، وتعرض لتقطيع الأوصال قبل إعدامه بالسيف. أما عبد الله بن المقفع مؤلف «كليلة ودمنة» و «الأدبين الكبير والصغير»، فقد قُطّعت أطرافه أيضاً وأحرق وهو حي، وقُتل الجعد بن درهم المفكر والفقيه المشهور يوم عيد الأضحى وتحت المنبر جهاراً نهاراً، حيث ناداه الوالي من بين المصلين وقال له أنا لم أقم بالتضحية بعد وقررت أن تكون أنت تضحيتي وقتله ذبحاً. وقد قتل أحد الحكام أحمدَ بن نصر الخزاعي بيديه ثم أمر أن يوضع رأسه على رمح أسبوعاً في شرق بغداد وآخر في غربها. وعوقب الحسين بن منصور الحلاج الزعيم الصوفي المشهور والفيلسوف الإسلامي الكبير بالصلب وتقطيع الأوصال والحرق ولم تُراعَ لا أهميته الفلسفية ولا العلمية ولا الدينية. ووقعت العقوبة على فقهاء كثر، وعلى العموم مورس العنف والذبح والعقوبات الشاذة في التاريخ العربي من دون تحفظ، وإذا كـــــانت هذه العقوبات وقعت على المفكرين والفلاسفة كما ذكرت، فكــيف كان حال أبناء الشعب أو العامة كما كانوا يُسمون؟
إن هذه أمثلة من تاريخ عربي مليء بأحكام عنيفة وقاسية لم تجد من ينقدها ويدينها لمصلحة ثقافة بعيدة عن العنف، ومتسامحة تعمق القناعة بضرورة المحاكمات العادلة وتنبذ العقوبات الهمجية. ولعل المهمة الأولى التي تقع الآن على رأس مهمات تجفيف منابع الإرهاب هي نقد هذه الممارسات في تاريخنا والإشارة إلى جوانب الخلل فيه تماماً كما نشير إلى نجاحاته وعظمته، وأن ننزع طابع القداسة عن تلك الممارسات التي ما زالت تلوث ثقافتنا حتى الآن. وعلينا أن نمتلك الشجاعة لنقد ثقافة العنف والممارسات العنيفة التي لم تعد الثقافة الإنسانية تتقبلها، خصوصاً أن التستر على ثقافة العنف والسكوت عن الخطأ وقبول تضليل الفقهاء والمؤرخين لنا والتعامي عن جوانب تاريخنا التي نخجل منها وتركها مع المسكوت عنه، هي أمور سلبية ستجبرنا على أن ندفع، جراء ذلك، ثمناً غالياً من حاضرنا ومستقبلنا.
إن ما تقوم به المنظمات المتطرفة يعتمد على ثقافة مشوهة لم تجد من يقومها، نشأت أجيال في ظلها وتشبعت بها، وبدأت ممارستها في إطار شروط خاصة أدى إليها تطور مجتمعاتنا العربية المعاصرة ونشطّتها الأنظمة القائمة في البلدان العربية البعيدة عن معايير الدولة الحديثة، والمصرة على ممارسة اللاعدالة والمحاباة والديكتاتورية والقمع والعنف، ما أوصل الأجيال الجديدة إلى حالة من اليأس المطلق، خصوصاً عندما تقارن هذه الأجيال تلقائياً بين حال مجتمعاتنا والظلم الذي تواجهه والفقر والظلم والبطالة والجهل التي يعيشها أبناؤها، وحال المجتمعات الأخرى التي كانت أقل تقدماً من مجتمعاتنا ذات يوم وكانت ثقافتها متواضعة قياساً إلى ثقافتنا. ولذلك كان رد هذه الأجيال التطرف وممارسة العنف. ولسوء الحظ استدعى بعض شبابنا العنف والمغامرة من ثقافة الطبقات الحاكمة في التاريخ السابق وجعلوها أسلوباً جديداً لمعالجة أحوالهم البائسة، وهم يعتقدون أنهم على حق أمام مجتمعات لا تأخذ حالهم بعين الاعتبار، وأمام ظلم خارجي ومحاولات هيمنة أجنبية لا جدال فيها، واقتنعوا أن عنفهم ومغامراتهم هي الطريق الصحيحة للخروج من أحوالهم السيئة والوصول إلى الخلاص المطلوب.
السفير