ثقافة الموت وثقافة الحياة في سورية/ مالك ونوس
فتح فوز مغنٍّ سوري في مسابقة للغناء، تقيمها قناة تلفزيونية فضائية، أواسط الشهر الماضي، باب النقاش حول جدوى استمرار حالة التجاذب في المجتمع السوري وآثارها ومفاعليها على المديين، القريب والبعيد. وبشأن استمرار حالة ترقب الآخر للانقضاض عليه، حين سنوح الفرصة، ونضوج الظروف والمعطيات المساعدة على ذلك. ظروف ومعطيات يضع أسسها كل طرف من الشارعين المتقابلين، والمنقسمين بين مؤيد ومعارض، على المقاس الذي يناسبه. ولا نتكلم، هنا، عن المشاركين في الصراع الحربي، فكثيرون ممن لم يحملوا السلاح، لا يقلون عن أولئك بنزعة نفي الآخر، مقدمة لنفي وجوده. وهي حالة ازدادت اتساعاً وطولاً، وتعلقت على مشاجبها كل ألوان الكراهية والحقد ورغبة القتل وإفناء الآخر. ولفتَ أن هذه التجاذبات لم تفعل شيئاً سوى زيادة الفرقة، يوماً بعد يوم، وما نتج عنها من إمعان في القتل والدمار، الذي لا يتوقف عن الانتشار مع كل نور يبزغ على الأرض السورية. حتى باتت هنالك ثقافتان تتصارعان في هذا المجتمع، هما ثقافة الحياة التي تضمحل شيئاً فشيئاً، لتحل محلها ثقافة الموت، المتحكمة بقوة، والتي لا تكف عن التغلغل بين فئات لم تعرفها قبلاً، ولم تكن تتخيل هي، أو يتخيل أخرون، أن تتلبسها هذه الثقافة يوماً.
مع بداية الحراك الشعبي في سورية، لوحظ تسارع في وتيرة التنابذ الطائفي، ما أسس لتجاذب واستقطاب مجتمعي، أفرز خطاباً غريباً عن التناول اليومي في الشارع السوري. فظهرت عبارة “أنتم ونحن” في هذا الخطاب، وبقيت مستخدمةً إلى أن حلت محلها في مرحلة تالية، تعمَّقَ فيها التجاذب، عبارة “هم ونحن”، لتدلل على ازدياد التباعد بين أبناء البلد الواحد، وعلى التشظي الطائفي الذي أخذ ينغل فيه. وقد لعبت قناة تلفزيونية سورية شبه رسمية، منذ البداية، دوراً قوياً في إذكاء هذا التنابذ، عبر إدراج أخباره واستغرابها اتساعه، في حين لم يكن بعدُ قد وجد طريقه إلى التداول والاستخدام بين الناس. فوجِدَت لغة جديدة للخطاب، سرعان ما تجلت في تباعد ونفور بين الناس، قبل أن تُكرّس تخندقاً ثم عسكرة، وصولاً إلى انقسام البلاد، جغرافياً ونفسياً، هذه الأيام.
لا شك أن واقعاً وممارسات، جرت خلال فترة السنوات العشر التي سبقت الحراك الشعبي في سورية، أجبرت بذور الكراهية على التبرعم ضمن أوساط واسعة من أبناء الشعب السوري. فقد كانت سيطرة فئة من المسؤولين والتجار السوريين على مقاليد الحياة الاقتصادية عاملاً في إفقار عامة الشعب. علاوة على أشكال الفساد المتنوعة التي بدا أصحابها ينظرون إلى المؤسسات الحكومية التي يستبيحونها على أنها قطعة جبن كبيرة، عليهم اقتطاع أكبر جزء منها، قبل أن يسبقهم أحد ما إلى ذلك. ولم يحاول أصحاب النعمة الجدد، أو الدائرون في فلكهم، مداراة أشكال نعيمهم عن أنظار المحرومين. فكانت أشكال البذخ والرفاهية صادمة للذين لا يجدون ما يسد رمق أبنائهم. ما ساعد في إحداث الكراهية تجاههم في نفوس المحرومين، بل في صناعتها، وهي التي أوجدت، بدورها، سدوداً للآفاق أمام نسبة واسعة من الناس. الكراهية التي بتكوينها نقيض لثقافة الحب والتسامح، بل الرافضة لأي شكل من التواصل، والطريق الأقصر لتبني ثقافة الموت، أصبح لها ما يشبه المنظومة التي لم يكن ينقصها سوى حملات القصف والقتل والتدمير والحصار والتجويع والتهجير لتغذيها وتكرسها.
