ثقافتنا القروية
درويش محمى
عقب احداث مارس ٢٠٠٤ المؤلمة، كثر الحديث عن ضرورة بناء مرجعية كردية جامعة، فتلك الاحداث الدامية لم تترك وراءها العشرات من القتلى وحسب، بل كشفت عن عورة الحركة السياسية الكردية السورية، وقصة معاناتها مع الجفاء الذي وصل لحد القطيعة بينها وبين الشارع الكردي، لكن الحديث عن المرجعية الكردية بقي مجرد حديث، والاحزاب الكردية بدورها بقيت على فجورها وفي عز خصوبتها، تمارس عهرها في التكاثر اللاشرعي.
حالة الاشمئزاز التي تجتاح الشارع الكردي اليوم تجاه “قياداته”، تعتبر ردة فعل اكثر من عادية، فالشقاق والتشرذم الحاصل في الحراك السياسي الكردي، اذا تم هضمه وتقبله على مضض في العهد الماضي، عهد محمد منصورة “ابو جاسم”، لا يمكن تقبله اليوم والناس تحزم حقائبها للهرب الى المجهول، وهي في حيرة من امرها، تخشى على أعراضها وأملاكها وأرواحها.
كلما التقيت او اتصلت باحدهم هذه الايام، وكلما تبادلت أطراف الحديث مع احدهم، لا يكون الكلام الا عن القيادات الكردية السورية، نفاقها وسطحيتها، تخاذلها وانانيتها، جهلها وقصر نظرها، ضعفها وعدم جدارتها، والكلام عينه نجده على شبكة التواصل الاجتماعي “الفيسبوك”، الجميع ينتقد القيادات الكردية، والكل غير راض عن ادائها، وقد وصل الامر ببعضهم للاقدام على شتمها، الا ان اكثر ما شد انتباهي كان حديث احد الناشطين الكرد السوريين، وهو يفضفض عن دواخل نفسه كاتبا، ان “الحراك الكردي السوري يمر بأزمة خطيرة من ابرز سماتها، التفرقة والتشرذم، ولا تقتصر هذه الحالة على الاحزاب فقط، بل تشمل كل الشرائح بكل مستوياتها، من مثقفين وكتاب وفنانين وحتى الحراك الشبابي، والسبب بطبيعة الحال، النفاق والانانية”.
اعتبار حالة التشرذم والاختلاف في الوسط الكردي ظاهرة عامة، والانانية والنفاق احد اهم اسبابها، موقف اشاطر الناشط الكردي فيه وابصم له بالعشرة، فقط أصاب “الكاكا” الحقيقة في كبدها، ولم يكتفي باللوم واللطم والشتم كباقي اقرانه، لكنه لم يضع يده على الجرح، كل الجرح، فتفشي الانانية والنفاق في الوسط السياسي والثقافي الكردي، ليس بالامر العارض الممكن تداويه ومعالجته، بل هو تحصيل حاصل ونتيجة طبيعية لازمة بنيوية اجتماعية اكثر تعقيدا وخطورة، الانانية والنفاق هي مجرد عارض مرضي لأفة فتاكة تسمى “الثقافة القروية”، تتمركز في الجينات الوراثية للسياسي والمثقف الكردي السوري، مرض خطير يفتك بصاحبه والمقربين منه، من اهم اعراضه، حالة اللهاث الدائم وراء المنصب والمركز وحب الظهور، الدوخة القوية التي تؤثر على المخ والمخيخ فلا يعد المصاب يميز بين الخطأ والصواب، الغثيان المستمر الذي يجعل من المريض في حالة من “الخربطة” واللاوعي فيخلط بين رغباته ومصالحه وبين رغبات الناس ومصالحها، الم قوي في الرأس يفقد المريض توازنه والبقية الباقية من عقله، فيتوهم انه شخص غير عادي ومتميز ومسؤول كبير.
القيادي الكردي السوري، كالمثقف والطبيب والكاتب والمهندس والمحامي والتاجر والفلاح والبيتزجي والصانع، عرفت جميعهم عن قرب، الكل يعاني من القيم القروية وثقافتها التعيسة، والجميع من دون استثناء يعتبر سلطان زمانه والافضل بين أخواته واخوانه، والكل يفضل انتماءه الاسري والى حد ما انتماءه الابوي القبلي على انتمائه القومي، ويفكر على طريقة جده السادس او السابع، اما عن خصوصيات ثقافتنا القروية والتي يعاني منها الجميع، فحدث ولا حرج، نحن لا نثق لا بالغريب ولا بالقريب، نتصارع بحدة متناهية فيما بيننا، وكان حدود العالم لا امتداد لها ابعد من تخوم بيوتنا الطينية، وابن العم لا نزال نفضله على ابن الخال، والشرف خزلناه في الناموس بين خفايا جسد أمرأة تابعة من “الحرملك”، ولا نحب لجارنا المحصول الوفير ولانفسنا نريد كل شيئ، وفي العلن نبتسم ونمدح وفي السر نلعن ونذم، نتظاهر بالمدنية والتقدم وفي الباطن نحن كتلة من الجهل والتخلف، وكلنا ديكة ابناء ديكة، نجيد السياسة والفلسفة وعلوم الفقه وعلوم الفلك والاقتصاد والشعر والرياضيات وحتى غزو الفضاء، انها الاخلاق القروية التي لا تزال تجري في عروقنا الميتة.
رغم مضي ما يقارب القرن من الزمن على انتقالنا لسهول الجزيرة الخضراء، لا يزال الجبل وقساوته يفعل فعله في نفوسنا وعقولنا، ورغم كل ما تجرعناه من ظلم واضطهاد وتمييز بسبب هويتنا الجمعية ككرد، لا نزال نعتز ببطولاتنا الفردية من الزمن الغابر.
اكثر ما اخشاه في هذه الايام العصيبة، ان يستكردنا الاخر “عل اخر”، ونحن في ضياع بين عصر واخر، وما على الرسول الا البلاغ.