وتأتي العبارات التي يستخدمها كل طرف، مشارك في الحرب الدائرة حالياً، لوصف ضحايا الطرف الأخر في معركة خاضها معه أخيراً، لتنسحب على نظرته لكل كائن بشري، من حيث استصغاره والنظر إليه نظرة دونية، وبالتالي، تبخيسه قيَمه الإنسانية وتجريده منها. وليبقى هذا التوصيف معششاً في لاوعي جمهور كل طرف، يستخدمها، ويلجأ إليها، حتى بعد انتهاء القتال وعودة الحياة الطبيعية. إذ تتطلب آثار أي صراع مشابه لهذا الصراع سنوات طويلة لكي تزول. فعبارات من قبيل “فطيسة” أو “تم الدعس” أو غيرها من عبارات يستخدمها كل طرف لتحقير ضحايا الآخر، يمكن أن تبقى عالقة، لتصبح جزءاً من عقلية مستخدميها ولاوعيهم. وسيبقى الطرفان ينظران وفقها إلى جميع المحيطين بهم، ما يسهِّل، في مرحلة لاحقة، استغلالهم وسرقتهم، بل وقتلهم لأدنى سبب.
قلة من الناس حاولت النأي بنفسها عن هذا التجاذب، محاولة إيصال ما تبقى من صوت العقل الذي تمثله إلى آذان الأخرين، لعله يجد مسمعاً، فتتغلب لغة العقل على لغة القتل، لمنعها من الإيغال أكثر فأكثر في نفوس الناس، وجذبها عدداً أكبر منهم، وتسخيرهم أمرها. وكانت هنالك أمثلة عن أصحاب ذلك الصوت، لكن كثيرين منهم لاقوا تهجمات ومضايقات، وحتى اعتقالاً وتصفيات. ومن بين هؤلاء جمعية أهلية للعناية بالتراث والآثار في إحدى المحافظات، كانت تقيم الندوات الأدبية والمحاضرات التخصصية. وحين عادت، بداية سنة 2012 بعد توقف مدة عام، لمزاولة نشاطها الثقافي، مصحوباً بنشاط إغاثي، لاقت تهجمات كثيرة، حتى من أوساط ثقافية، يقول لسان حالها ما نفع الثقافة في زمن القتل المجاني. لكن نقاشات مع هذه الأوساط جعلتها تقلع عن تلك النظرة، حين بيّنت لهم أن قدمهم أخذت تزلُّ بهم إلى قاع التسليم بثقافة الموت السائدة، من دون دراية منهم.
بعد حوالي نحو أربع سنوات على اندلاع الحرب في سورية، تأتي مناسبة فوز شاب سوري بمسابقة للغناء لتؤكد حجم هذا الاستقطاب في المجتمع السوري. فمجتمع رُفضت فيه كل رموز ثقافة الحياة من حرية وعدالة ومساواة وكرامة وحقوق، سيرفض، بالتأكيد، أي شكل للفرح، يخرج وسط هذا الحزن المزمن. وسيستمر الاحتفال فيه بالموت، وتنصيبه قدوة تجذب إلى شدقيه كل من تشبَّع بثقافة العدم، خلال هذه الفترة، ليجد الطريق الأسرع إلى الفناء، فناء لن تجهد نفسك، كي تدرك أنه يستحقه كل لاعن للحياة.
العربي الجديد